سأقول للعالم بأننا هنا !!!.. تحية لأطفال غزة – (قصة قصيرة)
-
- همس جديد
- مشاركات: 8
- اشترك في: 02-08-2007 02:48 AM
- مكان: لبنان
سأقول للعالم بأننا هنا !!!.. تحية لأطفال غزة – (قصة قصيرة)
سـأقـول لـلـعـالـم بـأنـنــا هـنــا !!!.. – (قصة قصيرة)
( تحية لأطفال غزة العُزّل إلا من الدمع و إرادة الحياة )
الطقس شديد البرودة. الشتاء في أوجه والصقيع حطّ رحاله بيننا. كانون هنا... أتى حاملا معه البرد والمطر والرياح. كانون هنا بظلمة سمائه ورهبة ليله وتكدّس سحابه وتلاطم أمواجه وصمت أطفاله. لا ماء لدينا، لا كهرباء ولا وسيلة للتدقئة سوى الأنفاس. كل شيء ينمّ عن قسوة الحصار المفروض على هذه الأرض. حتى العصافير هاجرت لضحالة سمائها. كل الناس هنا قابعون بانتظار الفرج وما من بشائر تنبئ بفكّ الحصار. لا مواد غذائيّة تدخل، لا طحين، لا قوت، لا وقود لا... ولا حتى مواد طبّية للإسعافات الأُوّليّة يُسمَحُ لها بالعبور.
كانون هنا... لا يُسمَع في هذا الليل البهيم سوى صفير الرياح الآتية من البعيد مُحَمّلة برائحة الموت والدمار، والوحشة الساكنة بيننا تربض معنا وترصد كلّ حركة في هذه الأنحاء.
كانون هنا وبحره الهائج لا يهدأ، يُقَلِّب أمواج الصقيع دفعات دفعات، تماما كما تُقَلّب السماء دفعات قنابلها فوق رؤوسنا. وهذا الهدير الآتي من فوق لا يكنّ، وكأنّه ينخر أجسادنا كما ينخر الصقيع عظامنا. دوي الانفجارات يصمّ الآذان، تردادها يتلاعب بطبلة الأذن، فتتمزّق وتتجاوز الأوجاع صدى الصراخ. تعلو أصوات المدافع صخبا وضجيجا وتخفتُ فجأة مُخَلِّفة وراءها في هوّة الأرواح سكونًا هائلا مجبولا بالألم.
أجلسُ بلا حراك خشية استقطاب إحدى القنابل، والحقيقة أنّ الخوف هو من يمنعني من التنفّس. أجواء الرعب تسيطر على المكان، ووالدتي لا تنفك عن الحمد والشكر والصلاة، وأنا وأختي وأولاد عمي سالم نقبع سويا قرب الكبار في ركن حُدّد بأنه آمن للجميع. يرافق الهلع نظراتنا الحائرة ولا أحد منا يفهم ماذا يجري. ينهرني أبي بألا أخاف كلّما اقترب فيها الهدير الآتي من الأعالي، لكن هيهات... وكيف لي ألا أفعل؟ ففي كلّ مرّة يفترب منّا هذا الهدير تتتالى فوق رؤوسما الانفجارات! وكأنّما السماء قد شُقّت لتبتلع في جوف فراغها كل هذه الأرض الغبراء. أبي يقول بأنّ الطائرات النفاثة هي التي تقذفنا بالقنابل، وبأن من يقودونها يصلونا بنيرانها. تساءلت في سرّي ألا يعلم هؤلاء بأنهم يقذفوننا نحن البشر بوابل نيرانهم؟ ألا يدركون بأن قنابلهم تصل إلينا تحن، عائلات مختبئة، نساء وعُجّز وأطفال عُزّل إلا من الدمع وإرادة الحياة؟ أم أنّ قنابلهم ضلّت الطريق لتستقرّ بيننا؟ رحت ألعن حظي البائس الذي أولدني في هذه الأرض الحمراء، الملوّنة بالدم والنار، وكأنّما السماء قد تخلّت عنها! لكن أبي يقول بأنها رحبة وفيها إله يرى ويحتسب ويستجيب... يقول ذلك رغم كل ما يحصل لنا! أأصدّقه؟ وكيف لي أن أفعل والقنابل تنهال علينا بجنون لا يرحم، والدمار يحيط بنا، وأسطح المنازل تنهار فوق رؤوسنا؟ وددت لو أن وقت الحساب يقترب كي أنتهي من خوف الروح الماثل في الفكر. أبي يقول بألا أستعجل الأمر، فربّ البشر يمهل ولا يهمل. أيا أب البشر لماذا هذا الجنون؟ صرخت في أعماقي وما خرج الصوت مني خوفا من إثارة غضب كانون.
مات الصوت في الحنجرة، وعاد الصمت يلفّ الآنحاء، فقام والدي إلى النافذة يلقي نظرة خاطفة بعد أن أمرنا بعدم الحراك والمكوث في أماكننا. عاد الصمت مجددا ينهش فينا الأنفاس، نَقضُم الخوف بأسناننا ونُقطّع الهواجس بأطراف أعيننا المشتتة. عاد الصمت يلقي بثقله والليل لا يزال في بداياته ويحتوينا بظلامه، ورؤوسنا المختبئة تحت سفق بيتنا تتقارب من بعضها بحثا عن ملاذ، أو أقلّه تلمُّسًا لشجاعةٍ ما في أحدنا. هذه الطريقة أشار بها علينا والدي منذ بداية القصف. يبدو أنها طريقة جيّدة لننسى بسرعة صخب الدوي وصداه، لكنني ما وجدتها فعّالة. فهذا الخوف الساكن في أوصالي ينهش أضلعي. أشعر بترداد وتيرته بشكل جنوني وفعّال. يصل من أطراف الأنامل إلى قلبي ويعيث فيه الرعب ليتخبّط بنبضات الهلع كلّما سَمِعتُ دوي انفجار. وفي كل مرّة تصمت فيه المدافع وتتوقّف الانفجارات يقوم والدي بشكل رتيب ليلقي نظرته الخاطفة من النافذة ويعود إلينا مكفهرّ الوجه وكأنه رأى ما يريع ويحزن. وفي المرّة الثالثة سمعته يسرّ في أذن والدتي كلمات قليلة لتغرورق عيناها بالدموع، وما أن تراني حتى تختبئ خلف صمتها مريب، مطلقة حشجرة صمّاء بالكاد اُسمَع. بعدها، ولا أدري لماذا، يطلب منها أبي مسح الدمع مشيرا إلينا بطرف عينيه. حتى هو دفع بين أنامله بدمعة هاربة محاولا إخفاءها عني، لكنني رأينه يفعل وهالني أن صلابته الظاهرة قد اهتزّت، وهي تخفي مثلي توجّسا عميقًا مصدره الخوف وربّما أشدّ. خوفي من الإنفجارات وصداها المريع، وخوفه عليّ من أيّ أذى. ويعود الهدير يُؤذِن بقُرب دوي الانفجارات، ونعود لنتقوقع مجدّدًا في تفس المكان وفي أحضان الكبار. أغرق في حضن والدي الحصين، ولا أدري كم يتّسِع لأمثتانا نحن الصغار. وبينما تتوالى، رغمًا عنا، صرخات الرعب في كل مرةّ تتمزّق فيها آذاننا، ألوذ مجددا إلى حضنه، قناعةً مني بأنه أكثر أمانا من سفق منزلنا الهشّ.
خُيّل لي في وقت من الأوقات بأن المنزل يهتزّ ويميد بنا. والدي يصرخ بنا ويهيب بالصمت وما من أحد يسمع. مسكين أبي ليس له القدرة على إسكاتنا، ولو أنه تمكن من إيقاف دوي القنابل وأصوات المدافع بصداها المقيت، لكان أجدى! مسكين أبي وهو يحاول طمأنتنا بأن كل شيء سينتهي بسرعة وما من يصدّقه. لا بل كنت أشعر به وكأنه يخنقني من شدّة التمسّك بي وضمّي إلى صدره بقوة غريبة ما عهدتها منه قط. كما أنني ما عهدت يداه ترتجفان بهذه الوتيرة من قبل. إنها الفوضى العارمة، صراخ وعويل وشهيق، وكلّ واحد منا لا يفكر إلا بنفسه ويحاول إبعاد الأوجاع المتمسكة به، وخلع الرعب القابض على روحه، وإخماد النار الحارقة الخارجة منه. إنها لحظات قليلة جعلت مِنْ هذا المكان كتلة من نار. نعم... خُيِّل لي بأن البيت يميد بنا ويهتز بقوة جعلتني أشعر وكأن أمعائي تغادر مغدتي. ما هذا يا رب؟ أهكذا تكون الحرب؟ أهكذا يموت الناس؟ أين أنت يا إله الكون؟ صرختُ رعبا ووجعًا وكنت أتقيأ دون أن يخرج من فمي شيئا! صرخَتْ والدتي وقفَزَتْ فوقنا وكأنّها جنّت للتو. علا الصراخ طويلا، بعدها خيّم الصمت المقيت. هي دقائق، فد تكون ثوانٍ قليلة، لا أدري، إنما كل شيء عاد من جنونه ليحيط بنا سكون مخيف أشبه بسكون القبور بعد أن حل بنا الرعب وسكن في قلوبنا.
لا أدري ماذا حصل، لكنني أحسستُ بيدَيْ والدي تهزّانني وسمعته يصرخ بي: دلال... دلال... أتسمعينني؟ ردي عليّ بنيتي بالله عليك تنفسي. وما هي إلا لحظات حتى وجد النفَس طريقه إليّ وبدأ يسري في صدري. سَرَتْ الحياة مجددا في جسدي وما سَرَتْ الدموع في عيني! تنفّس والدي الصعداء لمّا رآني أعود إلى رشدي. نظرتُ حولي وما كنت أدري ماذا حصل. ما كنت أستوعب ما حلّ بنا. كلّ شيء في هذا البيت قد تغيّر، الأثاث والأسِرّة والأغراض قد أزيحة، وكأنها بقدرة قادر قدير قد طارت لتحطّ فوق بعضها البعض ككومة من حديد ملتوي وكخشب مشلّع رمي في المكان. نطلّعت إلى والدي فرأيته مسمّرا ينظر وعيناه قد جحظتا وتجمّدتا وكأنه سُحِر وما من يُخرجه من حالته تلك. تظرتُ حيث يلقي بعينيه فرأيت... آه ما هذا؟ هذه يدٌ مبتورة تبحث عن ساعد أو جسد، وهذا ذراع مرمي هناك على طرف الحائط الملوث بالدماء. وهذه أعين هاربة من أوجهها تنظر في الفراغ. وهذا ثغر يبتسم ولا يدري لمن، وكأن عطشه للحياة لم يرتوِ بعد. آآآه متى حصل هذا؟ ولماذا؟ من تسبّب بهذا الخراب، ومن المسؤول عنه؟ أسئلة طرأت فورا على الذهن وما وجدتُ لها أيّة إجابة. إنّها الطائرة الحربيّة اللعينة، سمعتُ والدي يقولها وينتفض بغضب وكأنّه يجيب على تساؤلاتي. لكن لمن هذه الأشلاء؟ آه... والدتي أين أنتِ؟ أنا بحاجة لألوذ بين أحضانك، ففي قلبي يسكن الرعب. استدرت وهمهمة أنين تتعالى ببطء في مسمعي. وكأنّ الصوت لا يأتيني، أو أنّه لم يعد يعنيني! وضعت إصبعي على أذني اليمنى، فأحسستُ بسائلٍ لزجٍ يسيل منها. نظرت ووجدت أن أصابعي قد ضُمِّخت بالدماء، فكاد أن يُغمى عليّ. استدرتُ مشدّدةً من روعي وعزيمتي، وتابعتُ بحثي عن أمي، متسائلة ماذا حلَّ بها وأين انتهت... إنها هنا... يا للهول! هذا جسدها مرميا بقربي، ورأسها المتدحرج موجود هناك بقرب والدي وقد غطاه الدم والشعر والتراب والجراح ولا يزال ينتفض بعنف! كأنه يحاول الصراخ، أو ربما إلقاء السلام علينا. غريب رأس والدتي، اسْوَدّ فجأة وتحوّل إلى شبه كرة مشوّهة مشويّة بالحرائق. رغم ذلك رأيتها تبتسم! أو على الأقل هذا ما خُيّل إليّ. لا تزال ترمي نظراتها الحنونة عليّ، وكأنها تطمئنني بأنها معي وبألا أخاف. عندها فقط سمعتُ صوت والدي المجروح وهو يصرخ معاندا، هادرا بقوّة الرعد، رافضا لما جرى وملؤه الحزن والأسف والغضب. تطلّعْتُ إليه والدم يشلي من كتفه والجراح قد تآكلته، ووجهه يتوهّج احمرارا وكأنه يحترق وهو يغالب الأوجاع بصمت، حينها أدركت أن السماء قد أمطرتنا بقذائفها، فسقطت إحداها في منزلنا. إنها طائرة نفاثة من طائرات العدو يُصِرّ والدي، لكنني ما رأيتُها لحظة الانفجار... لا! ولا شاهدْنُها عن قرب تقذف بحممها تلك السافلة، الساقطة. ولو نسنّى لي رؤيتها عن كثب لرجمتها بالحجارة ولأسقطها في بقعة من أوحال المخيّم، تماما كما كنا نفعل أنا وأولاد عمي حين نلعب سويا في ليالي الشتاء الماطرة. أولاد عمي... أين هم؟ منذ لحظات كانوا هنا يولولون ويتنادون ويصرخون من شدّة الأوجاع مثلي. صمتوا جميعا وكأنهم تبخروا. في هذه الغرفة ما من أحد يتنفّس سواي! والدي انهار بعد أن انتشلني من غيبوبتي وللمرّة الأولى سمعته يندب حظّه السيئ. لكنها مجرّد لحظة عابرة، قام بعدها والدم قد ملأ ثيابه ليلتقطني بين يديه قائلا بأن علينا الخروج بسرعة من هذا المكان الموبوء.
خرج والدي من المنزل وأنا ابنة السابعة على ذراعه، أحسّ بها ترتجف، لكنها تعطيني نفحة إيمان وأمل. غريب هذا الشعور بالأمان بعد كل ما حصل. وكأن هدير الطائرات ما عاد مسموعا كما من قبل. وكأن الصوت يأتيني عبر شبكة كثيفة من الترددات العشوائية. وكأن الأذن فد خُدّرتْ أو استقالت من وظيفتها، أو أن الأمر ما عاد يعنيني. والأكيد أنني لم أعد أرتعب من هدير الأعالي، لا... ولا من دويّ الانفجارات. نعم... لم أعد أهاب هدير الطائرات وقد خبرْتُ نتائجها الوحشيّة المقيتة. لا... لن أهاب شيئا بعد الآن... قلت ذلك لأبي!
حرج أبي إلى الزقاق ويا للعجب! كل شيء في منزلنا قد تطاير إلى الخارج أو بقي كرمّة قمامة بجانب الحائط الملوث بدم من كان في الداخل، حيث اختلط فيها الدم والوجع والجراح والحرائق. اختلطت الأشلاء بالأثاث، بتراب سقف المنزل، بالرعب الصامت، وبنيرانٍ لا أدري من اين أتت ولا كيف اشتعلت. أغراض منزلنا منتشرة في كل مكان. هذا مقعد والدي، وهذا سرير أختي سلمى، تجثو دميتها المفضلة فوقه. لقد صنعتها من القشّ اليابس لتدور بها فخورة قرحة. أما هي... سلمى، فقد تبخّرتْ ولم أعد أعرف عنها شيئا. حتى أبي رفض الرد على سؤالي. هذه جدتي ملقاة هناك على جانب الرصيف وقد خرجَتْ في المساء الباكر بحثا عن رغيف لنا ولم تعد. رأسها مثقوب وتجمّد الدم من حوله. هذا ابن عمي سعيد... لا بل هذه يده وفد عرفتها من كثرة ما كنا نتشابك. ذراعه المشطور معلّق بجسده، وهو لا يزال ينبض وإن ببطء. لم يتكلّم رغم نوبات صياحي الهستيريّة وتوسّلاتي إليه بالرد. هذا إبريق يتدحرج على طرف الطريق، لا بل إنه رأس أحدهم وقد أضاعه حتما. ما تمكّنْتُ من التعرّف على صاحبه رغم مرورنا بالقرب منه. هذه رِجْل منسيّة، نركها صاحبها تُهَرْوِل بمفردها وجرى خوفًا من شبح الموت القادم إليه. لكنها... نعم إنها رِجْل عمي سالم! لا بل هي رِجْله بالتأكيد، فأنا أعرف لون حذائه وهو يرميه علينا غضبًا من ألاعيبنا وشيطناتنا ومشاكساتنا. يظهر ان الموت قد أدركه بشظيّة... قالها الوالد وهو يجري بي بعيدًا عن تلك المناظر المرعبة.
خرج بي والدي مسرعا، لا بل مهرولا قاصدا المستشفى عله يصلها ويبلغهم عن مكان تواجد عائلتنا، فيُنقَذ ما أمكن منهم. لكن هيهات يفعل وأنا قد رأيتهم جميعا يحتضرون.
خرج بي والدي والتساؤلات تُمَزّق الفكر وتهوي عليه كدوي القذائف في الأذن. من يقوم بكل هذه البشاعة والحقارة؟ من يُسَيّر الدبابات؟ من يقود الطائرات؟ من يقصف بشكل ممنهج المخيم؟ ومن يرسل الموت المبرمج إلى المنازل والأحياء؟ من؟ من يقتل بهذا الشكل الهمجي والوحشي؟ نعم... من يقوم بالمجازر ويقتل العُجّز والنساء والأطفال؟ أبي يقول أنهم جيوش العدو وقادته الجبناء الذين يختبئون وراء دبّاباتهم وطائراتهم. سألته من هم هؤلاء؟ أجاب: إنهم المؤتزقة الذين احتلوا أرضنا وطردوا وشتتوا شعبنا في كلّ أنحاء المعمورة. قالها وأردف: كان ذلك في الثمانية والأربعين من القرن الفائت. سألته: ومن سمح بذلك؟ فصمَتْ! صمته هذا لم يشفِ غليلي، ولا أدري لماذا أحسست به يجالد ويخادع الدمع الذي انهمر فجأة ولم يحاول إخفاءه عني.
جرى والدي وأنا على كتفه، والتساؤلات في أعماق النفس تتآكلني. لماذا صَمَتَ والدي ولم يُجِبْ على سؤالي؟ لماذا هذا الحقد المصبوب من طائرات العدو على الأطفال؟ ربما لأنّهم أمل الغد ورجال المستقبل. ربما هم من سيبنون الوطن بسواعدهم ويحافظون عليه وعلى الإنسان فيه، كما يردّد أبي على مسمعي. الأطفال هم حياة هذه الأرض وقوّتها، هم حاضرها ومستقبلها وأملها، فنحن قد مالت شمسنا نحو المغيب. هم مقاتلينا الذين سيحرّرون الأرض والشعب... هم أملنا المتجدّد ما دام الاحتلال جاسما فوق رؤوسنا. هذا قَوْلُ والدي لي في أيّام الشتاء الباردة. سألته بسذاجتي المعهودة: ولماذا لا تحرّرون أنتم الأرض الآن؟ أجاب والدمع في عينيه: ليس الأمر سهلا ومطواعا، ولا بمسألة حسابيّة كما تظنين يا دلال، فالأمر يلزمه صبر وطول باع ومرونة وشدة بأس وانتظار. أتعلمين لماذا أسميتك دلال؟ أجبته بالنفي. قال: إن شابة من شعبنا اسمها دلال قد حاربت وجابهت جنود الاحتلال بشجاعة نادرة تفوق بعض الرجال من ضعفاء النفوس وأبلت بلاء حسنا. لقد قاومتهم وكبّدتهم الخسائر الفادحة وأثبتت أن نساؤنا أشرس في الدفاع عن الوطن من بعض المتقاعسين. عزيمتهن لا تلين ولا تهادنّ، مثلهنّ مثل أفضل الرجال. لذا أسميتك تيمنا بها، فهي خير مثال. قلت في نفسي، مطرقة، واعدة، متوعّدة، بأنني سأكون مثل تلك "الدلال"، قويّة صلبة، بلا خوف ولا رهبة، وسيبقى القلب بمنئ غنهما، ولن يخذلني بعد اليوم. سأحطّم الرعب على أذرعة السفاحين وأشعل موانئ الغضب المُحمّل برياحين الأمل الواعد. غدا سأرفع راية الحرية، وسترفرف بيارق النصر في كل مكان. سأرمي االجهل على قارعة الماضي، ولن يكون هناك قتل ولا دمار، وسيعود التلامذة إلى مدارسهم وسيهتمّ كلٌّ بعمله، وستزهر أقحوانة السلام. أه كم سنلعب ونلهو نحن الأطفال! سـألت والدي فجأة... لماذا هؤلاء الغزاة لا يرحلون عن أرضنا ويتركوننا وشأننا؟ إنه الحقد والطمع بالثروات والمياه... إنها العنصرية والبغضاء يا بنيتي. فهم لم يكتفوا باحتلال أرضنا وحسب، إنما يحاولون السيطرة على أراضي كثيرة ليست لهم واجتثاث أناسها منها، تماما كما فعلوا فينا. هذا ما جرى منذ عامين عندما أرادوا العودة لاحتلال الجنوب وما أفلحوا. لكنهم أغبياء! لم يدركوا بعد بأن التاريخ يعيد نفسه مرارا وتكرارا حتى لو بعد ألف عام، وكما هزموا هناك، سيهزمون أيضا هنا على أيدي مقاتلينا. يقول أبي أن هؤلاء الأوغاد لم يتعلموا من هزيمتهم في تموز على يد المقاومة... ما اتعظوا ولا استخلصوا العبر وما تعلموا بأن المقاومة تستمدّ قوّتها من شعبها... ما تعلموا بأن المقاومة لا تهزم وبأن إرادة الشعوب لا تقهر! وهل إرادة شعبنا قويّة... سألتُ. بالتأكيد يا ابنتي، وإلا لما رأيتِ هذا العنف المسترسل من قبل آلتِهم العسكريّة. وكلما اشتد عنفهم علينا كلما اشتدت سواعد مقاتلينا وإرادتهم في التحرير والنصر والعمران.
وصل والدي إلى المستشفى، فوضعني المسعف على الحمال وأدخلني غرفة العمليات، رحتُ أحلم ومنظر الخراب الذي خلّفه الانفجار لا يزال يراودني، وكأنني أراه وأعيشه للتو. لكنني بتّ مصممة أن أكون مثل دلال... قوية وصاحبة عزيمة لا تقهر. قلت في قرارة نفسي وأنا أبتسم: سأصمد رغم تلك المناظر الوحشية البشعة التي رأيتها ورغم الأحداث الفظيعة التي عشتها. مناظر لن أنساها مدى الحياة، فيها الموت لا يُشبِع نهمه من أبنائنا، رضّع نسوة وعجزة. فيها الأوجاع نغالي صلافة ولا تهدأ من النيل من أجسادنا. مناظر بربرية تضاهي بعنفها مجازر تموز... كما يقول والدي، مع الفارق بأننا نحن الآن أصحاب الحدث وضحايا المجازر. وبالرغم من كل هذا الجتون الشيطاني سأعيش لأشهد على ما رأيت. سأعيش وأحيا لأقول للعالم بأننا صامدون... صامدون رغم فجاعة الموت وويلات الحرب وفداخة المصيبة وقسوة الدمار وآلة القتل المرعبة. سأقول للعالم بأن هذه الوحشية التي لم تضاهيها وحشية في التاريخ لا يمكن لها أن تستمرّ، لأنها نقيض الحياة والحرّية والإنسان. ومن يكون كذلك لا يمكن له أن يتقدّم ويجاري التطور ويكشي في ركب الحضارة. نعم لا يمكن له أن يستمرّ لأنه يجري بعكس عقارب التاريخ، وهو يهرول حتما إلى نهايته المشؤومة. سأقول للعالم بأننا لن نستسلم ولن تُثنى عزيمتنا في مواجهة الرعب والخوف والدبابات والقنابل وطائرات الموت، لآ... لن ننثني وسنواجههم بالإرادة الصلبة والحجارة وسواعد الرجال والنساء وتصميم مقاتلينا الأبطال. سأقول للعالم بأن الحرية غالية ومقدسة مهما كان الثمن، ومهما فُقِد من أرواح، ومهما قطّعوا من شجر ومهما هدّوا منازل ودمّروا من حجر. سأقول للعالم بأن الأرض لنا مهما طال زمن الاحتلال والغدر، ومهما داس الأعداء ترابنا أو وجهوا بنادقهم إلى صدورنا. سأقول للعالم بأننا هنا وإنْ تضافر ضدنا. نعم... إننا هنا في كانون نموت وزغاريد النساء تهلّل للشهداء ولأجساد الأطفال، لنعود ونحيا بسواعد مقاتلينا. نعم سأقول للعالم بأن الحق أقوى... بأن الحق أقوى... بأن الحق أقوى...
د. سليم صابر
إيطاليا 6 – 01 – 2009
لا زلت أبحث عن قبس...
في مكان ما كون من ألم
وجراح...
ومعاناة...
وفرح!
في مكان ما كون من ألم
وجراح...
ومعاناة...
وفرح!
أخي الكريم د سليم صابر
شكرا على الاحساس المنثور هنا ادبا
((( سـتـبـقـى رُبـَا الـرشــفِ ..
عـيـنَ الـقـصـيـدِ و رَيَّ ظـمَـاهْ
و بـوّابـةَ الـبـَوحِ ..
بـُوصَـلـَة َالـشـعـرِ إذ مـا تـعـثــّرَ وهـْـنـاً و تـاهْ
و مُـتـّكـَأ الـحـزنِ .. حـارَ عـلى شــفـةٍ بـيـنَ حـرفٍ و آهْ
سـيـبـقـى لـنـا فـصـلَ درسِ الـقـريـضِ ، يـردّ لـذاكـرةِ الـيـأسِ هـمـسَ الـبـحـورِ ..
و عـزفَ الـقـوافـي ..
و رجـعَ صـدَاهْ ! )))
قـنـديـل الـذكـرى ..
صــمـت أمـّي ..
تـرنـيـمـة طـفـل عـراقـيّ ..
ركــنٌ .. لــي ..
جــديـلـة ..
-
- همس جديد
- مشاركات: 8
- اشترك في: 02-08-2007 02:48 AM
- مكان: لبنان
الموجودون الآن
المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 19 زائراً