رحلة من الجنوب إلى الجنوب (قصة قصيرة)

النثر - الخواطر - القصة

المشرفون: مجدي، امل محمد

د.سليم صابر
همس جديد
مشاركات: 8
اشترك في: 02-08-2007 02:48 AM
مكان: لبنان

رحلة من الجنوب إلى الجنوب (قصة قصيرة)

مشاركةبواسطة د.سليم صابر » 02-11-2007 10:53 PM

[align=right]رحلة من الجنوب إلى الجنوب (قصة قصيرة)


(إلى الأطفال الأبرياء الذين قتلوا ضحية المجازر الإسرائيلية)




سكن الليل، وهدأةُ الصمت تناور ساعات ظلمة لا تمرّ. تلملم رياح الشرق أنفاسها الأخيرة قبل بزوغ الفجر. والشفق البعيد لا يمرّ. كلّ شيء هنا تغيّر، كلّ نسمة هواء عابرة تلتهب سخونة وكأنها آتية من جحيم الأرض. حتى الناس تغيّروا هم أيضا. ركن الظل، ظل الخوف يبيت في الأرواح، ولا تكترث الأعين لمناظر الدمار المنتشر في الأرجاء. خيّم الرعب، هذا الغائب الحاضر دوما، يُذَكِّر كلّ حي متحرّك بأنه عرضة للفناء. ويمرّ الوقت... يمرّ ولا يمرّ. والآذان الصاغية ترقب حدثا ما. تتلوّن الذاكرة بالمآسي، فتعود الأنفاس المتلاحقة تتسارع مجددا، استلحاقا لما كان من هلع ولما عاشته من لحظات تأرجحت فيها النفْس ما بين الحياة والموت.
سكينة الوقت تؤازر الحيرة، وترصد الأعين كل حركة، والتردد سيّد الموقف. لا أحد يدري متى تعاود السماء أمطارها، ويُخيَّل للمرء أنه يعيش كابوسا لا ينتهي، تهطل فيه القذائف بغزارة وتسبح فيه الطرقات بدل الماء بالدماء. حمم تموز الحارقة لا وقت لها ولا سحاب. أوَليس غريبا أن تشتعل الأرض وتنقلب وقت يستفيق الأفق من ثباته على هدير طائرات تجول السماء خيلاء؟ لحظتها يخيل للجميع بأن السماء أقرب من قبضة اليد!
رذاذ الصيف يختلف عنه في الشتاء. هذا ما قيل لي. لا أدري من أُصَدّق... فالكل هنا يكذب! عيونهم كاذبة، لا تدعك تستخلص ما تُعَبِّر عنه أفكارهم. نظراتهم كاذبة، يسيطر عليها الخوف ويكابرون. خطواتهم كاذبة، لا تنم عن ثبات أرجلهم المتهاوية. بسماتهم الصفراوية كاذبة، تبين على وجوههم الواجمة بشكل متصنّع. حركاتهم كاذبة، ليس لها أي هدف يذكر، وكأنهم لا يدرون ما يفعلون. كلماتهم كاذبة، يقولونها بلا اقتناع ولا تُفهم معانيها، وكأنهم يريدون إقناع النفس بصحتها. الكل في ترقّب ووجوم، والرعب المسيطر يجعل السهاد شريكنا، فننظر إلى بعضنا البعض ولا نغفو.
اشتقت النوم لبرهة، وإنما الريح القادمة برائحة البارود لتذكرني بما كان منعتني قسرا من إغماض الجفن. رحت أتقلّب على إسفنج مدّ لي على أرض الغرفة، كما فعل الآخرون. نظرت إلى السقف الخاوي أحاول استشفاف الأمان. قيل لي بأنه متين وصلب ولا مجال لاختراقه مهما اشتد القصف. تساءلت، والعين حريصة على معرفة الجواب، ماذا لو أن القذائف أتت لتنام بالقرب منا! لم أقتنع لما قالوه لي، ففي خبرتي الطويلة طوال الأيام الماضية رأيت منازل كثيرة سويت بالأرض وكأنها مجرد غبار. أقله هذا السقف التعيس لا يمنع هدير الطائرات، فأنى له أن يمنع القذائف من أن تحط ها هنا؟ لكننا في الطابق السفلي، وقبل أن تصل القذائف إلينا عليها أن تخترق عدة طوابق وهذا الأمر يجعل المكان أكثر أمانا. هذا ما شددوا عليه. ابتسمت للفكرة وحاولت النوم مجدّدا، إنما العين تأبى إغماضة جفن ولا أدري لماذا. هي السكينة التي تزيد من الهواجس، والظلمة العمياء لا تبدّد المخاوف، وأشتري الهدوء من الصدر ولا يتوقف عن الخفقان. أسرع إلى ذاكرتي، أسألها العون، أطالبها بالضوء، بالنور، بالأمان، بركعة صلاة تعيد لي دمعتي، والدموع تأبى الانهمار. وددت لو أنني أطلق العنان للبكاء إنما خفت على الآخرين أن يرتعبوا، فتراجعت عن الفكرة وسمّرتُ المقلة في أعماق الكبت. حاولت إلهاء الفكر وإطلاق عنان المخيلة، تماما كما فغلت في الأيام الفائتة، على أمل أن ينتهي الليل من ذوبانه البطيء، ولكن الليل لا يمر. تراجعت عن مهمتي البلهاء في إلهاء الروح، وقررت ألا أفكّر بأي شيء، فالفراغ هنا يحاور الجميع، كما الصمت اللعين، ويمرّ الوقت... يمرّ ولا يمرّ.
الكل نيام والساعة لم تتجاوز الواحدة صباحا بعد. لا حركة تُذكر، لا صوت يُسمع، ولا حتى هدير الطائرات. لا حياة تُستَشَفّ إلا لتلك الأنفاس الخارجة من الصدور المنهكة. لا أحد يعلم كيف أنه بفعل سحرِ ساحرٍ أخلد الكل إلى الأحلام. كانوا متعبين جدا ومنهكين ولم يقاوموا الغفوة طويلا، فانتقلوا تدريجيا من الصحوة إلى الرقاد العميق. أنهكهم نهار قاصف طويل ومليء بالشظايا والغبار. أنهكتهم أفكار مرعبة من احتمالية موت مفاجئ. أنهكتهم تفاصيل كثيرة تعرّفوا عليها واكتشفوها خلال هذه الأيام القليلة الماضية ولم يتعوَّدوا عليها بعد. بقيتُ أستفيض سهادا والنوم في مخاضه العسير يخادعني، والجماد يربض لي على هذا الإسفنج الجاف. تذكرت ولا أدري لماذا رحلتي الشاقة من الجنوب إلى الجنوب. كان ذلك منذ ثلاثة أيام، قال لي وهو يوثق خرقة بيضاء على ساعدي بألا أخاف، إنما عيناه اللتان أخفيتا الدمع كذبتا ثقته الظاهرة. منذ أن بدأت القذائف تنهال علينا من كل حدب وصوب تغيرت ملامحه وشعرت بأنه يخفي عني شيئا ما. لم يجب على أسئلتي وقد رشقته بها بإلحاح. رحت أستفهم وأستفهم وهو يجيب باقتضاب حينا وبإحراج أحيانا، لكنه لم يعطني أجوبة شافية قط. تأكدت أنه يحاول إخفاء أمر مهم حين أوثق رباط تلك الخرقة البيضاء قائلا بأنها ستحمينا من القذائف ومن لغة الطائرات المقاتلة. تساءلت في نفسي ما هي لغة الطائرات المقاتلة، ولم أدرك لماذا تلعننا السماء بوابل من أمطار قذائفها، لكنني لم أجرؤ السؤال عن السبب. قلت في نفسي سوف يأتي يوم أعرف فيه الحقيقة وكيف أن السماء تمطر الصواريخ وتشعل الحرائق بلا سحاب بعكس المطر. لم أبالي للخرقة البيضاء المتدلية على الزند، حين أمسكني بساعدي ليحثني على السير مثله كي لا أتأخر. خُيّل إليّ أن خطاه سريعة وكأنها تهرب من أقدامه. رحت أجري بمحاذاته وأنا أنظر من حولي والنار تشتعل في كل الأنحاء. هو أيضا وضع خرقة بيضاء على زنده وحرص على أن تكون مرئية عن بعد، فراح يلوِّح بها بشكل دائري حينا وتصاعدي تنازلي أحيانا وكأنه يريد أن يلفت الانتباه إلينا. منظر القرية التي بدأت تختفي وراءنا محزنة ومروعة. بيوت مدمرة تنبعث منها رائحة البارود ويرفرف عليها الموت. لا بل أن الحياة تكاد تنعدم من بين أشلاء تلك المنازل المنهارة وكأنها مجرد ألعاب كرتونية سُحِقت على الأرض بلا ممانعة. مررت قرب المنزل، منزلنا الجميل، فخيل إلي بأنه اختفى. للوهلة لم أستوعب الأمر. البارحة كان لا يزال قائما واليوم اختفى! لا زلت أذكر بأنني صعدت أدراجه بفرح عظيم ورحت أدور في غرفه الواحدة تلو الأخرى والضحكة تطال أرجاءه بلا استثناء. توقفتُ أسهب النظر لمعرفة ما حل ببيتنا، إنما يده الممسكة بي بقوة نهرتني لأكمل المسير. تكلّم، وهو يخفي دمعة تكاد تنطق بالفاجعة، ليعلمني بأن المنزل لم يعد له وجود. في اليوم السابق تركت والدي في المنزل وقررت النوم عند جدي والذهاب إلى حيث يحلو لي اللعب والارتماء على العشب الأخضر في الجنائن تحت الأشجار والتقاط الثمار الناضجة. لم يخيّل لي بأنني لن أرى بعد اليوم منزلي الجميل الذي شيده والدي بتعب وهو يعيد على مسامعي بأنه صرف وقته وجنى عمره في بنائه لكي أعيش فيه عزيزا ولا أحتاج لشيء. نظرت نظرة أخيرة إلى المكان ورأسي الملتوي إلى الوراء يعاكس خطواتي، وقفز سؤال بديهي إلى رأسي: أين والديّ؟ وقبل أن أحاول معرفة الجواب من جدي سمعته يقول لي بأنهما اضطرا للذهاب إلى العاصمة الليلة الفائتة لأن الوالدة حامل وعليها الاستشفاء من أجل المجيء بأخ لي. أكد لي بأن ذلك حدث قبل القصف وأنهما الآن في أمان وهما ينتظرانا هناك. غريب هذا الشعور بالكذب الذي يجتاحني من أقاصيّ إلى أقاصيّ. غريب أمر جدي، فالوالدة أكدت لي أن الحبل لن ينتهي قبل ثلاثة اشهر. لم أرَ يوما جدي يكذب عليّ كما يفعل الآن. لاحظتُ ذلك من خلال نظراته التي تتحاشى ملاقاة عيوني. غريب هذا الشعور بالسكينة الذي يخيم على القرية ونحن نقطعها من أقاصيها إلى أقاصيها. غريب هذا الشعور بالرعب الذي يجتاحني ورائحة الموت تنفذ من بين الركام في كل مكان، بما فيهم ركام منزلي. وددت الصراخ إنما يد جدي الممسكة بي لم تترك لي المجال حتى في ذرف دمعة، ورحت أسير بمحاذاته والرعب قد سيطر عليّ كليا. وددت السؤال عن أشياء كثيرة، فهو قد عودني الإجابة بصراحة وتؤدة ومحبة، لكنني أحسست بأن الظرف غير مواتيا وقررت إرجاء الأمر إلى حين نصل وجهتنا. مسكين جدي يحاول أن يبث الثقة في الروح وما يحتاجه من ثقة فهي لنفسه قبل كل شيء. تساءلت مرارا وتكرارا إلى أين يأخذني، والمصيبة الكبرى أنه لم يكن يعلم ما هي وجهته! علمت ذلك من خلال تمتماته التي بدت لي تشاؤمية ونحن نعود أدراجنا على أطراف جسر مدمر ولا مجال للتقدم. بعدها سرنا في الأحراش وسلكنا طرقات ترابية لا يعرفها غيره. بدأت الشمس تميل إلى الاصفرار ببطء شديد وتتدوّر في الأفق البعيد، وبدأ العطش يدبّ فيّ وشعرت بأنني أخور وللحظة لم تحملني رجلاي. بعدها التبس علي الأمر وغابت الشمس من حدقتي لأجد نفسي وأنا أستفيق من غيبوبتي بين ذراعي جدي وهو يبتسم لي بحنان غريب ما عهدته به من قبل. أخرج تفاحة من جيبه آمرا: خذ كلها ولكن ببطء ودون تسرّع، فنحن سنبيت الليلة هنا ونعاود المسير غدا. قفزت الأسئلة إلى الذهن، فكل شيء هنا ينم عن أن إعصارا قد مرّ أو أن زلزالا قد حطّ رحاله بيننا. ما رأيته وعاينته من مشاهد خراب ودمار شامل تقشعر لها الأبدان جعلتني أهتاج رغم الرعب والحزن وحمّلتني ثورة غريبة أفلتت من مواثيق الإحساس لم افقه معناها بعد. لقد تناوبت أفكاري تجاذبات الروح وتناقضاتها وجعلتني أتأرجح بين التردد والضياع والخوف حينا والرغبة بالانتقام وشعور عميق بالكراهية والبغضاء حينا آخر لمن تجرّأ على هذه الأفعال. نَمَتْ في صلبي أسئلة كثيرة دفعني إليها الفضول لمعرفة المزيد وما كنت أجرؤ سؤال جدي عنها. رحت أتساءل لماذا نحن هنا، ولماذا علينا أن ننام في العراء، وما سبب تواجدنا في هذا المكان بالذات، وإلى أين نحن ذاهبون. هل فعلا والدايّ أصبحا في المدينة وينتظران قدومنا؟ تساءلت أيضا لماذا تُهدم كل هذه المنازل على رؤوس ساكنيها، ولماذا يمطرنا تموز بوابل من الصواريخ، ولماذا جميع من أعرفهم اختفوا فجأة بين ليلة وضحاها وكأنهم تبخروا في العدم. تساءلت أيضا وأيضا من هو ذاك الذي يرسل لنا كل هذه القذائف التي تكاد لا تتّسع لها السماء وتنفجر لتُسمِع دويا صاعقا ترتعد له الأجساد. من هم أولائك الذين يستخفّون بالناس والأطفال والعجّز، ويسحقون المزارع والقرى ويعيثون فيها خرابا دون أن تدمع أعينهم؟ من هم أولائك الذين يقطعون الأشجار ويقتلعونها من أماكنها دون أن تهتز أنفاسهم حياء؟ من هم أولائك الذين أقاموا الدنيا وأقعدوها بلحظة غافلة من الزمن وصبّوا جام حقدهم على كل شيء في هذه الأنحاء دون أن تهتز ضمائرهم لما يفعلون؟ كل هذه الأسئلة لم تغب للحظة عن البال وأنا أنظر تلك الليلة إلى السماء بنجومها المتلألئة وأحلم بالتقاط واحدة منها كي أضعها وساما على صدري! ابتسمت للفكرة ورحت أغط في نوم عميق برغم تضوّري جوعا وقد هدني التعب وعناء السير المتواصل طوال ساعات النهار.
استفقت على صوت جدي وهو يطلب مني الاستعداد للسير ودوي الانفجارات في البعد يكاد يعيد إلى النفس رعبها الخفي. أعاد شد رباط تلك الخرقة الحمقاء ببياضها الساذج على الزند وبدأنا مسيرتنا بين الأحراش وعلى الطرقات الفرعية بحثا عن منفذ يقينا القذائف القادمة من الجنوب. وجهتنا الشمال دوما. قالها جدي وهو يؤكد لي بأن الخلاص في الشمال وعلينا الابتعاد عن الجنوب. ولكن كيف لنا أن نعرف الشمال من الجنوب؟ أجاب بثقة أعادت لي بعضا من الأمل: يكفي أن نحدّد وقع القذائف ونمسي عكس دويّها، فنبتعد عنها ونقترب من وجهتنا. سرنا مسافة طويلة في اليوم التالي إلى أن أفضى بنا المسير إلى قرية لم أرها قبلا. تلك القرية كما قريتنا فارغة وكأنها مسكونة بالأشباح. رائحة الموت تنبعث من غبار منازلها والركام، وكأنها مقابر رسمتها يد فنان مجنون ونثرتها على الطرقات. غرغرت عيناي دمعا سخيا وأنا أرى جدي ينهار وقد أسقط في يده ولا حيلة لديه. خيل لي بأن رحلتنا انتهت هنا وبأننا وقعنا في فخ لا خروج منه. إنما جدي صاحب الخبرة والباع الطويل استعاد رباطة جأشه قائلا: سنكمل يا بني مسيرتنا بعد استراحة قصيرة. مشيت بمحاذاته وهو يبحث عن شيء ما نأكله، وأخيرا وجدنا ما يقي جوعنا في منزل فارغ تركه أصحابه على عجلة وأبوابه مشرعة للريح. لا أدري كم مرّ من الوقت ولكنني شعرت بيد جدي وهي تربت على كتفي لتحثني على الوقوف ومتابعة جلجلتنا الطويلة هذه. سرنا على طرقات رئيسية محاولين تحاشي الفرعية منها كي لا نضيع مجددا. وحين مررنا بتلك الشاحنة أشاح جدي نظره وأهاب بي ألا أنظر بدوري. رأيت... ويا لهول ما رأيت، أجسادا مشلّعة بلا رؤوس، أشلاء من أقدام وسواعد صغيرة وطرية متناثرة حول شاحنة متفحّمة يملؤها السواد ولا تزال النار تتلاعب فيها. هذه يد ترسم علامة النصر، أو خيل لي ذلك إذ لم أرَ فيها سوى إصبعين. وهذه عين نافرة ترمقني باستمرار وكأنها تطلب مساعدة. وهذه شفة سقطت عن الوجنة وكأنها تحذرني من مغبّة الاسترسال هربا من قذائف السماء. هذه رجل داست الأرض وحدها فلم تجد لها جسدا يخطو معها. هذه فبضة يد بقيت معلقة على سياج الشاحنة بعناء. لا أدري كم عدد الناس الذين يقطنون هذه الشاحنة ولكنهم كثر نظرا للأجساد المرمات حولها. من المؤكد أن قذيفة ما قد أصابتهم في الصميم، فجدي أكد لي ذلك، وأنا أعلم حين يتكلم الصدق وحين يخفي عني الأمر. لم أجد حرجا في النظر إليهم وإلى تلك الأشلاء رغم الرعب المسيطر على جسدي وهذا الإحساس بالموت الذي لا يفارقني. نعم لم أشعر بأي تأثر للمنظر وكأن ما رأيته سابقا من دمار قد أتى على مشاعري كليا. أردف جدي قائلا: هؤلاء القوم أخطئوا لأنهم لم يضعوا الشارة البيضاء مثلنا، وعليك ألا تتخلى عنها أبدا وأن تتركها على زندك حتى نصل وجهتنا، وتذكر أن هذه الشارة البيضاء هي التي تحميك من القذائف. تساءلت مجددا وأنا أراه يقوم بنفس الحركات البهلوانية بشارته البيضاء كيف يمكن للقذائف أن تفرّق بين من يحمل شارة بيضاء وبين من لا يحملها! رحت أمعن النظر أكثر فأكثر وأنا أمر بالقرب منهم وأتفرّس ملامح تلك الوجوه الطفولية بأشلاء أجسادها المقطّعة، وخيل إليّ بأنها تضحك لي! وكأن قناع الخوف لم يزرها، أو أن مسرحية الرعب لا تعنيها. غريب هذا الأمر. نعم... كل تلك الوجوه فيها نفحة براءة ولا يبدو عليها الجزع إطلاقا. ربما أتاهم الموت وهم في غفلة منه، قلم يدركوا بأنهم ماتوا! رحت أفتكر وأتمنى لو أن الموت يوافيني بغتة فلا أشعر أنا أيضا بالخوف أو أرتعد لفكرة الموت. شعور خفي جعلني أقفز بمخيلتي بعيدا حيث السماء الماطرة قذائف لا تكف عن تذكيري أن تموز شهر بغيض. شعرت فجأة وكأنني كبرت مئات السنين ووددت لو أحط الرحال وأنتهي من هذه الحياة بلحظة هدوء دون أي صوت أو قذيفة. هكذا مر اليوم الثاني وكنت خائر القوى جائعا لا أفكر إلا بنقطة ماء. إنما جدي احتاط هذه المرة للأمر فقد جلب معه من القرية التي مررنا بها المأكل والمياه وكان يحمل كل ذلك على كتفه بإصرار. كان العشاء بسيطا مؤلفا من البطاطا وبعض حبات من الزيتون لكنني وللمرة الأولى بعد يومين شعرت بأن الجوع فارقني. نمنا بجانب الطريق ولم يمر بالقرب منا سوى دوي المدافع. وفي اليوم الثالث وجدتني هنا! آه ما أقسى هذه الحياة حتى الجد تخلى عني! لا زلت أذكر كيف أنه حملني في فجر ذلك اليوم بسرعة رهيبة ولا أدري من أين أتى بكل تلك القوة، وبدأ يركض محاولا الابتعاد عن القصف الذي اقترب منا بشكل مخيف. أوصلني جدي إلى بر الأمان وبعد أن ابتعدنا عن دوي القذائف توقف للحظة ووضعني بحنان على الأرض وانهار. قال لي قبل أن يغمض الجفن أنا راحل لملاقاة والديك وعليك أن تكمل الطريق وحدك. أنظر هناك في البعد أترى تلك القرية؟ إنها مأهولة بالسكان وفيها مركز للأطفال وسيهتمون بك بالتأكيد. لم أدرِ ما إذا كان يمازحني ولكنني استشفيت من عيونه الصدق هذه المرة. أنت قوي يا بني ويمكنك الخلاص، فامشي بلا خوف. خذ مطرة المياه هذه وما تبقى من مأكل ولا تتخلّى عنهما قبل وصولك إلى القرية. اتبع الطريق الواسع ولا تضيع الخطى في الطرقات الفرعية وسيجدونك بالتأكيد. قالها وأغمض الجفن. بعدها لم يفتح جدي عيناه رغم صراخي والبكاء. هززته مرات ومرات، توسلت إليه أن يعود، فأنا بحاجة ماسة إليه. طلبت منه أن يأخذني معه حيث هو ذاهب وحيث يتواجد والديّ لكنه لم يفعل. كرهت نفسي والشارة البيضاء وتموز وقذائف السماء بلحظة غضب فيها الرعب واعد. فجأة نضبت عيناي ولم أعد أذرف دمعة واحدة. خيل لي بأنني أسمع صوتا يناديني فلحقت به. مسكين جدي لم تنفعه الشارة البيضاء وقضى هو أيضا في لهيب تموز. لذلك قررت أن أفك تلك الشارة المزعجة عن زندي وارميها أرضا فأنا لم اعد بحاجة إليها. رحت أمشي وأمشي بلا وجهة. وكأن الحلم الذي استوعب جسدي فجأة تخلّى عني. منذ متى وأنا على هذه الحال؟ لا أدري! الطريق الواسع يطول تحت أقدامي ولا ينتهي. لم يخيل لي بأن تلك القرية تقترب مني، وهي في التواءات الطريق تختفي حينا وتبين أحيانا. وشيئا فشيئا بدأت المنازل تظهر لي وكأنها أشباه أطياف، فرحت أركض وأركض علني أصل إليها قبل المساء. فجأة سمعت سيارة تمر بالقرب مني، ولا أدري من وجد الآخر، أهو أنا أم هي. ترجل شاب وسألني عما أفعله ولمَ أنا بمفردي على هذه الطريق؟ فلم أجبه وكأن الصوت أبى أن يخرج مني. أصبحت أشكك بالجميع ولا أريد أن أصدق أحدا. حملني بقوة ووضعني على المقعد الخلفي، فلم أمانع. والحقيقة أنني كنت منهكا من المشي وأردت الاستراحة بعض الشيء، وعلى جميع الأحوال لم اعد أدري ما هي وجهتي في لهيب تموز البغيض. ما هي إلا دقائق حتى انتهى بي الأمر في هذا المركز حيث طلب مني أن أمكث مع بقية الأولاد ريثما يحددوا مكان تواجد أهلي. عبثا حاولت القول بأن أهلي لا يعلم مكانهم إلا جدي، وجدي الآن ينام على الطريق ليس بعيدا من تلك الشاحنة المتفحمة، فسخروا مني. منذ تلك اللحظة قررت ألا أصدق أحدا بتاتا ورحت أبني بيتا في الأحلام لا يدخل إليه أحد سواي. قد أدخل إليه سامر الذي فقد رجله بقذيفة منذ عدة سنوات، فهو صادق ووحيد مثلي. أو أدخل إليه أيضا منال التي تضحك باستمرار وقلبها الأبيض لا يسع للكذب مكانا. آه من بيت الأحلام كم يشبه منزلي! والسهاد يتآكلني دوما، والوقت يمرّ... يمر ولا يمرّ!
تجاوزت الساعة الواحدة ليلا بقليل ولا زلت أحلم مُفَتّح العيون حين وجدت نفسي أتطاير في الهواء ولا صوت حولي سوى صراخ ونحيب وبكاء. نعم لم أصدقهم بأن القذائف لا تأتي لتنام بالقرب منا، فها هي تدخل دون أن تقرع الباب! غريب أهكذا يكون وقع القذائف على المرء؟ شعرت بحرارة قوية تجتاح جسدي لينقلب بلحظات من الاحمرار إلى السواد القاتم. أهذا أنا؟ هذا لست أنا! إنه ليس جسدي. لم اصرخ... لم أذرف دمعة... لم أبكِ... أماه أين أنتِ ؟ رباه ساعدني إني أحترق! أماه إني أراك، تعالي واحتضنيني كعادتك في الأيام الماضية، واجعلي الضحكة تسود، تماما كتلك الوجوه التي رايتها ملقاة قرب الشاحنة المتفحمة فلا أعود أشعر بالألم. تعالي كي تنتهي رحلتي من قلب الجنوب إلى الجنوب!
ملاحظة:
تناقلت الإذاعات والقنوات المرئية في اليوم التالي خبر مجزرة إسرائيلية ثانية وقعت مجددا في قانا راح ضحيتها ما لا يقل عن ثلاثة وعشرين طفلا في مركز للمعوقين بُنِيَ بعد مجزرة قانا الأولى في العام 96 ليعيد التاريخ نفسه. ألا يقال أن المجرم يعود دوما إلى مسرح الجريمة؟


د. سليم صابر
نموز - آب 2006 [/align]
لا زلت أبحث عن قبس...
في مكان ما كون من ألم
وجراح...
ومعاناة...
وفرح!
د//نون
رشف مميز
مشاركات: 2214
اشترك في: 04-12-2001 01:12 PM

مشاركةبواسطة د//نون » 02-12-2007 12:11 AM

أخي الكريم د.سليم صابر ..

أولاً لكم أخلص الترحيب و التحيّة من أسرة الرشف لانضمامك إلينا قلماً مميّزاً جديداً بيننا ..

و ثمّ لكم خالص الشكر لمشاركتنا بهذه الأحرف السردية التي كانت عيناً حِرَفيّة التصوير نقلتنا إلى هنااااك عبر الزمان و المكان .. إلى حيث محطّة الوجع الأزليّ ..و الجرح الذي لا يبرأ ..

تحية لحرفكم





(((
سـتـبـقـى رُبـَا الـرشــفِ ..
عـيـنَ الـقـصـيـدِ و رَيَّ ظـمَـاهْ
و بـوّابـةَ الـبـَوحِ ..
بـُوصَـلـَة َالـشـعـرِ إذ مـا تـعـثــّرَ وهـْـنـاً و تـاهْ
و مُـتـّكـَأ الـحـزنِ .. حـارَ عـلى شــفـةٍ بـيـنَ حـرفٍ و آهْ
سـيـبـقـى لـنـا فـصـلَ درسِ الـقـريـضِ ، يـردّ لـذاكـرةِ الـيـأسِ هـمـسَ الـبـحـورِ ..
و عـزفَ الـقـوافـي ..
و رجـعَ صـدَاهْ !
)))




صورة قـنـديـل الـذكـرى ..
صورة صــمـت أمـّي ..
صورة تـرنـيـمـة طـفـل عـراقـيّ ..
صورة ركــنٌ .. لــي ..
صورة جــديـلـة ..
د.سليم صابر
همس جديد
مشاركات: 8
اشترك في: 02-08-2007 02:48 AM
مكان: لبنان

مشاركةبواسطة د.سليم صابر » 02-13-2007 06:35 AM

[align=right]د//نون شاكر لك الترحيب والمكان يضج بذاخر الأقلام

من ثم ممتن لرأيك النابع من صميم القلب
هو الجرح لم يفتأ ينزف
محطّة الوجع الأزليّ قلتَ
نعم وإنما من الجراح تتنامى الأوطان
الجرح الذي لا يبرأ زدتَ
وقد يبرأ يوما ذات شهادة وعناد وصمود!

تحية لحرفكم أخي العزيز وشاكر لكم كل اهتمام وتمعن في هذه القصة

دمت بخير
الصابر[/align]
لا زلت أبحث عن قبس...

في مكان ما كون من ألم

وجراح...

ومعاناة...

وفرح!

العودة إلى “النثر (بالفصحى)”

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين وزائران