همسةٌ إلى وطني
حبيبي الغالي... أكتبُ إليك من صندوق غربتي الخالية... من أوجاع أحلامي البالية... من أثقال حيراتي المتتالية. فليس في حاضري شئٌ من فرح زرعناه ولم يعدْ في قلبي غير بقايا ورد سقيناه.
حبيبي الوطن... تجمهرت الناس من حولي تتأملّ في منظري الذي رأته مضحكاً وهي تشير إليّ بأيديها وأصابعها وتتغامز بعيونها وحواجبها هازّةً رؤوسها في سخرية أثارت قرفي واشمئزازي وأحسستُ بضعفي وخذلاني فلم أكن أتوقّع أنْ تكون على هذا النحو خيبتي وهواني!
احتجتك في تلك اللحظة أكثر من أيّ وقت مضى في تلك اللحظة العاصفة... أردتُ أنْ أستعيد بعض نفح من ذكرياتي فيك علّني أستمدّ قوّة ما منها... علّها تمدّني بشئ ولو يسير من طاقة التحمّل أتجاوز فيها محنة مهزلة سقوطي... لكنْ وللأسف من دون جدوى وضاع الرجاء.
ازدادتْ سخرية الناس أكثر لأني وحيد... غريب... فريد في عالم ليس بعالمي لا أرى فيه ما كنتُ أراه وأنا معك نتسلّق التلال والهضاب وننحدر إلى بواطن الوديان... نركض خلف الفراشات المحلّقة في فضاء رحب مليء بالعطور والنسيمات العذبة بعدما
جعلناها تفيق من غفوة ساهية على أكمام وردة في غفلة من الزمن. بدأ الحنينُ إلى الأيام الخوالي يضرب بريشته أوجاعه على أوتار قلبي الحزين كم هي مريرةٌ الخيبة وكم هو مريعٌ الفشل!
هل حقّاً للغربة عن الوطن والأهل والأحبة كلّ هذا السلطان من الانتكاسات والخيبة والمرارة والوجع؟ ما الذي يكمن فيه حتى يكون له كلّ هذا التأثيرعليّ؟ لماذا كلّ هذا الحزن وكلّ شئ متوفرٌ لي هنا العمل... المال... الراحة النفسيّة... الشعور بالأمن والهدوء... الثقة بالمستقبل والضمان الاجتماعي؟ لماذا ومع كلّ هذه المعطيات يداهمني الحزن بكلّ هذه الفظاعة أرى نفسي مشلول التفكير والإرادة كلّما عادتْ بي ذاكرتي إلى أيامها الماضية وطرقتْ باب قلبي أحاسيسها الموغلة في القدم؟
أحبّك يا وطني... أحسّ معك بالراحة الحقيقيّة وأنا ملقى بين أحضان عطفك ورأفتك أو مستلقياً على كومات الحنطة في بيادرك وهي تفوح رائحة طيّبة تغمرني بإحساس الأصالة والعودة إلى الجذورالقديمة... أحسّ بهذا لأنه أعظم منّي... لأنه أقوى منّي. لا أعرف إلى متى سأبقى هكذا ضعيفاً تفعلُ ذكرياتي فعلها الرهيب والساحر فيّ، في كلّ كياني، لتغرس فيه أشواك الحنين وتدفع إليه أوجاع الأنين.
أعرف أنك لن تعود إليّ أيّها الوطنُ الحبيب، أيّها الوطن الممتدّ على كامل رقعة نفسي ويتجاوزها إلى حيث ترقد أحلامي وهي تفرد جناح طموحها إلى عوالم لامتناهية وهي تسبح في فضاء رؤاها الفكريّة ومدى تصوّراتها الروحيّة. كما أعرف أني لن أعود إليك! فهل هذه هي دواعي هذا الحزن الشديد وأسباب هذا الهيجان الذاتي الملتهب؟
إنّي أحبّك يا بلدي وأحبّ فيك عزّتك وأعجب لشموخك الأزلي. أحبّ ألاّ يستغلّك أحدٌ لأية أغراض وأهداف لا تتماشى مع قيم وجودك الانسانيّ! أحبّك أنْ تظلّ للجميع معطاءً خيّراً وكريماً لأنك لست ملك فئة من الناس أو قلّة من العابثين... أحبّك أنْ تترفع عن الحقود والضغائن... أحبّك أنْ تكون شفافاً كالحقيقة وناصعاً كاليقين وهادراً عند اللزوم ببركان وهادئا عند الضرورة كالصمت المعتمل مع رجاء ممشوق كالشموخ ومعتدل كالإلفة ومبتسماً كالأمل. أريدك ألاّ تكون لأحد بعينه، أحبّك بلداً شاملا جامعاً عامّاً ينهل الكلّ من فيض حبّك ويتفيؤن بظلّ نقائك ويرددون أغنية بقائك.إني حزين يا وطن الحبّ والفرح لأني لن أراك. إني أتلمّسك عن بعد... أتحسّس أناملك الرقيقة وهي تحنو على جبهتي... أراك شعاعاً من الخير وبرعماً من المتعة يتجسّد في حروف اسمك خلوداً ممتنعاً حصيناً على خصومه وأعدائه.
أحسّك في كلّ حركاتي وسكناتي في هجوعي ويقظتي في يقيني وشكّي في خيبتي وانتصاري... إنك عظيمٌ يا بلد الظلال والنقاء والهواء الفريد بعطره غير ملوّث بدخان التآمر والتعسّف والمصالح الذاتيّة الضيّقة... سماؤك صافيةٌ هادئةٌ لم أر مثلها في حياتي... مياهك عذبةٌ رقراقةٌ لم أذق ألذ منها هي تتدفّق برقّة متناعمة مع أخاديد الزّمن في أبهى صورة وأرقّ مشهد.
اشتقتث إليك على الرّغم من أنك تعتمل في صدري و تتوسّد قلبي... أحنّ إليك فأنت قريبٌ منّي وبعيدٌ عنّي... أحبّك يا وطن الذكرى ومهوى الشقاوة... أحبّ فيك كلّ سمائك وأعشقُ فيك كلّ تنهيداتك فأنت وطن الشوق وشوق الوطن. أنت في مهجتي نغمٌ وفي حياتي متعةٌ. أنت في فكري ألقٌ وفي نفسي خفق الإبداع.
سأكتبُ اسمك على كلّ شجرة هنا... على كلّ وردة هنا... على ضفة كلّ جدول ماء يتدفّق بعذوبة وعلى صفحة كلّ ماء وعلى كلّ سماء، فأنت لك طعمٌ آخر ولديّ حيالك إحساسٌ مغاير عن جميع الأحاسيس الأخرى!
أراك في سلوتي وخلوتي. أراك في رجائي وشقائي أمتن من أية صلة وأرشق من أي بيان. أراك أرقّ من همسة وأثبت من عنفوان وأنت تظلّ فيّ برغم الأحزان، وتموتُ في خافقي عندما تنتهي الأزمان. ماذا قلتُ؟ أقلتُ تموت؟ حاشا... اللعنة. إنها كانت زلّة لسان إذ كيف للخلود أنْ يموت وكيف للسرمدية والأزل أن ينقضيا فهما لا تنالهما محدودات ولا حدود. أحبّك ولا أستطيع إلاّ أن أحبّك لأنك وطن المحبّة والحبّ ولأنك نعيم المحبة والحبّ ولأنك سعادة المحبّة والحبّ ولأنك نقاء المحبّة والحبّ!
ألمانيا في 20/7/2005 م
همسة إلى وطني
-
- همس جديد
- مشاركات: 23
- اشترك في: 08-17-2005 05:54 PM
- مكان: ألمانيا
- اتصال:
الموجودون الآن
المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 43 زائراً