منـــــازل الشعـــــر

الشعر العمودي - شعر التفعيلة

المشرفون: مجدي، موودي

ريم الفلا
نحلــــــ النادي ـــــــة
مشاركات: 3773
اشترك في: 04-14-2001 12:17 PM
اتصال:

مشاركةبواسطة ريم الفلا » 08-31-2002 11:23 AM


- من روائع الرثاء - 2


ولا أدري كيف غاب عن الدكتورة بنت الشاطئ وهي العالمة المثقفة الأديبة الواعية أن بكاء الخنساء أخويها لأنهما ماتا على الجاهلية. أما عدم بكائها لأبنائها الأربعة فلأنهم استشهدوا في سبيل الله مجاهدين دفاعاً عن الإسلام، فكيف تبكيهم شعراً وقد شرّفهم الله بالشهادة؟ وكانت هي التي تدفعهم إليها وتشجعهم على القتال

وإذا كان الشعراء بصفة عامة قد وظّفوا أشعارهم في أغراض عديدة من مجالات الحياة ومن بينها الرثاء، فإنّ الشاعرة تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد السلمي الملقبة بالخنساء قد تفردت بالرثاء حتى صار هذا اللون من القول طابعاً مميزاً لشعرها وسمِة واضحة من سماتها حتى إنّ ديوانها لا يضم سوى الرثاء.. وهي تنتمي إلى قبيلة سُليم المعروفة وأبوها يتبوأ مكان الصدارة في هذه القبيلة فقد كان بما له من مكانة يَفِد على كسرى في العهد الجاهلي وكان في هذا العهد عندما تشهد المواسمَ جموعٌ كثيرةٌ من العرب فإنه يأخذ بيدي ابنيه معاوية وصخر يفاخر بهما قائلاً: أنا أبو خيريء مضر، فتعترف له العرب بذلك.
ولما أشرقت شمس الإسلام في جزيرة العرب كانت قبيلة سُليم سبّاقة إلى الإسلام في نحو السنة الثامنة للهجرة النبوية.. وقد أسلمتء الخنساء مع قومها وحسن إسلامها وكان لها شرف اللقاء بالرسول صلى الله عليه وسلم: "وقد لقيها الرسول بكثير من الرفق واستنشدها شعرها في صخر فراحت تُنشده وهو يصغي إليها بقلبه الكبير ويستزيدها قائلاً: "هيه يا خُناس ويومئ بيده"(1).. وبذلك اللقاء فإنها تُعتبر صحابية وهو شرف لمن أسعده الله بتلك الصحبة النبوية الكريمة، وقوله صلى الله عليه وسلم: يا خُناس كلمة تحمل في مدلولها صيغة تدليل للقب الخنساء، وتلك لفتة كريمة من نبي كريم الخلق قال الله عنه: {وإنك لعلى خلق عظيم}.

وقد وضعها ابن سلاّم بين طبقات الشعراء الكبار في كتابه: (طبقات فحول الشعراء). وهذا التفرد الذي اختصت به شاعرتنا في مجال الرثاء لفت إليها بعض المستشرقين، فقد قام المستشرق الفرنسي دي كوبيه بترجمة ديوانها إلى الفرنسية عام 1889م كما قدّم المستشرق الايطالي غبريالي دراسة بالايطالية عن حياتها وشعرها، وكذلك فعل المستشرق الألماني رودو كاناكيس، فقد أعدّ بحثاً عنها وعن مراثيها.. وكانت شهرتها بما برزت فيه من فنون الشعر في فن الرثاء فقد تميزّت برقة العاطفة وسمو المشاعر وروعة التصوير في ابراز جسامة المأساة وحدّة المعاناة، فكان إبداعها في شعر الرثاء الذي كان أهمَّ ما برزت فيه وأجادته، وفيه تألّقت حين تعمل على تجسيم أحزانها فهي تختزن في ذاتها وهجاً من عواطف ملتهبة ومشاعر مكبوتة تنطلق مع التعبير الذاتي عن المواجع الإنسانية، فالرثاء إنما يصدر عن روح فياضة بالشجن مشحونة بالألم، والخنساء كذلك. مما جعلها في مقدمة شعراء المراثي.

وقد كان أكثر مراثيها في أخيها صخر ويعود الإكثار من رثائها له خاصة إلى مواقفه الرائعة وصلاته الحميمة بأخته وبرّه بها وعطفه عليها وإيثارها بما لديه من مال على نفسه وأهله. مما عمّق محبته في قلبها ومكّن لهذه المحبة من أن تسود فؤادها، والإحسان قيدُ وفاءٍ للنفوس الحرة، ومَن وجد الاحسان قيداً تقيّدا، وكذلك كانت الخنساء مع أخيها صخر، فقد تجاوز في كرمه معها إلى ما هو أكثر من حدود صلة الرحم حيث بلغت صلته بأخته ورعايته لها وحنوّه عليها ومواساتها ما لا يقدر عليه سوى من استطاع أن يفعل مثل ما فعل، ومن إكرامه لها وتقديرها ما ذكرته في هذا المجال: انها تزوجت برجل من عشيرتها متلاف للمال فأنفق ماله كله حتى لم يعد يملك شيئاً فأشارت عليه بأن يذهبا إلى أخيها صخر، فقسم ماله شطرين وأعطاهما خيريء الشطرين، فلما عاتبته زوجته قائلة: أما يكفي أن أعطيتهما شطر مالك حتى تعطيهما خيريء الشطرين لم يلتفت إلى كلامها، وحين عادت أخته إليه مع زوجها مرتين بعد ذلك كان يفعل مثل ما فعل في المرة الأولى يشاطرهما ماله ويخصهما بأفضله، ولو امتد به العمر واستزادته عدة مرات لاستمر في عطائه لها في غير مَنّ منه ولا ضيق بطلباتها. بل إنه ليخصها بأفضل ما يملك ويخيّرها وزوجها لاختيار الأفضل. لذلك حملت له في نفسها هذا الجميل في حياته وبعد مماته، مما اقتضاها الوفاءُ له التنويه بذكره والبكاءَ على فقده، فقد طوّق عنقها ورفع رأسها لدى قومها بهذا الإيثار الذي يندر وجوده. مما جعلها لا تمل من مواصلة رثائه ولا تنسى ذكراه طيلة حياتها، فرفعت ذكره في دنياها وخلّدت اسمه في ديوان الرثاء العربي

وإلى جانب رثائها الواسع لأخيها صخر فقد رثت قبله أخاها معاوية الذي قُتل قبل صخر، وإنما تميّز رثاؤها بكثرته لأن مصيبة فَقءد الأخوين معاً فجّر في أعماقها نهراً من الحزن، ومن ذلك قولها في أخويها:


مَنء حَسَّ لي الأخوين كالغصنين أو مَنء رآهما
أخوين كالصقرين لم يرَ ناظر شَرواهما


وقولها كذلك فيهما:


فلا يُبعدنّ الله صخراً وعهده
ولا يبعدن الله ربي معاويا


وتُصوّر أخاها صخراً وسط نجوم العشيرة في هذا البيت الجميل:


كنا كأنجم ليل وسطها قمر
يجلو الدجَى، فهوى من بيننا القمر


وكانت فاجعة صخر قد جدّدت فاجعتها في معاوية ففجرت شجونها وأسالت دموعها فكانت بكائياتها في قصائدها التي تُكثر فيها من تعداد مآثر أخيها صخر، وقد اختصته بأكثر شعرها وأغلب مراثيها وبحرارة تفجعها عليه وأساها لفقده. لمواقفه البالغة منتهى النّبل وصلة الرحم، وبهذا الرثاء المتدفق من ينبوع الحب الخالص عُرفت الخنساء واشتهرت فهي في لوعتها لفراقه تذكره في صباحها ومسائها على هذا النحو:


يذكّرني طلوع الشمس صخراً
وأذكره لكل غروب شمس

وما يبكون مثل أخي ولكنء
أُعزّي النفس عنه بالتأسي


فهي تذكره في كل أحوالها وتحاول أن تُعزّي نفسها بالصبر حين ترى الباكين حولها على فقد أعزّائهم، ولكنها مع ذلك تظل تعدّد مزاياه وكأنها تُعرّف بمكانته وما يتصف به من جميل السجايا وحميد الصفات. مما أهّله لأن يحتل بين قومه مكانة متميزة، فتعلن مواقفه الرائعة وأفعاله الشامخة من شجاعة وسخاء ورجولة ووفاء وحفظ للجار وصيانة للشرف، وسيادته بتلك الخصال التي لا تتوافر إلاّ في النادر من الرجال:


وإنّ صخراً لوالينا وسيدنا
وإن صخراً إذا نشتو لنحار

وإنّ صخراً لمقدام إذا ركبوا
وإن صخراً إذا جاعوا لعقّار

حمّال ألوية هباط أودية
شهّاد أندية للجيش جرار

نحار راغية(6) قتال طاغية
فكّاك عانية للعظم جبّار

لم ترَه جارة يمشي بساحتها
لريبة حين يُخلي داره الجار


وتُكثر من تعداد فضائله وصفاته الجميلة، وتستثير عينيها للبكاء عليه فهو من بُناة الأمجاد، وقد برز في مجتمعه بعشقه للمجد وكذلك كان يفعل في حياته:


أعينيَّ جودا ولا تجمدا
ألا تبكيان لصخر الندى

ألا تبكيان الجريء الجميل
ألا تبكيان الفتى السيدا

طويل النجاد رفيع العما
د ساد عشيرته أمردا

إذا القوم مدّوا بأيديهم
إلى المجد مدّ إليه يدا

فنال الذي فوق أيديهم
من المجد ثم مضى مُصعداد

يكلّفه القوم ما عالَهم
وإن كان أصغرَهم مولدا

ترى المجد يهوي إلى بيته
يرى أفضل الكسب أن يُحمدا

وإنء ذُكر المجد ألفيته
تأزّر بالمجد ثم ارتدى


وهي تنثر مفرداتها كالسبائك الذهبية التي تنسج منها أوصافاً ترى أن أخاها مؤهل لها في ألفاظ متألقة متناسقة متماسكة على النحو التالي:


المجد حُلّته والجود علّته
والصّدق حوزته إن قرنه هابا
خطّاب محفلة فراج مَظلمة

إن هاب معضلة أتى لها بابا


فهو إلى جانب سخائه وإقدامه بليغ إنء خطب في محفل وحكيم في مواجهة أي معضلة يجد لها المخرج المناسب. مما جعله يسود في قومه وهو في نضارة العمر، ولعل من أروع الأبيات التي صورتء فيها خُلقه العالي وسلوكه الرفيع: البيت السالف الذي تقول فيه:


لم تره جارة يمشى بساحتها
لريبة حين يُخلي داره الجار


فهو يحفظ للجار حقه ويرعى شرف الجوار ويسمو بنظره عن التطلع إلى جارته أو سواها من الحرائر الكريمات، فهو يتسامى في نظرته إلى المكارم الخلقية، وبذلك ارتفع في سلوكياته وبين قومه.

وقد كتب الأستاذ فاروق شوشة في مجلة العربي(8) تحت عنوان: (الشاعرة التي بكت أخويها ولم تبكِ أبناءها الأربعة!) أشار فيما كتب إلى بكائها على أخويها وعدم بكائها على أبنائها الأربعة مشيراً إلى تعجّب الدكتورة بنت الشاطئ من رثائها لأخويها دون أبنائها ووصءفها ذلك بأنه: "انحراف في طبيعة تماضر جعل عاطفة الأخوّة فيها تطغى على عاطفة الأمومة التي هي جوهر الأنوثة"..
وانتهى الكاتب في هذا المضمون إلى أنه "بقي لنا بكاء الخنساء ورثاؤها لأخوءيها. أما صمتها الشعري عن استشهاد أبنائها الأربعة فقد دخل في عداد المسكوت عنه في شعرنا العربي".. وقد اكتفى الكاتب في هذا المجال بذكر ما نوّه عنه د.محمد حَمّود في بحثه عن الخنساء الذي رأى: "في موقف بنت الشاطئ كثيراً من المبالغة
ولا أدري كيف غاب عن الدكتورة بنت الشاطئ وهي العالمة المثقفة الأديبة الواعية أن بكاء الخنساء أخويها لأنهما ماتا على الجاهلية. أما عدم بكائها لأبنائها الأربعة فلأنهم استشهدوا في سبيل الله مجاهدين دفاعاً عن الإسلام، فكيف تبكيهم شعراً وقد شرّفهم الله بالشهادة؟ وكانت هي التي تدفعهم إليها وتشجعهم على القتال.
ومثل موقف بنت الشاطئ ما أشار إليه الأستاذ فاروق شوشة وهو الشاعر المدرك والأديب الواعي الذي فسر موقف الشاعرة الخنساء بصمتها الشعري في استشهاد أبنائها بأن ذلك على حد تعبيره "في عداد المسكوت عنه في شعرنا العربي".. وكأنه يرى أنّ موت أخويها في منازعات جاهلية كاستشهاد أبنائها في معركة شريفة، ولم يتنبه الدكتور حمّود كذلك في تعليقه على كلام بنت الشاطئ من تصوّرها غير الواقعي لموقف الخنساء من رثائها لأخويها وعدم رثائها لابنائها بأنه على حد تعبيرها: انحراف في طبيعة الأمومة عندها، فقد اكتفى بقوله: إنه كلام فيه الكثير من المبالغة، ولم يصل إلى جوهر الحقيقة وهو أن رثاءها لأخويها لموتهما قبل إسلامهما هو الذي فجّر في داخلها هذه الحسرة التي نلمسها في رثائهما. أما أبناؤها الأربعة فقد ماتوا أشرف ميتة وأعلاها مكانة، وهي التي كانت تقودهم إلى ساحة الاستشهاد وقد احتسبتهم عند الله فكيف تأسىَ لموتهم وتجزع لفراقهم وهم شهداء.. بل لعلها تتصور أن رثاءها لهم قد يقلل من قيمة استشهادهم ويُنقص من احتسابها فيهم.
وقد نقل الدكتور حمّود في كتابه عنها(10): أنه كان لها أربعة بنين سارت معهم لفتح فارس وحضرت وقعة القادسية سنة 16للهجرة وقد أوصتهم من أول الليل: يا بنيّ إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتهم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو: إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة. ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم ولا هجّنت حَسبكم ولا غيّرت نسبكم، وقد تعلمون ما أعدّ الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية يقول الله عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون.. وقد قُتل أولادها الأربعة في تلك المعركة فلما بلغها الخبر لم تجزع ولم تهلع وإنما تقبلتء استشهادهم بقولها: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته..
أمٌ هذه وصيتها لأبنائها بالاقبال على القتال والتفاني في لقاء العدو، واستقبالها خبر استشهادهم جميعاً بالحمد لله الذي شرفها بموتهم على هذه الصورة الرائعة المشرفة فهل تأسى على استشهادهم فترثيهم؟ وهل هناك ما هو أشرف من ميتة مسلم تحت راية الإسلام سعيداً بالاستشهاد؟ إنّ الشهادة في سبيل الله غاية نبيلة يسعى إليها كل مَنء ملأ اليقين قلبه وأضاء الايمان بصيرته، وإذا كان ذلك واقعاً مشهوداً في سلوك المؤمنين والمؤمنات منذ فجر الإسلام حتى عصرنا هذا، فهل يكون التعجب من عدم رثاء الخنساء لأبنائها لاستشهادهم؟ أم يكون الإعجاب بعدم رثائها لهم لأنهم ماتوا شهداء؟!

صورةصورة صورة
صورةصورةصورةصورةصورة
عذرا الى النادي العريق ابثه زفرات وجد قد ثوى بفؤادي
ياويح قلب وزعت أشواقه بين الحبيب وبين هذا النادي

مجدي خاشقجي
ريم الفلا
نحلــــــ النادي ـــــــة
مشاركات: 3773
اشترك في: 04-14-2001 12:17 PM
اتصال:

مشاركةبواسطة ريم الفلا » 08-31-2002 11:39 AM


من روائع الرثاء - 3


للرثاء مجاله بين الألوان الأدبية ودوره في الحياة الاجتماعية، وهو في ذاته يعتمد على صدق العاطفة وأصالة الموهبة أو هذا ما ينبغي أن يكون، فاذا لم يتوافر الصدق أو لم يصدر عن موهبة فانه يظل كلاماً منظوماً أو منثوراً كأي كلام آخر ينقصه الصدق ويفتقر إلى الموهبة، وبذلك فانه يفقد وهج الرثاء الأصيل وتأثيره، فالكلمة الصادقة تجد صداها في النفوس ويتسع أثرها في المجتمع إذا صاغها موهوب في الشعر أو النثر.
وقد جرت الإشارة فيما سلف إلى الاختلاف في النظرة إلى رثاء الخنساء لأخويءها دون بنيها وجاء تفسير هذا الموقف من بعض الأدباء تفسيراً مخالفاً لمفهوم واقع الحال فيما يتصل بعاطفة الشاعرة، فأخواها ماتا في الجاهلية فرثتهما وواصلت الحزن عليهما لأنهما لم يدركا الإسلام لا لأنهما أقرب إلى قلبها من بنيها وأكثر صلة بها، وإنما أساها وتفجعها عليهما لموتهما في الجاهلية، أما صمتها عن رثاء بنيها فلأنهم شرّفوها بميتتهم شهداء وهي التي كانت تحدوهم إلى ميدان المعركة، لأنها تعرف ما أعد الله لهم من مكانة مرموقة ترجو أن تجتمع بهم في مستقر رحمته سبحانه كما عبّرت عن شعورها بعد استشهادهم، وبذلك لم يعد مجال لاتهام عاطفة الأمومة عندها بالانحياز لأخويها على حساب أبنائها، فالسبب واضح بالنسبة لموت الأخوين واستشهاد الأبناء، وهو الموقف الذي أملى عليها رثاءها لأخويءها وامتناعها عن رثاء بنيها احتساباً عند الله تبارك وتعالى لاعدم حزن عليهم كمقتضى الطبيعة البشرية.

وفي عصرنا الذي نعايش أحداثه الدامية على أرض فلسطين المحتلة نشاهد الأمهات الفلسطينيات كيف يُجهزءن أولادهن بنين وبنات للاستشهاد في مقاومة العدوّ المغتصبِ للحقوق الفلسطينية، المدنِّس للمسجد الأقصى، فكانت الأم من المواطنات المناضلات تزف ابنها أو ابنتها للشهادة وهي تعلم سلفاً انه ميت لا محالة بتفجير نفسه في مواجهة الأعداء المعتدين، ولكنها موقنة بما أعدّ الله للشهيد من منزلة كريمة تعزيها في فقده، وفي التنزيل الحكيم ما يبشر الشهداء بما أنعم الله به عليهم كما جاء في قوله تعالى: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا}.

جاء في تفسير القرطبي، قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا، فإنك اذا فارقتنا رُفعتَ فوقنا، فأنزل الله تعالى: {ومن يطع الله والرسول} إلى آخر الآية وفي طاعة الله طاعة رسوله، ولكنه ذكره تشريفاً لقدره وتنويهاً باسمه صلى الله عليه وسلم.. ثم عقّب القرطبي بعد ذلك بقوله: "إن الله تعالى لما ذكر مراتب أوليائه في كتابه بدأ بالأعلى منهم وهم النبيون ثم ثنى بالصدّيقين ولم يجعل بينهما واسطة، وأجمع المسلمون على تسمية ابي بكر الصدّيق رضى الله عنه صدّيقاً، كما أجمعوا على تسمية محمد عليه الصلاة والسلام رسولاً، وإذا ثبت هذا وصح أنه الصدّيق وأنه ثانى رسول الله. لم يجز أن يتقدم بعده أحد" .. وبما أن ذلك ثابت وصحيح فقد أكد القرطبي رحمه الله أن هذه الآية فيها دليل على خلافة أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه.
ومما قيل في معنى الصدّيقين أنهم أتباع الأنبياء الذين يسبقون الى التصديق كأبي بكر الصديق، ولم يذكر الله سوى الأصناف الأربعة:
النبيين والصديقين والشهداء والصالحين... وقال الطبري الشهداء جمع شهيد وهو المقتول في سبيل الله، والصالحين جمع صالح وهو كل من صلحت سريرته، واللفظ يعم كل شهيد وصالح، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يُغفر للشهيد كل شيء الا الدَّيءن .. وفي حديث آخر يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته.. ولا شك أن للشهيد مكانة رفيعة مدخرة له في الآخرة جعلته تالياً للأنبياء والصديقين ومتقدماً على الصالحين فضلاً عمن عداهم من البشر، ومن تكريم الله تبارك وتعالى للشهيد انه لا يُغسل ولا يكفّن وانما يدفن بلباسه الذي استشهد فيه، وجاء في الأثر أن لون دم الشهيد لون الدم ورائحته رائحة المسك.

{ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون}(2). جاء في تفسير ابن كثير لهذه الآية: يُخبر تعالى أن الشهداء في برزخهم أحياء يُرزقون كما جاء في صحيح مسلم: أن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي الى قناديل معلقة تحت العرش فاطّلع عليهم ربك اطلاعه فقال: ماذا تبغون، فقالوا: ياربنا وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تُعطِ أحداً من خلقك، ثم عاد عليهم بمثل هذا، فلما رأوا أنهم لا يُتركون من أن يُسألوا قالوا: نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نُقتل فيك مرة أخرى، لما يرون من ثواب الشهادة، فيقول الرب جلّ جلاله: إني كتبت أنهم اليها لا يرجعون.
وفي تفسيره لقوله عز وجل: {فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألاّ خوف عليهم ولا هم يحزنون}(3) وهي الآية التالية للآية السالفة في تفسير هذه الآية، الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند ربهم وهم فرحون بما هم فيه من النعمة والغبطة، ومستبشرون باخوانهم الذين يُقتلون بعدهم في سبيل الله: أنهم يقدمون عليهم وأنهم لا يخافون مما أمامهم ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم.

ومتمم بن نويره اليربوعي شاعر مخضرم عندما قُتِل أخوه مالك في حرب الردة نعاه متمم وبكى عليه طويلا ورثاه بقصائد تُعتبر من أرقى فنون الرثاء ومن شعره في أخيه مالك قوله:


لقد لامني عند القبور على البكا
صديقي لتذراف الدموع السوافكِ

يقول أتبكي كل قبر رأيته
لقبر ثوى بين اللّوى فالدكادكِ

فقلت له: إن الشجى يبعث الشجى
فدعءني فهذا كلُّه قبر مالكِ


وفي قصيدة أخرى يقول معدّداً محاسن أخيه حزناً عليه:


سقى الله أرضاً حلّها قبر مالك
ذهاب الغوادي المدجنات فأمرعا

تحيته مني وإن كان نائياً
وأضحى ترابا فوقه الأرض بلقعا

فإن تكن الأيام فرّقن بيننا
فقد بات محموداً أخي يوم ودّعا

فتىً كان مقداماً إلى الرَّوءع ركضه
سريعاً الى الداعي اذا هو أفزعا

فتى كان أحيا من فتاة حييَّة
وأشجع من ليث اذا ما تمنّعا


ويروى أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه حين دخل عليه متمم سأله عن كثرة بكائه على أخيه مالك وإمعانه في رثائه فأجابه قائلاً: لقد أسرتءني تغلب في الجاهلية فبلغ ذلك أخي مالكاً فجاء لفدائي فلما أنء رآه القوم أُعجبوا بجماله وحديثه فأطلقوني بغير فداء، فطلب منه عمر أن يُنشده من شعره في أخيه فأنشده بعض مراثيه الشعرية المؤثّرة فقال له: يامتمم لو كنتُ أقول الشعر لسرني أن أقول في أخي زيد مثل ما قلت في أخيك، فكان جوابه: لو قُتل أخي كقِتءلة أخيك ما قلت فيه شعراً أبداً، ومضمون هذا الجواب أن زيد بن الخطاب استشهد في حرب الردة دفاعاً عن الإسلام. أما أخوه مالك فقد قُتل مرتداً وهو يقاوم المدافعين عن الإسلام ولذلك كانت حسرة أخيه متمم عليه أشد وأقسى.. وقول متمم للخليفة الثاني: إنه لو كان قتءل أخي مالك كاستشهاد أخيك زيد رضي الله عنه ما جزعت لموته أو على حد تعبيره: "ما قلت فيه شعراً أبدا" ودلالة هذا القول أن إكثاره من رثاء أخيه لأنه يدرك المصير الذي انتهى اليه فقد أدرك الإسلام ولم يحسن إسلامه، وكذلك يمكن القول بالنسبة للشاعرة الخنساء في مراثيها لأخويءها دون أبنائها فقد ماتا على الجاهلية. بينما أبناؤها اكرمهم الله بالشهادة فكأن رثاءها لهم عدم رضا منها بنهايتهم وهي التي كانت تدفعهم إلى هذه النهاية الشريفة، فالاستشهاد في سبيل الله هو أقصر الطرق المؤدية إلى الجنة الموعودة.

ولبيد بن ربيعة بن عامر شاعر مخضرم نشأ في الجاهلية وامتد به العمر في الإسلام حتى ليروى أنه عُمّر حتى بلغ (140) عاماً، وهو من فحول الشعراء، ومعدود من النخبة أصحاب المعلقات في العصر الجاهلي، ومطلع معلقته:


عفت الديار محلّها فمقامها
بمنى تأبد غولها فرجامها


وكان إسلامه قبل الفتح ووفاته عام (40) للهجرة، وقد شَرُف بلقاء الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فكانت له بذلك الصحبة الكريمة ويروى أنه صلى الله عليه وسلم قال: أصدق كلمة قالها شاعر:


ألا كل شئ ما خلا الله باطل


وهذا القول شطر بيت للشاعر لبيد، وشعره كله قبل الإسلام، ومن رثائه في أخيه لأمه واسمه: اربد بن قيس وفي شعره كثير من الحكمة كقوله:


فلا جزعٌ إن فرق الدهر بيننا
فكل امرئ يوماً به الدهر فاجع

وما المرء إلا كالشهاب وضوئه
يحور رماداً بعد إذ هو ساطع

أليس ورائي إن تراخت منيتي
لزوم العصا تُحنى عليها الأصابع

أخبِّر اخبار القرون التي مضتء
أدبّ كأنى كلما قمت راكع

أتجزع مما أحدث الدهر بالفتى
وأي كريم لم تصبه القوارع

لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى
ولا زاجرات الطير ما الله صانع


وكان لبيد صاحب موهبة شعرية متألقة أثبتها في شعره خلال حياته في العهد الجاهلي حتى صارت فيما بعد مجال استحسان دائم مثل الأبيات السالفة وسواها. بما تنطوي عليه من الصدق في محتواها وروعة أسلوبها وسلاسته بالنسبة للشعر الجاهلي، ومع فحولته في الشعر وتفوقه في ميدانه وخصوبة شاعريته فقد امتنع عن قول الشعر بعد إسلامه تأثّماً من قوله. يؤكد ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى المغيرة بن شعبه واليه على الكوفة يأمره بقوله: استنشد مَنء قِبلك من شعراء مِصرك ماقالوا من شعر في الإسلام، فلما طلب المغيرة من الشاعر لبيد ذلك كان جوابه: أن كتب سورة البقرة في صحيفة أتى بها اليه قائلاً:
أبدلني الله هذه في الإسلام مكان الشعر.. وهذا التوجه من شاعر في حجم لبيد يمتنع عن قول الشعر في الإسلام، لا عجزاً منه وهو معروف بمكانته الشعرية ومعدود في طبقة فحول الشعراء الجاهليين وإنما روءع منه وخشية أن يشغله الشعر عن القرآن: مما يؤيد أن رثاء الشاعرة الخنساء لأخويها في الجاهلية وعدم رثائها لأبنائها في الإسلام يدخل تحت هذا المضمون، فهي تدرك بعد إسلامها: أن نهاية شقاء المسلم في دنياه بداية سعادته في أخراه اذا مات شهيداً والله تبارك وتعالى يقول عن الشهداء في كتابه العزيز {والشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم).. فللشهداء مكانة مرموقة في الآخرة كما وعدهم ربهم، وفي ظل هذا المفهوم فقد تحرجت الخنساء من رثاء أبنائها وهم شهـداء حتى لا يفسر رثاؤها لهم بأنه جـزع من نيلهم الشهادة في أشرف الميادين، وهو ما لا تريده ولا ترضاه، ولذلك اشتهرت بشعرها في أخويها وصمتت محتسبةً عن رثاء أبنائها الأربعة


صورةصورة صورة

صورةصورةصورةصورةصورة
عذرا الى النادي العريق ابثه زفرات وجد قد ثوى بفؤادي
ياويح قلب وزعت أشواقه بين الحبيب وبين هذا النادي

مجدي خاشقجي
ريم الفلا
نحلــــــ النادي ـــــــة
مشاركات: 3773
اشترك في: 04-14-2001 12:17 PM
اتصال:

مشاركةبواسطة ريم الفلا » 08-31-2002 11:53 AM


من روائع الرثاء - 4


والرثاء من أهم الأغراض الشعرية وأكثرها صلة بالنفس البشرية والتصاقاً بالوجدان الانساني، ومن أروع المراثي التي قيلت في الرثاء بعض قصائد رثائية تفردت بالتعبير الصادق عن الخوالج النفسية والنوازع الذاتية التي تمثل واقع دنيانا وما يحيطها من أكدار وما يكتنفها من مصائب ومنغصات، وانها اذا حملت المسرات حيناً أعقبتها حسرات في أكثر الأحيان، ومن أروع المشاعر التي يسجلها شاعر في رثائه فيعبّر عن مهجة محترقة وحزن عميق وحنين لا ينفد رصيده، ما قد يكون في رثاء الأولاد وهم فلذات الأكباد، ومن ذلك القصيدة التي قالها الشاعر أبو ذؤيب الهذلي في رثاء بنيه واستهلها بقوله:


أمن المنون وريبه يتفجع
والدهر ليس بمعتب مَنء يجزع

أودى بني و أعقبوني حسرة
بعد الرقاد وعَبءره ما تُقلع

ولقد حرصت بأن أدافع عنهم
واذا المنيّة أقبلت لا تُدفع

واذا المنية أنشبت أظفارها
ألءفيت كل تميمة لا تنفع

والنفس راغبة اذا رغّبتها
واذا تُرد الى قليل تقنع


فهذه القصيدة إلى جانب ما تنطوي عليه أبياتها من تفجع فإنها تشتمل على أبيات فيها جانب كبير من الحكمة كما في البيت الأخير بالذات وبعض أبياتها درجت مدرج الأشعار المتداولة.

ومساحة الحزن حين تبسط ظلالها الكثيفة على روح الشاعر فإنه ينسج من هذه الكثافة المعتمة صورة حزينة لقلب جريح بفقد عزيز عليه، فكيف اذا كان هذا العزيز هو ابنه الذي يكبر أمامه وتنمو مداركه تحت آماله ويعلّق عليه رجاءه بعد الله فاذا به يفقده في لمحة خاطفة مما يجهض آماله فيه ويقوّض تطلعاته نحوه، وتزداد الفجوة اتساعاً برحيل الفقيد وعدم ملئها لقلب الوالد المحزون بما يخفف لواعج الحزن ويأسو جراح الألم، فاذا كان الشاعر شديد الحساسية متوتّر الأعصاب مثل ابن الرومي فان تجسيد المصيبة يكون أبلغ وأعمق، فهذا الشاعر الموهوب يصوّر بالكلمة ما لا تستطيع تصويره الآلة المصوّرة، ويجسد الواقعة بكل أبعادها الحسية والمعنوية ومن جميع جنباتها في أبيات ملتاعة، ولذلك نجده عند وفاة محمد أوسط أبنائه في سنّ مبكرة جاشت أحاسيسه بالأحزان فاستنفرت شاعريته الخصبة فكان أن ترجم مشاعره الأبوية في قصيدة تنزف أبياتها بالدمع كما كان ابنه ينزف بالدم حتى فاضت روحه، والأب يشهد جسده تعتصره الأوجاع الشديدة وروحه كأنما تتساقط أجزاء من شدة النزع، وهذا المشهد المؤثر ينعكس على نفسية الوالد المشفق على ابنه المفارق له، وهو لا يملك شيئا ازاءه سوى أن يرسم اللوحة القاتمة لمشهد الموت على هذا النحو:


توخَّى حِمام الموت أوسط صبيتي
فلله كيف اختار واسطة العقد

لقد قلّ بين المهد واللحد لُبثه
فلم ينسَ عهد المهد إذ ضُم في اللحد

ألح عليه النزف حتى أحاله
الى صفرة الجادي عن حمرة الورد

وظل على الأيدي تساقط نفسه
ويذوي كما يذوي القصيب من الرند

فيالكِ من نفس تساقط أنفساً
تساقُطَ درّ من نظام بلا عقد

ألام لما أبدي عليك من الأسى
وإني لأخفي منك أضعاف ما أبديد


وعلى هذا المنوال تتوالى أبيات القصيدة التي تفيض بلوعة الحزن الملتهب وتدل على أنها صادرة عن شاعرية قادرة على تصوير الأحزان وتجسيد المآسي، إلى جانب رسم المشاهد وفق نمط يجعلها ناطقة بالحدث مستوفية لمعالم الصورة، فابن الرومي الشاعر المصور بارع في رسم الوقائع وتلوين الأحداث وتجسيم المعاني، بحيث تبدو كما لو كانت مرسومة بريشة رسام لا بقلم شاعر، فهو يُفيض على الألفاظ من حسه ومهارته وابداعه ما يجعلها شاخصة كما لو كانت قد رُسمت بالفرشاة أو نُحتت بالإزميل.

وعباس العقاد في كتابه: "ابن الرومي حياته من شعره" يتحدث عن دقة الشعور عنده وفرط احساسه وقدرته على ابتكار الصور وتضخيمها وذلك يتمثل في: "الشعور الذي يسبق كل تشخيص لابن الرومي أو كل محسوس أو غير محسوس".. ثم يفسر العقاد المقصود بالتشخيص على أنه: "تلك الملكة الخالقة التي تستمد قدرتها من سعة الشعور حيناً أو من دقة الشعور حيناً آخر، فالشعور الواسع هو الذي يستوعب كل ما في الأراضين والسماوات من الأجسام والمعاني، فاذا هي حية كلها لأنها جزء من تلك الحياة المستوعبة الشاملة، والشعور الدقيق هو الذي يتأثر بكل مؤثر ويهتز لكل هامسة ولامسة، فيستبعد جدَّ الاستبعاد أن تؤثر فيه الأشياء ذلك التأثير وتوقظه تلك اليقظة وهي هامدة جامدة صفر من العاطفة خلو من الارادة، وهذا الشعور الدقيق هو شعور ابن الرومي بكل ما حوله، وسبب ما عنده من قدرة على الإحياء وقدرة التشخيص".. وفي موضع آخر يؤكد هذه الحقيقة عن هذا الشاعر بما يعطي صورة واضحة عن منهجه وموهبته التي تمده بعطاء كبير في التجسيد والتصوير فيقول: "لو كان ابن الرومي مصوراً لما استغرب منه هذا الولع بالألوان والظلال والأشكال والحركات، لأنه كان يستطيع إذن أن يشرع في عمله قبل أن يلتفت إلى عناصر الصورة المحسوسة، وُيجيلها في روعة ويهيئها للظهور على قرطاسه".

والإنسان اذا فقد ابنه الذي هو جزء منه وبعض من تكوينه وهو في ذاته مرتبط به عاطفياً وانسانياً، فانه لا يجد ما يفزع إليه للتنفيس عن مُصابه فيه سوى البكاء أو الرثاء إن كان من القادرين عليه نثراً أو شعراً، وفي بكائه أو رثائه ما يخفف حدة الفاجعة التي قد تكون هدّت جسمه وجرحت قلبه، كما فعل الشاعر أبوتمام في رثائه لابنه وقد كان يشاهده يصارع سكرات الموت أمامه، وهو لا يستطيع أن يخفّف آلامه ولا أن يرد عنه أجله المحتوم، لكنه قد استطاع أن يرسم له صورة واقعية في احتضاره مودعاً له بهذه الأبيات الشعرية العاطفية:


آخر عهدي به صريعاً
للموت بالداء مستكينا

اذا شكا غُصة وكرباً
لاحظ أو راجع الأنينا

يدير في رجعه لساناً
يمنعه الموت أن يُبينا

يَشخص طوراً بناظريه
وتارة يُطبق الجفونا

ثم قضى نحبه فأمسى
في جدث للثرى دفينا

بعيد دار قريب جار
قد فارق الإلف والخدينا


ومن شعر الحكمة في الرثاء ما قاله علي بن محمد التهامي هو شاعر معروف، فحين مات ابنه اتجه لرثائه، وعلى الرغم من الحسرة التي كان يعانيها لفقده أملى عليه الموقف المأساوي التفكير في أحوال الدنيا وكيف أنها لا تدوم على حال من الهناء أو الشقاء، فكما جاء اليها الانسان فانه سوف يرحل عنها، فقد طُبعت على كدر ونحن نريدها صافية لا كدر فيها وهذا ضدّ طبيعة الأشياء، وفي ظل هذا التصور كان رثاؤه لابنه بقصيدة تنطوي أكثر أبياتها على الحكمة ومنها ما سار مسار الأمثال مثل هذه الأبيات:


حكم المنيّة في البرية جاري
ما هذه الدنيا بدار قرار

بينا يُرى الانسان فيها مُخبراً
حتى يُرى خبراً من الأخبار

طُبعت على كدر وأنت تريدها
صفواً من الأكدار والأقذار

ومكلّف الأيام ضد طباعها
متطلّب في الماء جذوة نار

فالعيش نوم والمنيّة يقظة
والمرء بينهما خيال ساري

ياكوكباً ما كان أقصر عمره
وكذا تكون كواكب الأسحار


وفي هذه الأبيات الستة نجد الشاعر في خمسة منها يتحدث عن الدنيا وتقلباتها والحياة ومنغصاتها، وينتهي في البيت السادس إلى التفجع على ابنه الذي شبهه بكوكب أضاء في الأفق ثم سرعان ما اختفى، وقد جاء وصفه له بأنه مثل كواكب الأسحار لأنها قصيرة الأعمار تبدو في السماء برهة من الوقت ثم تختفي بعد زمن محدود.

ومن أصدق المراثي وأشهرها قصيدة أبي العلاء المعري (غير مجد) التي كانت رثاءً في أحد أخلص أصدقائه من علماء زمانه، ولقد كان مخلصاً في قوله صادقاً في رثائه لأنه لا يريد من ورائها نفعاً ولا يرجو رفعة، فهو زاهد في الدنيا معتزل للمجتمع، ولكن موت صديقه الفقيه فجّر في ذاته هذه المشاعر الانسانية، فكانت قصيدته هذه التي ضمّنها فلسفته ورؤيته للحياة من حوله، وقد استعرض تجربته الطويلة التي أطلقت على لسانه باقة من الحكم، عرفت عنه بحكم معايشته للأحداث التي مرت به مما جعل لهذه القصيدة صدى واسعا لأنها تعبر عن الحقيقة التي يجهلها كثيرون من الناس أو يتجاهلونها، ولأهميتها وما تحمله من عِبَر فقد ذاعت أبياتها في عصر المعري وما بعده من عصور ولا تزال تتردد أصداؤها في كل مناسبة حتى عصرنا هذا، وهو يستهلها بقوله:


غير مُجدٍ في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شادي
ويصور الواقع الذي يعيشه بنو آدم ولكننا ننساه في غمرة انشغالنا بدنيانا:


وشبيه صوت النعي اذا قيس بصوت البشير في كل نادي
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد

خفف الوطء ما أظن أديم الأرض الا من هذه الأجساد
وقبيح بنا وإن قَدُم العهد هوان الآباء والأجداد

سر إن استطعت في الهواء
رويداً لااختيالا على رفات العباد

رُبّ لحد قد صار لحداً مراراً
ضاحك من تزاحم الأضداد

ودفين على بقايا دفين
في طويل الأزمان والآباد

تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد
إنّ حزناً في ساعة الموت أضعاف سرور في ساعة الميلاد


ومضامين هذه القصيدة التي قدمها المعري لأمته بقصد الاعتبار واضحة الدلالة في مغزاها وافية الفكرة في مبناها، ليست لحاجة إلى مزيد شرح وفهم وإن كانت بحاجة إلى ادراك واعتبار.

ولعل من أجمل ما قيل في عصرنا الحديث: رثاء الشاعر أحمد شوقي لأبيه، وهو رثاء صادر عن فجيعة موجعة على فراق الأب الحاني الذي كانت عواطفه تغمر ابنه والانسجام يسود بينهما، حتى صارا كأنهما روح واحدة في جسدين لمتانة صلة الأبوة بالبنوة، وقد أصبحا كما عبّر شوقي عن هذا التمازج العاطفي الرائع الذي استطاع الابن الشاعر أن يجسده حين طوى الموت الأب المحب وهو يمثل جانب الأبوة الرائعة وبقي الابن الملتاع وهو يمثل جانب البنوة الحزين، فكأنهما بنيان واحد متماسك انقسم الى شطرين شطر رحل وشطر بقي، يعاني شعور الفراغ بفقد الأب العزيز الذي لا يملأ مكانه كل مباهج الدنيا حتى لكأنه هو الذي مات أو هذا ما تخيله الابن الشاعر عن رحيل والده الفقيد:


أنا مَنء مات ومَنء مات أنا
لقي الموت كلانا مرتين

نحن كنا مهجة في بدن
ثم صرنا مهجة في بدنين

ثم عُدنا مهجة في بدن
ثم نُلقى جثة في كفنين

ما أبي إلاّ أخ فارقته
وُدّه الصدق وودّ الناس مَيءن


عبارات محدودة عفوية في اطارها، مؤثرة في معانيها تُبرز رابطة الأب بالابن وارتباط الابن بالأب في تلاحم أسري تجعلنا نشعر من خلال ذلك الرثاء بأنه نابع من القلب متعمق في الوجدان، فيه نبض صادق بالمودة وتمازج في العواطف.. والرثاء تعبير عن شفافية انسانية وتصوير لمشاعر ذاتية، وأداء معبر عن شحنة الألم وصورة ناطقة عن اتساع مساحة الفراق وتباعد الأحباب بشكل حتمي لا يُرجى معه عودة غائب ولا لقاء راحل، ولا يبقى بعد ذلك سوى اختزان ذكريات حزينة تكاد لا تمحوها الأعوام.


صورةصورة صورة

صورةصورةصورةصورةصورة
عذرا الى النادي العريق ابثه زفرات وجد قد ثوى بفؤادي
ياويح قلب وزعت أشواقه بين الحبيب وبين هذا النادي

مجدي خاشقجي
ريم الفلا
نحلــــــ النادي ـــــــة
مشاركات: 3773
اشترك في: 04-14-2001 12:17 PM
اتصال:

مشاركةبواسطة ريم الفلا » 09-04-2002 12:44 AM


(45) الشعر، الموهبة، والرسالة
يوسف بن عبد الله بوقرين
مجلة الواحة


ليس الشعر إلا وليد الشعور، والشعر تأثر وانفعال، رؤى وأحاسيس، عاطفة ووجدان صور وتعبيرات، ألفاظ تكسو التعبير رونقاً خاصاً، ونغماً موسيقياً ملائماً إنه سطور لامعة في غياهب العقل الباطن تمدها بذلك اللمعان ومضات الذهن وإدراك العقل الواعي

الشعر لوحات فنية تجول في نفس الشاعر، وانفعالات تضطرم في داخله، وهي تدور بين المد والجزر من حيث القوة الخارجية والتأثير النفسي الذي يطغى على ذلك الإنسان. فأما صاحب الموهبة المتأصلة، والقريحة الوقادة، فإنه يستطيع أن يموسق تلك اللحون، ويصوّر تلك الآهات التي تذوب في نفسه الشفافة، وعقله الواعي، فتبرز في قطع منمنمة الشكل، مخملية اللون، وعقود جمان ذات لمسات هندسية، وأفياء تمد الروح بالدفء، وتنزع منها زخات الألم الملتهبة.

وأما من لم يؤت تلك الموهبة فإنه لا يخلو من تلك الأحاسيس الجياشة، والنزعات المتصارعة، فيبقى في حالة من الوهن والإعياء، وقد يتنفس منها النور كشطحات غير منظمة ولوحات مرتبكة النسج، مهلهلة التصميم، ولكنها تنم عن خلجات انفعالية ولو لم يكن صاحبها ذا قدرة على رصف الكلام، وتنضيد اللؤلؤ، إلا إنه قد يستغلها في سبك نثر مسجع أشبه بلغة الشعر، وأليق بذوق الشعراء، ومن هنا نشأ الشعر والنثر وأصبحا توأمين في مسارين طويلين إلى قيام الساعة.

ونلحظ مما سبق أن النثر وسيلة من وسائل الإبانة عما يخالج النفس من لذة وألم، ولذلك نستطيع القول بأن الشعر والنثر هما من سنخ واحد وهو ما يسمى "بعلم الأدب، وموضوعه الكلام المنظوم والمنثور من حيث فصاحته وبلاغته، وغايته الإجادة في فنَّيْ المنظوم والمنثور على أساليب العرب، وتهذيب العقل، وتزكية الجنان"

فالكتابات النثرية ذات الخيال المجنح، والمعاني السامية، والأفكار النبيلة، التي تلتزم بأركان البلاغة وتعتمد على ما يبرز تلك الكتابات في حلل خضراء، ولا يتأتى ذلك إلا بالاعتماد على السجع والتشبيه وقوة السبك واننسجام الالفاظ.. مثل هذا النثر الذي أسبغنا عليه تلك الصفات، والذي يلتزم بقواعد الكتابة الفنية هو "النثر الأدبي" الذي يحاكي الشعر من حيث معـناه ومبناه. "وأما الشعر فإنه بمجرد أن اهتدى إليه الإنسان، أصبح فناً جميلاً لا يستخدم لأغراض الحياة العادية، بل ينظم بطريقة خاصة، ولأهداف خاصة، جعلت منه تراثاً أدبياً باقياً"، تعالج بواسطته أغراض الشعر المعروفة كالتشبيب والفخر والمدح والهجاء والرثاء والاعتذار والوصف والحكمة.

لماذا لمع الشعر في سماء الأدب؟


ورد في الأمثال النبوية: إن من البيان لسحراً. جاء في الأثر أن العلاء بن الحضرمي، وفد على النبي (ص). فقال: يا رسول الله إن لي أهل بيت أحسن إليهم فيسيؤون، وأصلهم فيقطعون، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ( ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم. وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم. فقال العلاء إني قد قلت شعراً، وأنشد:


وحيِّ ذوي الأضغان تسب قلوبهمْ
تحيتك العظمى فقد يرفع النَّغلْ

فإن أظهروا خيراً فجاز بمثله
وإن خنسوا عنك الحديث فلا تسلْ

فإن الذي يؤذيك منه سماعه
وإن الذي قالوا واءك لم يُقلْ


فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحراً، وإن شعرك لحسن، وإن كتاب الله أحسن ". ففي هذا الخبر نجد أنه وردت فيه ثلاث جمل تخص موضوع حديثنا وهي: إن من الشعر لحكمة، وإن من البيان لسحراً، وإن شعرك لحسن. وكل جملة قد أكدت بعدة مؤكدات تدل على أهمية المؤكد وتوضح موقعه من نفس السامع، وثبوت منزلته التي تفرد بها.

فالأدب منذ بزوغ فجره وهو يحرز قصب السبق، ويمتلك مشاعر البشر، سواء كانوا شعراء أو غير شعراء، فمتذوق الشعر يتفاعل معه تلبية لنوازع ورغبات داخلية مكبوتة، وكذلك إشادة بمن يتلمس مواجع آلامه، ويتغنى بأفراحه، فيما يكتبه من قصائد شعرية جميلة. وكما يقول صاحب كتاب "فصول في الأدب الحديث والنقد" في معرض حديثه عن "الإبداع والإلهام": (إن دارس الشعر بخاصة، والأدب بصورة عامة في مختلف الشعوب والأمم، سيجد الأدب هو السجل الإنساني الحقيقي). ويضيف: (لأن الشعر بخاصة والفن بصورة عامة، سجل المشاعر الحساسة العميقة التي يحس بها الفرد ويعاني منها الإنسان أو يسعد بها البشر، في الآلام والأفراح والأتراح والأمل الحلو والخيبة المرهقه.

وكما يقول أيضاً "الأنصاري" في تصديره ديوان "ربيعه الرقي": (والشعر غناء الحياة، وترجمان النفس، وروح الشاعر ومعاناته في أمسه ويومه وغده، والنفس الإنسانية واحدة في معاناتها، وصدق مشاعرها، مهما انطوت القرون، وكرت السنون، ومرت الليالي والأيام"

إذاً: الشعر تاريخ قائم بذاته، وحضارة بكل ما تحمله من نتاج عبر أجيالها المختلفة، وعصورها الغابرة.

وفيما يلي سوف نوجز الأسباب التي جعلت "الشعر" يبرز كأداة فنية للتعبير وتسجيل الأحداث:

من الأسباب كما يقول الدكتور/ محمد مندور في كتابه "الأدب وفنونه":

1 - "لأن أقدم النصوص الأدبية التي وصلت إلينا نصوص شعرية لا نثرية، أي إن الشعر كان أسبق ظهوراً من النثر الأدبي.
2 - تدوين الأشعار المحفوظة أول الأمر.
3 - سهولة حفظ الشعر وتناقله حتى جاء عصر التدوين
أضف إلى ذلك:
4 - الجرس الموسيقي الذي يتولد من تأثير الوزن والقافية على الأذن، مما ينتج عن ذلك شدة النشوة في نفس السامع.
5 - اهتمام الناس بهذا اللون ـ الشعر ـ فلو استقرأنا العصور لرأينا الخلفاء والأمراء يحتفون بالشعر ويهتمون بالشعراء، ويمنحونهم الجوائز السنية حتى على البيت الواحد والبيتين، وكذا عادة العرب في الجاهلية إذا نبغ فيهم شاعر أشاروا إليه وأقاموا له الأفراح.
6 - علاقة الشعر بالفقه واللغة، حيث الإفادة منه في نظم بعض القواعد الفقهية التي تسهل على طالب العلم حفظها، وكذلك القواعد النحوية، حيث ظهرت الألفيات كألفية ابن مالك وغيرها.
7 - ومن الأمور التي فضل الشعر بها، كما يقول ابن رشيق: "والشعر مزلة العقول، وذلك أن أحداً ما صنعه قط فكتمه ولو كان رديئاً، وإنما ذلك لسروره به، وإكباره إياه، وهذه زيادة في فضل الشعر، وتنبيه على قدره وحسن موقعه من كل نفس


متى وكيف يكتب الشاعر ؟


كنت أظن - قبل أن أكوِّن علاقة مع الشعر - أن أي إنسان يكتب شعراً لا بد أن يكون في استطاعته الكتابة متى شاء وفي أي لون أحب، ولما توطدت العلاقة مع الأدب، وبدأت الكتابة طرحت هذا التساؤل على أحد أساتذة الجامعة فكان مجمل قوله: ليس الحال كما تظن إنما الشاعر كالغصن لا يصفق إلا في مهب الريح، فقد ينضب المعين، وينقطع حبل الأفكار، وتحول العوائق، ويستغلق التعبير، مما يجعل الشاعر - حتى ولو كان مطبوعاً - يقف مذهولاً لا يستطيع أن يتم قصيدة بدأها، للأسباب السالفة الذكر، فينصرف عنها لتستجم نفسه، ويلملم خيوط أفكاره، ويستعيد ما كتبه مرة وأخرى، لينطلق فيها ـ أي القصيدة ـ ويسكنها قالبها الشعري الذي ستستقر فيه.

وهناك فهم خاطىء نجده عند عامة الناس من حيث إلحاحهم على الشاعر كي يستجيب لهم في التعبير عما في أنفسهم من حب وألم وهجاء، أي يريدونه أن ينطق بما تكن صدورهم، وتنطوي عليه سرائرهم، ليقى أداة مصنعية جامدة تدار في كل وقت، وهذا بطبيعة الحال من أخطر ما يحدق بالأديب من عوائق في طريق سيره، لأن الشاعر انطلاقة بركانية، وشرارة لا تخضع لتسخير، وإنما تستجيب رغبة للمؤثرات والعوامل الداعية لذلك.

وسوف نوضح ما سبق من خلال النقطتين التاليتين:


الأولى: دواعي قول الشعر


يقول ابن قتيبة: "وللشعر دواع تحث البطيء وتبعث المتكلف، منها الشراب، ومنها الطرب، ومنها الطمع، ومنها الغضب، ومنها الشوق... ويقال: ما استدعي شارد الشعر بمثل الماء الجاري والشرف العالي والمكان الخَضير الخالي. وقال عبد الملك لأرطاة بن سهية: هل تقول اليوم شعراً؟. قال: وكيف أقوله وأنا لا أشرب ولا أطرب ولا أغضب، وإنما يكون الشعر بواحدة من هذه

إذاً: فلا بدّ من توفر مثل تلك الدواعي التي تستثير القريحة، وتجعل الشاعر يعيش جواً من الشاعرية المحضة، وتجعله قادراً على الدخول في زحمة الخيالات، وتقمص شخصية انفعالية غير شخصيته كإنسان يأكل ويشرب، أو يحس ويتألم، كما يصنع العامة من الناس.


الثانية: أوقات صنعة الشعر


قد يظن البعض أن الشعر كما تصول له نفسه من السهولة بمكان، بل الشعر أسمى وأخطر من ذلك، فليس أن يضم المرء كلمات مهلهلة، ثم يقيسها بالمسطرة، ثم يضع في مقابلها كلمات بنفس المقدار خالية المضمون، مبتذلة المعنى، ليكون بيتاً شعرياً. ذلك أن للشعر دواعٍ وله أوقات يتحينها الشاعر ليكسب شعره رونقاً وطراوة، وقوة سبك، ورقة معان، ففي ذلك يقول ابن قتيبة : "وللشعر أوقات يبعد فيها قريـبه ويستصعب فيها ريضه.. منها أول الليل قبل تغشي الكرى، ومنها صدر النهار قبل الغداء، ومنها يوم شرب الدواء، ومنها الخلوة في المجلس وفي المسير"

وبطبيعة الحال لا يعدو قول قدماء النقاد كابن قتيبة وغيره سوى ظواهر رأوها جديرة بأن تدون لكي يكون للشعر سياج من الهيبة، وحدود تجعله متميزاً عن غيره من الفنون الأدبية الأخرى، وإلا فهي ليست قواعد إلهية، وأنماطاً من النظريات العلمية، لأن الشاعر أو بالأحرى المشاعر التي تتموج في قلب الشاعر لا تنتظر إحضار قلم أو ورقة، لأنها بمثابة القنبلة الموقوتة، ولا أعني بالموقوتة التي تنتظر وقت ما قبل الغداء أو الليل قبل تغشي الكرى، وإنما العواطف والمشاعر هي التي تفرض نفسها على الشاعر، لا العكس. وليس معنى هذا أن ننكر الزمان والمكان فهما عنصران أساسيان في صناعة الشعر وترقيق الطبع، وشحذ القريحة.

وابن رشيق ينحو هذا المنحى - أي منحى ابن قتيبة السابق - تحديد أوقات صناعة الشعر حيث يقول : "فليس يفتح مقفل باب الخواطر مثل مباكرة العمل بالأسحار عند الهبوب من النوم، لكون النفس مجتمعة لم يتفرق حسّها في أسباب اللهو أو المعيشة أو غير ذلك مما يعيبها"

ومما يؤيد عدم اكتراث المبدع بالزمان والمكان، انه لو استقرأ تاريخنا الحافل بروائع القصائد والتي تعد من عيون الشعر العربي، لرأينا الشعر فيها أشبه ما يكون بالمذياع الواثب للعطاء طوع الإرادة، والقبائل في العصر الجاهلي، والخلفاء والأمراء في العصور الأخرى، كانوا يقربون الشعراء، ويصرفون جلّ أموالهم عليهم، وينادمونهم لأنهم - أي الشعراء - لسان البلاط، وهم الذين يرفعون ويخفضون، ومثل هذا يحتاج إلى السرعة في الرد، ومقارعة الخصم الحجة بالحجة، في تلك اللحظة التي تحتم على الشاعر المبدع ألا يلتزم بالحدود الزمانية، وأقرب مثال حي على ذلك قصيدة الفرزدق في مدح الامام علي بن الحسين زين العابدين (ع) في قصتها المشهورة، حيث أجاب فيها ارتجالاً عن سؤال هشام بن عبد الملك:


يا سائلي اين حل الجود والكرم
عندي بيانٌ إذا طلابه قدموا

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم


وهناك مواقف تعج كتب الأدب بالكثير منها.


صقل الموهبة وشحذ القريحة:


إن من لوحظت عليه علامات النبوغ، وتوسمت فيه الملكات النفسية، والأحاسيس الجميلة، التي تؤهله لأن يكون في عداد الموهوبين، سواء كان مطبوعاً بفطرته، أو كان مصنوعاً تعلم صنعته الشعر بالاضافة إلى الملكات التي تنطوي عليها نفسه ولا تظهر إلا بالمران والتثقيف.. وكلا النوعين من مطبوع ومصنوع، هما قوام العملية الشعرية، ورافدان من روافد الأدب في مسيرته الطبعية، وقد برز من خلال ما يسمى بمدرسة الطبع والصنع في العصر العباسي، وإن كانت الصنعة والتكلف ممقوتان في كل شيء في الأمور الحياتية والمعاشية، والتكلف من عوامل الانحدار بالعمل الفني، وأقرب مثال على ذلك شلال الماء فإنه وإن كان جميلاً وأخاذاً، إلا ان ما يحدثه من جلبة وضجيج يجعله ثقيلاً على الأذن، وقد يجلب لها الصم، أما الجدول ـ إشارة إلى الشاعر المطبوع ـ الذي يحدث تموجات صوتية هادئة وأنغاماً موسيقية حالمة، فإنه يأخذ من النفس مأخذه، وقد تغفو العين على نعومة انسيابه ومداعبته شفاه الجدول، وكذا الحال بالنسبة لنوعي الشعر السالفي الذكر.

وتحدثنا كتب الأدب عن أحوال بعض الشعراء في قضية نظم الشعر كما يقول ابن قتيبة في كتابه: الشعر والشعراء، وكان الفرزدق يقول : " أنا أشعر تميم عند تميم، وربما أتت عليَّ ساعة نزع ضرس أهون علي من قول بيت..."

أو كما يقول ابن رشيق في العمدة وفي نفس المعنى: "وكان أبو تمام يكره نفسه على العمل حتى يظهر ذلك في شعره. حكى ذلك عنه بعض أصحابه، قال: استأذنت عليه - وكان لا يستتر عني - فأذن لي فدخلت [فإذا هو] في بيت مصهرج قد غسل بالماء، يتقلب يميناً وشمالاً، فقلت: لقد بلغ بك الحر مبلغاً شديداً، قال: لا، ولكن غيره، ومكث كذلك ساعة ثم قام كأنما أطلق من عقال، فقال : الآن وردت" يعني بذلك القصيدة.

وإن ما تم نقله هنا عن حالات نظم الشعر لا يعني أن الشعر بهذه القسوة والاجترار، إن صح التعبير، وإنما هو شحذ قريحة وصقل موهبة، وما نقرأه في كتب الأدب من أمثال تلك الظواهر هي ما هو إلا إيضاح لمنزلة الشعر وخطورته (الشعر صعب وطويل سلّمه) حتى لا يكون كالواقع الذي نعيشه اليوم، كثرة شعراء وقلة مضمون. فالمتشاعرون حسبوا بأن الشعر يباع في متاجر الوارقين دون موهبة أو وعي في مجال علم الشعر، فالتكلف قد يكون سمة بارزة في أوعية بعض الشعراء لأنهم يبحثون عن القصيدة فلا يرونها وإن فبالقوة والتعسف.

أما المبدع فالقصيدة تبحث عنه، وتلج بابه ليكشف عنه استار الظلام، وذلك بخلق التفاعل وإيجاد الحالة النفسية المناسبة، وعشق الموضوع الذي أرادت القصيدة أن تضطجع على أفيائه.

وإيجازاً لما سبق فإنه يجدر الحديث في النقاط التالية:

1 ـ يقول د / يوسف عز الدين في كتابه "فصول في الأدب الحديث والنقد": (الأديب الناجح والكاتب المبدع يجب ألا يكتفي بالموهبة التي حباها به الله، وإنما يجب أن يصقل هذه الموهبة ويهذب قابليته الفنية بالإطلاع الواسع والدراسة الجادة) .
2 ـ مزاحمة الشعراء وحفظ شيء من قديم الشعر وحديثه.
3 ـ دراسة علم العروض، لمعرفة بحور الشعر، فإن علم العروض فن قائم بذاته، ومادة لها نصيبها في التعليم الجامعي، لأنه يعين الناقد والشاعر في معرفة التفعيلة وعيوب القوافي وما يتعلق بهما.
4 ـ التوغل في دراسة علمي النحو والبلاغة، لأنهما ركنان أساسيان وأداتان من أدوات النقد والشعر.
5 ـ محاولة المبتديء من الشعراء ايجاد كلمات بديلة ـ وبنفس المعنى ـ لأبيات شعرية، وإتمام بعض اشطر الابيات ووضع القوافي البديلة وهذا مما يساعد في خلق جو شعري ايجابي.
6 ـ عقد الحلقات الأدبية لتدارس بعض القصائد من حيث الأسلوب والألفاظ والمعاني، لمعايشة جو القصيدة والسير على خطى الشعراء.
7 ـ حضور الأمسيات التي تعقدها النوادي الأدبية، لمعرفة الشعراء وطرق نظمهم.


دور الشعر ورسالة الشاعر


منذ أن بزغ فجر الدعوة الإسلامية وقبل ذلك، كان للشاعر رسالة منوطة به، سواء تلك التي يفرضها عليه الوسط الإجتماعي، أو تلك التي تفرضها عليه نفسه لحمله راية من رايات الدفاع عن حوزة قبيلته. وحتى بعد ذلك العصر لا زال الشاعر.. يحمل تلك الرسالة المقدسة، فلقد كان الشعر سلاحاً فتاكاً، وقوة ضاربة يحسب لها ألف حساب، وكان الناس يتقون شر ألسنة الشعراء يشترونها منهم.

ولقد استغل الاسلام هذه الوسيلة في الدفاع عن الرسالة الخالدة، والذب عن أعراض المسلمين وتسجيل الأحداث والوقائع، لكي تبقى مثبتة في "ديوان العرب"، وقد امتد هذا العمل إلى العصور التالية، وأصبح لكل فرقة من الفرق الإسلامية شاعر وظيفته الرسمية مناصرة شيعته وحزبه، إلا فترات مرات على الشعر العربي كاد فيها ان يفقد قدسيته إذ كان يتناول موضوعات رخيصة، يصرف فيها الشاعر وقته ويجهد قريحته، لأنه انحرف عن خطه، وضيع رسالته.

والشعر كلما كان صدى للواقع الذي يعيشه الناس، كلما كان اوقع في النفوس، واشد تأثيراً فيها، لأن السامع لا يستعيد البيت إلا اذا كان ينبض بالحياة، حين يسجل نقداً اجتماعياً، أو يعالج خللاً سياسياً، أو يستوعب معاناة عالطفية، أو يستنكر، أو يشجب ويندد...

يقول شوقي:


والشعر ما لم يكن ذكرى وعاطفة
أو حكمة فهو تقطيعٌ وأوزان


ويقول الشيخ الوائلي :

جنِّدِ الشعر للمواقف والشـ
ـعر بلا موقفٍ كلام رتيبُ

وفي موضع آخر يقول :

فهو حيناً قيثارة وهو حيناً
فيض دمع بمقلةٍ مسكوبُ

وهو آناً من اللهيب شواظٌ
وهو آناً من المدامة كوبُ


إلى قوله:


ودعا للسلام وارتاع للإنسان
أن غالت السلام حروبُ

هكذا الشاعر الأصيل صدى
للناس فيما يسرهم وينوب


ومن وظائف الشعر هو الدفاع عن المبادىء الأصلية، أو ابراز قضية من القضايا التي أهملها التاريخ، وما أكثرها. فينبري شاعر في الدفاع عن قضيته، أو عن الرموز التي يريد المخالفون طمسها. يقول الشاعر:


إنني والقصيد يجلوك ما جئــ
ــت ليضفي عليك شيئاً صداحي

هل تزيد الشموس فيما عليها
من شعاع ذبالة المصباح

لا ولا جئت للمديح فما أنــ
ـــتَ فقير لمدحة المداح

إنما جئتُ أنفض الترب عن وجه
أرادوه نائماً وهو صاحي

وأجلّي مبادئاً رسموها
فَشَلاً وهيْ قمة النجاح

ويقول أبو ماضي في ديوانه :

لم يفهموا بالشعر إلا أنه
قد بات واسطة إلى الإثراء

فلذاك ما لاقيت غير مشببٍ
بالغانيات، وطالب لعطاء

ضاقت به الدنيا الرحيبة فانثنى
بالشعر يستجدي بني حوّاء

شقي القريض بهم وما سعدوا به
لولاهم أضحى من السعداء


وعن مهمة الشاعر، يقول ابو ماضي تحت عنوان "الشاعر":


عندما أبدع هذا الكون ربُ العالمينا
ورأى كل الذي فيه جميلاً وثميناً
خلق الشاعر كي يخلق للناس عيونا


نعمْ خلق الشاعر ليكشف زيف الحقائق، ويهتف بالمبادىء، ويرفع الحجب الكثيفة عن حياة المغمورين في خضم الحياة التي بسطت نفوذها عليهم وأرهقتهم ذلاً واعتسافاً.

يقول شاعر العرب الأكبر في العصر الحديث، تحت عنوان "سبيل الجماهير":


وهل أنا إلا شاعر يرتجونه
لنصرة حق أو للطمة معتدي

فمالي عمداً أسْتضيم مواهبي
وأُورِد نفساً حرةً شر موردِ

وعندي لسانٌ لم يخنّيِ بمحفلٍ
كما سيف عمرو لم يخنه بمشهد

ويقول في موضع آخر:

لأم القوافي الويل إن لم يقمْ لها
ضجيجٌ ولم ترتجَّ منها المحافل

سأقذف حر القول غير مخاتلٍ
ولا بد أن يبدو فيخزي المخاتل


سيخزى المخاتل إذا ما فضحه الشاعر، وبيّن أوضاعاً يعيش عليها الدود وينتقل، بقذائف نارية يوريها ضميره الحي، وشعوره النابض، وبطريقة يعشقها الناس، الذين ينتظرون أبياتاً ملتهبة تعالج ما يسعى المصلحون لإصلاحه، الذين استلذوا قافية الأبيات، وأبيات القافية، وراحوا يبحثون عن صدى صوت الشاعر، ويتحسسون مواجع آلامه، إنهم سئموا بكاء الأطلال ورثاء الدمن، وعشقوا أحاسيساً جياشة يرجعون إليها كلما أرهقتهم الحياة، فيجدون فيها ثورة على باطل وتصحيحاً لأوضاع، ويجدون لساناً يداعب أحلامهم فيعشقونه ويذوبون فيه توظيفاً لشعره، واجلاء لصوت الحق في بيانه.

يقول الوائلي مبيناً رسالة الشعر :


قالوا بأن الشعر لهوُ مرفهٍ
وسبيل مرتزق به يتذرع

وإذا تسامينا به فهو الصدى
للنفس يلبس ما تريد ويخلع

إن تطرب الأرواح فهو غناؤها
وإذا شجاها الحزن فهو الأدمع

فذروه حيث يعيشُ غرِّيداً على
فنن وملتاعاً يئن فيوجع

أكبرتُ دور الشعر عمّا صوروا
وعرفت رزء الفكر فيمن لم يعوا

فالشعر أجج ألف نار وانبرى
يلوي أنوف الظالمين ويجدعُ

لو شاء صاغ النجم عقداً ناصعاً
يزهو به عنق أرق وأنصع

أو شاء رد الرمل من نفحاته
خضلاً بأنفاس الشذا يتضوع

أو شاء رد الليل في أسماره
واحات نور تستشف وتلمع

أو شاء قاد من الشعوب كتائباً
يعنو لها من كل أفق مطلع

أنا لا أريد الشعر إن جَّدت بنا
نوبٌ يخلي ما عناه ويقبع

أوأن يوشي الكأس في سحر الهوى
ليضاء ليل المترفين فيسطع

أو أن يباع فيشترى إكليلهُ
تاج من المدح الكذوب مرصع

لكن أريد الشعر وهو بدربنا
مجدٌ وسيف في الكفاح وأدرع


هذه هي رسالة الشعر سيفاً تذاد به الخطوب، وترفع به رايات العزة والكرامة

صورةصورة صورة

صورةصورةصورةصورةصورة
عذرا الى النادي العريق ابثه زفرات وجد قد ثوى بفؤادي
ياويح قلب وزعت أشواقه بين الحبيب وبين هذا النادي

مجدي خاشقجي

العودة إلى “الشعر (بالفصحى)”

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 62 زائراً