قصة قصيرة بقلم عبد المنعم الباز
هوامش جديدة على كتاب الموتي
قد يتصور البعض أنني أكتب هذه القصة لتسجيل أمجاد عائلية خاصة ورغم أن هذا صحيح جزئيا إلا أن القصة أكبر من ذلك . على أية حال هناك بالتأكيد رجال كثيرون مثل أبي استشعروا اقتراب الأزمة بحكم السن والانتظام في الجنازات . وربما صرخ بعضهم محذرا ، لكن يبقي لأبي الحاج محمود الباز أنه في الثمانين من عمره كان يسرع إلى ميكروفون الجامع عقب انتهاء الصلوات ليصرخ أن المقابر امتلأت ويجب زيادتها وأن بناء الجبانات أهم من شراء الموبايلات.
لنبدأ من البداية ، البداية المبكرة كانت مع وفاة عمي محمد الذي صلي الفجر في المسجد واشتري الأهرام ثم أيقظ زوجته ، لا لتعد الشاي بالحليب مثل كل صباح ولكن ليخبرها أنه سيموت الآن . وهي بعد أن ظنته يمزح ونهضت لتصنع الشاي وجدته قد أخرج لفة قماشية كبيرة من الدولاب تحتوى الكفن وبقية متطلبات الغُسل ، ثم شهق شهقة طويلة ومال برأسه ميتا .
انتشرت القصة قبل أن نصلي عليه وتدعمت بنشاط النعش الملحوظ في اتجاه المقبرة وهي حقيقة أشهد عليها شخصيا رغم أن المرحوم كان ثقيل الوزن . وهكذا بدأت أسطورة محلية صغيرة رفعته إلى مصاف أولياء الله الصالحين . المهم في الموضوع هو مسألة الاستعداد بالكفن في الدولاب ، فقد أصبحت منذ اليوم التالي موضة عائلية لكبار السن . وكأن وجود الكفن يطمئنهم على لحظاتهم الأخيرة ويقربهم من الله .
لم يحتل الكفن مكانا في الدواليب فقط ، بل أصبح أحد موضوعات الحديث المفضلة . ليس فقط بعرض الأكفان "المبهجة بشكل يرد الروح" على الضيوف المقربين ( خاصة بين السيدات ) ، ولكن لتهدئة المشاجرات العائلية والزوجية على أمور الدنيا التافهة الزائلة " وما دايم إلا وجه الله" . وتدريجيا أصبح آباء الجيل القديم يتكلمون عن أبنائهم بوصفهم "الورثة" ، رغم أنه لا يوجد عادة ميراث يُذكر .
تزعم أبي بتلقائية هذا الاتجاه الجنائزي ، خاصة أنه على المعاش منذ سنين طويلة ومنتظم في صلاة الجماعة بالمسجد منذ سنين أطول . ثم لعبت المصادفة دورا دراميا في تطور الموضوع ذات يوم جمعة بعيد حين توفي أحد رفقاء المسجد في الصباح . فقد كانت جميع محلات الأقمشة مغلقة في المنصورة وهكذا حمل أبي الكفن المستقر في الدولاب منذ بضعة أعوام إلى منزل رفيقه ، مراهنا على أن عزرائيل سيمهله على الأقل حتى أول الشهر لحين شراء كفن جديد .
ورغم الارتفاع المتوالي للأسعار ، فإن مشهد حمله للكفن أصبح متكررا كل بضعة شهور سواء لظروف الأجازات والأعياد أو لفقر الفقيد وأحيانا كمجرد قربان للصداقة والقرابة . وفي المقابل كان عزرائيل كريما فقد تجاهل أبي رغم كل الأمراض التى يعانى منها ويرفض أى علاج لها بغير الوصفات الشعبية .
قد يتصور البعض أنني أكتب هذه القصة لرغبتى الفاشلة في كتابة رواية (1) ولهذا أستطرد في التفاصيل بشكل يجعل القصة غير مطابقة للمواصفات ، ورغم أن هذا صحيح جزئيا إلا أن القصة أكبر من ذلك . عموما فالحبكة ستبدأ فورا في السطر التالى حين توجه أبي في جنازة أحد أصدقائه القدامي ، وفوجئ حاملو النعش أن المقبرة ممتلئة تماما . فقد فشلت المحاولات الخجولة ثم الحريصة ثم العنيفة في حشر الجثمان في المكان المخصص للرجال . وبعد مداولات وسؤال المعزين عمن لديه مفتاح لمقبرة أخري تم تشغيل الموبايلات واستدعاء بعض المفاتيح وتبين ساعتها أن معظم المقابر إما ممتلئة أو على وشك الامتلاء . في النهاية تم دفن الجثة وأضيفت هذه الخاتمة العبثية إلى سيرة الراحل المليئة بالمفارقات المضحكة .
يومها بالتحديد انتبه أبي لخطورة الموقف ، فمقبرتنا كانت تنقصها جثة واحدة متوسطة الحجم وتمتلئ . ولم يستطع أبي المخاطرة بذلك المكان الأخير رغم أنه هو الذي تبرع بالكفن .
كانت فكرة مرعبة أن يضطر للدفن في مقابر غريبة وسط أموات لا يعرفهم ( الموت نفسه لم يكن مرعبا لأبي في ذلك السن ) . مقبرتنا لها قصة فرعية لابد من ذكرها ، فأبي الذي كان يعيش بنا في القاهرة وقتها ، بدأ مسيرة استبدال المعاش بقرض في الستينات اشتري به قطعة الأرض الخاصة بالمقبرة بنصف جنيه للمتر وببقية القرض بناها . يحكى أبي فيقول أنه وقتها سئم من مناقشات "الشركاء" حول نسبة كل عائلة في تكاليف المقبرة وعدد موتى كل منهم فيها . ثم أنه كان وقتها "مستوظف حكومي" له مرتب ثابت كل شهر أيام كان ذلك شيئا فخيما كامتلاك تلفزيون أبيض وأسود 21 بوصة . لكنه قبل أن يشتري التلفزيون لنا في يناير 1971 اشتري أولا قطعة الأرض التى سيبني عليها بيتنا الحالي بطلخا ، بجنيه للمتر وبالتقسيط أيضا والله العظيم .
مرت تحت الجسور مياه كثيرة وحكومات أكثر نجحت بفضل سياساتها الاقتصادية الرشيدة وإخلاص المسئولين وتفانيهم.. في جعل سعر متر الأرض في منطقة المقابر يتجاوز الألف جنيه وهكذا أصبح إنشاء مقبرة جديدة يكلف حوالي ستة وثلاثين ألف جنيه كما تبين لأبي في الأسابيع التالية لظهور الأزمة . وهو مبلغ يبدو للوهلة الأولى كبيرا بالنسبة للمرتبات في مصر لكن يمكن تقسيمه على بضعة عائلات وجمعه ببعض الجمعيات الشهرية والمعونات الخارجية من العاملين بالخليج وحتى من نقود الزكاة والصدقات . وتفتق ذهن أبي المهموم بالموضوع عن عدة أفكار تعاونية ممكنة عرضها في الاجتماعات العائلية ( التى أصبحت تقتصر على مواسم التهنئة بالأعياد والأفراح والخلاص من كابوس الثانوية العامة ) دون جدوى .
كان الأقارب جميعا مشغولين بشراء الموبايلات وأجهزة الكومبيوتر ودفع ثمن الدروس الخصوصية . وكانوا جميعا أيضا سيحضرون لبيتنا صارخين باكين طالبين من أبي مفتاح مقبرتنا لو توفي أحدهم فجأة وطبعا ساعتها لا يليق بأي شكل الكلام عن النقود . وحتى الجمعيات الخيرية التى طاف أبي عليها كانت تري أن "الحي أبقي من الميت" لأن هناك عائلات كثيرة لا تجد ثمن الطعام أو الدواء . وهو ما أوصل أبي إلى مرحلة خطف الميكروفونات في المساجد لتحذير الناس من مغبة نسيان المقر الأخير لأجسادهم ولأحبائهم .
في البداية كان الشيوخ يكتفون بتوبيخه مع اعترافهم بأهمية ما يقوله وعجزهم عن قوله في خطبة الجمعة ( لأنها ترد مكتوبة من وزارة الأوقاف ) . لكن الأحداث تطورت بسرعة ذات جمعة حيث كان مخبرو أمن الدولة مترصدين لأحد زعماء الإخوان المسلمين في المسجد . ويبدو أنه لم يحضر فرأوا أن يظهروا نشاطهم لمكتب الجماعات الإسلامية ، بالقبض على أبي بعد أول صرختين عن المقابر الممتلئة ، وسط دهشة المصلين الذين يعرفون أبي ، وتعودوا على صرخاته المتفرقة بصوته المبحوح .
اتضح لنا وقتها أن استعمال ميكرفون المسجد بواسطة شخص غير الخطيب والمؤذن ، ضمن التهم الخاصة بأمن الدولة ، رغم أن الناس تستعمله طوال الوقت للإعلان عن الأشياء المفقودة والمتوفين الجدد وطلب التبرع العاجل بالدم لمصابي الحوادث . وهو ما استند إليه صديقي الأستاذ أحمد أبو الفتح المحامي ، باعتبار أن أبي كان بالمثل يتكلم عن أماكن "مفقودة" في المقابر وأن الموت وما بعد الموت جزء أساسي من صلب الفقه الدينى وبالتالي فإن الحديث عن المقابر في ميكروفون الجامع ليس له شأن بالدولة وأمنها .
لدهشتنا تم الإفراج عن أبي بعد ساعات قليلة دون عرضه على النيابة ، بعد أن وقع التعهد التقليدي بعدم العودة لمثل هذه الأنشطة المعادية للحكومة في المستقبل . عرفنا في اليوم التالى أن السبب خبر صغير ظهر في شريط الأخبار على قناة الجزيرة "مباحث أمن الدولة في مصر تقبض على مواطن في الثمانين من عمره لأنه يحذر من امتلاء المقابر" . ويبدو أن مراسل الجزيرة كان في المسجد لينشر خبرا عن القيادي الإخواني الذي لم يحضر وهكذا حقق سبقه الصحفي السريع .
قد يتصور البعض أنني أكتب هذه القصة لأسجل أمام رواد نوادي الأدب وعموم أدباء الأقاليم في مصر أنني ظهرت على شاشة قناة الجزيرة لمدة سبعة وثلاثين ثانية (2) بصفتى المتحدث الرسمي باسم أبي ( بعد أن منعت وسائل الإعلام من الكلام المباشر معه بحجة الحفاظ على صحته من التوتر العصبي الإعلامي ) . ورغم أن هذا صحيح جزئيا إلا أن القصة أكبر من ذلك . صحيح أننى طبعت أربعة وعشرين صورة لأبي على منبر المسجد المجاور وهو يمسك الميكروفون بيساره بينما يرفع سبابته اليمنى محذرا (3) . وصحيح أننى طبعت مائتين وأربعين صورة لشخصي المتواضع أمام مقبرتنا العامرة وقد علقت خلفي لافتة قماشية مكتوب عليها بالخط الكوفي " المقبرة كاملة العدد والمكان الأخير محجوز لصاحبها " . إلا أنني كنت داخلى أشعر بغيظ شديد لأن الصحف اليومية والحزبية كانت تتحدث إليّ مضطرة ( بعد عشرين عاما في إتحاد الكتاب وستة كتب قصصية وكتابين مترجمين وعشرات المؤتمرات والندوات ) فقط بصفتي ابن ذلك العجوز الذي لا يعرف شيئا عن الحداثة أو قصيدة النثر . خاصة أن محرري صفحات الحوادث الذين توافدوا في بداية الأمر يعتبرون أنفسهم الكتاب الواقعيين للقصة القصيرة وهكذا بدأت أمتنع عن الحديث إليهم شارحا البعد السياسي والاجتماعي للموضوع لأن " الحق في الموت الكريم من أهم حقوق الإنسان " و"بصراحة أنا عاوز حد كبير أكلمه " من صفحة السياسة مثلا ..أو الصفحة الثقافية .
في النهاية أفلحت الحملة الإعلامية في ... إخراج كتابي المنسي في أدراج الهيئة العامة للكتاب ووضعه في خطة النشر القادمة وفي نشر بعض قصصي المنذورة دائما "لعدد المجلة بعد القادم إن شاء الله " . لكنها لخيبة أمل أبي أدت إلى نتيجة عكسية على مستوى المقابر التى تضاعف سعر الأرض فيها على مستوى الجمهورية عدة مرات بحيث جاوز أحيانا سعر الشوارع التجارية لأن سماسرة الأراضي استشعروا اتجاه البورصة الجديد . وكان لابد من تدخل حكومي حقيقي بعد أن بدأت الأزمة تشتعل أو بالأصح ينتبه لها الرأي العام .
فقد سجلت محاضر البوليس وصفحات الحوادث في مناطق متفرقة بلاغات عن جثث مكفنة ومتروكة وسط المقابر وملصق بالكفن تصريح الدفن ومكتوب عليه بخط اليد :"أين؟" أو"اشمعنى" أو "فين؟" أو كلمات بذيئة لا أستطيع كتابتها هنا . وبلاغات أخري باقتحام مقابر خاصة وترك جثث مكفنة مجهولة بها . وفي حالات نادرة لكنها كانت شديدة الدلالة الاجتماعية تم إلقاء جثث مكفنة في النيل في مشهد ذكر الكثيرين بما فعله الفلاحون بجثث البهائم التى نفقت بالحمى القلاعية في التسعينات أو بجثث الدواجن إبان أنفلونزا الطيور .
وبغض النظر عن مشاكل التوصيف القانوني للاتهامات التى انتهت عادة ضد مجهول أو ضد المتوقي نفسه ، فإن السؤال الأساسي لوكلاء النيابة كان عن المصير القانوني لهذه الجثث ، لأن مقابر الصدقة والمقابر العامة امتلأت تماما وكأن طلبة الطب كفوا عن أخذ دروس خصوصية في التشريح . والمشكلة كانت في التوسع العمراني الذي لا يحيط المقابر فقط ولكن يتداخل معها بالسكن داخلها بشكل يمنع أي تخطيط عام جديد لها يزيد عمق المقابر مثلا .
وبدأت شعارات سياسية جديدة تظهر في صحف المعارضة وعلى جدران المقابر وأسوار المدارس والمستشفيات مثل "إكرام الحكومة دفنها " و"متر مربع لكل مواطن " و"يا حكومة قتلتينا يبقي عليكي تدفنينا " و" مش عارفين نعيش طب خلونا نموت عدل" . وأصبح كتاب المعارضة يتكلمون عن الأتوبيسات باعتبارها "مقابر متحركة" والعشوائيات باعتبارها "مقابر المهمشين الأحياء " وعن الحكومة باعتبارها "ميتة إكلينيكيا " منذ سنوات .وعاد كتاب اليسار الذين غمرتهم الموجة الليبرالية في السنوات السابقة ليكتبوا عن طبقية الموت في مصر منذ عهد الفراعنة الذين بنوا الأهرامات وعشرات المقابر الملكية في مقابل ملايين الفلاحين الذين ماتوا بلا تماثيل أو توابيت أو مجرد أسماء يعرفها التاريخ . بل أن مقابر الفراعنة لم تقتصر على المومياوات والتماثيل والأغذية اللازمة للجسد بعد عودة الروح ولكن أيضا كان يٌخصص لرعايتها أوقاف من ممتلكات الميت كي تمتد في الرعاية لبعد وفاته بأجيال متتابعة . وفي الدولة الحديثة، كان يتم وضع تماثيل صغيرة في القبر، يصل عددها إلى أربعمائة وواحد تمثال، وطبقا للتعويذة السادسة في كتاب الموتى، كان يطلب منهم القيام بأعمال إجبارية في الحياة الآخرة، نيابة عن المتوفى وهي ما تُعرف ب"تماثيل الشوابتي". بل لقد سُجلت عادة دفن الأتباع مع الملوك والحكام والأمراء في زمن الأسرة الأولى من ملوك مصر في حدود (3100 - 3000 ق. م) وقد جرت هذه العادة عند بعض شعوب العالم المختلفة، أما في العراق فقد سجلت هذه العادة في أور بشكل واضح والأسوأ من ذلك أنه حتى تعاويذ كتاب الموتى ظلت محصورة في الطبقة الوسطي للمجتمع الفرعونى .
وأشار مقال ساخن إلى مقابر أسرة محمد على في مسجد الرفاعي بالقلعة ( وكيف انضم لهم شاه ايران فيما بعد ) ومقبرة جمال عبد الناصر ومقبرة أنور السادات ثم تساءل : هل يعرف أحد مكان مقبرة شهداء حرب أكتوبر ؟ بل وتجرأ الكاتب المجنون على المقارنة بين معاشات الرؤساء الراحلين ومعاشات أسر الشهداء . قبل أن ينهي المقال بتعديدة صعيدية قديمة تقول : "بيتى كبير وتُربتي فدان ليه اتوعدنا بدفنة الإحسان ؟
بيتى كبير وتُربتى ملقي ليه اتوعدنا بدفنة الصدقة ؟"
هكذا تشكلت لجنة سرية على المستوى الوزاري للبحث عن حلول وتم تسريب هذه الحلول للصحافة كبالونات اختبار لقياس رد الفعل الشعبي الذي كان من الصعب تجاهله هنا ( كما تم من قبل في التعديلات الدستورية والانتخابات المزورة وتهريب أصحاب العبارة الغارقة ومعظم الأمور الأخري ) .
قد يتصور البعض أننى أكتب هذه القصة لأنني معارض قديم للحكومة منذ أيام الجامعة أو لأن الحكومة لم تكلف خاطرها باستدعائي ، أقصد استدعاء أبي وأخذ رأيه باعتباره المواطن الذي استشعر ونبه مبكرا لخطورة الموضوع . ورغم أن هذا صحيح جزئيا إلا أن القصة أكبر من ذلك ، فالحلول التى اقترحتها الحكومة كانت كالعادة تفقع المرارة.
الحل الأول وطرحه طبعا مجموعة الوزراء من رجال الأعمال بإنشاء " الشركة القابضة للمقابر" وطرح أسهمها في البورصة بحيث تنشئ مقبرة مركزية كبيرة في عواصم المحافظات ثم يتم إنشاء مقبرة جماعية كبيرة في كل المدن والمراكز ثم القري ، بحيث يكون الدفن مجانيا للمساهمين وأسرهم (4) وبالنسبة لغير المساهمين يكون بمقابل لا يتجاوز مائة جنيه للدفن .
وطبعا أثار هذا الاقتراح ردود فعل غاضبة عن "استثمار الموت" وعن تخلى الحكومة عن واجبها نحو الشعب في الموت بعد أن تخلت عنه في أمور الحياة . كما أثار الاقتراح مشاكل فرعية حول مقابر الأقباط التى تتطلب إعدادا خاصا وطقوسا خاصة وهل سيتم إنشاء مساجد وكنائس تابعة لهذه الشركة لإجراء الطقوس اللازمة وظهرت أصوات شيعية تعلن عن مطالب مشروعة بإنشاء مقابر خاصة بهم في مصر وأن تعترف الحكومة بأعدادهم الحقيقية . وتساءل أحد البهائيين الذين تجبرهم الحكومة على كتابة "مسلم" في خانة الديانة بالبطاقة عن كيفية دفنه في تلك الشركة . ناهيك عن سؤال المساهمين المحتملين ماذا لو مات أحدهم قبل إنشاء مقبرة في مدينته أو قريته . التساؤل الحقيقي في الغرف التجارية والبورصة كان "ماذا لو امتنع الناس عن شراء الأسهم ؟أو كانت أسرة المتوفي عاجزة عن دفع رسوم الدفن ؟وهل سيتم تخصيص جزء مجاني كما هو الحال في "بعض" المستشفيات الحكومية ؟ وما ضمان عدم "طمع" الشعب في الحكومة إذا سمحت بذلك بادعاء الفقر وخلافه ؟ ثم ماذا إذا أفلست الشركة كيف سيتم توزيع ممتلكاتها على المساهمين ؟
الاقتراح الثاني كان أبسط بكثير وبه كثير من الوجاهة العلمية والاقتصادية وهو إنشاء محرقة مركزية بكل مدينة أو حتى استخدام محارق المخلفات الملحقة بالمستشفيات الحكومية . بحيث يتم إحراق جثة المتوفي خلال بضعة دقائق وتحويلها إلى حفنة من الرماد يتم تسليمها لأهله في قارورة أنيقة مدون عليها الاسم وتاريخ الوفاة وتاريخ الحرق . والأهل بعد ذلك أحرار في مكان الاحتفاظ بالقارورة ( تحت صورة الفقيد في الصالون أو في السندرة أو في الدولاب ) أو نثر الرماد في الهواء ساعة العصاري .
لكن الاقتراح كان ثوريا أكثر من اللازم ، فقد أثار على الفور خطباء المساجد وحتى المفتى الرسمي للدولة . باعتبار أنه لا يخالف فقط الطقوس الشرعية للدفن ولكنه أيضا ( وربما هذا هو الأهم ) سيثير إشكاليات فكرية وفقهية لا داعي لها عن عذاب القبر في ظل غياب القبر نفسه من رحلة الموت إلى العالم الآخر . فضلا عن إن زيارة القبور مستحبة لقول الرسول صلي الله عليه وسلم : ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور، فزوروها فإنها تذكركم الآخرة)) كما قال رضوان الله عليه : ((إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر وإن لم ينج منه فما بعد أشد)) و((القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار)). وطالب بعض المتطرفين بحرق مومياوات الفراعنة أولا بدلا من عرضها والعياذ بالله على السياح في المتاحف .
وأشار عالم أنثربولوجى لامع لأن العلاقة بين الأموات و الأحياء لا تقتصر على "أنتم السابقون ونحن اللاحقون" ومن يحضر مثلا طقوس الدفن عندنا سيلاحظ الترديد الجماعي المعلن لما يجب على الميت أن يجيب به ملائكة الحساب (5) ، وكأنها "المراجعة الأخيرة" قبل "الامتحان النهائي" . لكن مشاركة جمهور المعزين في ترديد "الإجابات الصحيحة" يشير لأن هذا الطقس موجه بالأساس للأحياء وليس للموتي ، كى يعتصموا بثوابت المعتقد الجماعي التى توحدهم كجماعة مرجعية خاصة . ودلل على ذلك بحقيقة أن طقوس العزاء ( وطبعا الأفراح والتهنئة بالمناسبات سعيدة ) تكون عادة مفتوحة ومتاحة لحضور أفراد من جماعات مذهبية ودينية أخري لكن صلاة الجنازة والدفن عادة ما يكونا مقصورين على أعضاء الطائفة الدينية للمتوفي . فالقبر ممر واقعي وأيضا مجازى نحو العالم الآخر كما يتخيله كل منا . ومن ثم فإن إلغاء القبر باقتراح الحرق سيخلق نوعا من الفراغ المفزع في رحلة الموت . بل إن المعالم الأركيولوجية المميزة للحضارة الإنسانية ترتبط بطريقة تعاملها مع الموتي ومعظم ما تبقي لنا من الحضارات القديمة هو المعابد أو المقابر وذكر بحقيقة أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يدفن موتاه ( 6) .
كما نبه علماء الاجتماع إلى أن هذا الاقتراح يهدد حياة عدد هائل من المتعاملين مع المقابر كطائفة المغسلين والحانوتية والمعددات وقارئي القرآن والمتسولين حول المقابر وهو عدد يصعب حصره لكنه لا يقل بأي حال عن عدد العاملين في مزارع الدواجن مثلا . والمشكلة أن معظم هؤلاء لا يجيد حرفة أخري تنقذه هو وأسرته من البطالة . ثم ظهرت مشكلة التعامل مع جثث مشاهير الفنانين وطبعا كبار رجال الدولة (7).
وتفرع عن هذا اقتراح الحرق اقتراح آخر لم يُعلن أبدا لكنه تسرب عبر المستشفيات الحكومية حين تم تعميم استبيان سري عن قدرة كل مستشفي على إنشاء بنك للأعضاء البشرية الصالحة للنقل كالكبد والكلي وقرنية العين ومتطلبات ذلك في الميزانية القادمة . وقد هاجت نقابة الأطباء معترضة فأعلن وزير الصحة في اجتماع نقابي مخصص لبحث الكادر الطبي المتأخر منذ سنوات أنه ليس صاحب هذا الاقتراح ولكنه "مجرد فكرة" لوزير التجارة بتصدير "الفائض" من هذه الأعضاء مع إعفاء المتبرعين من مصاريف الدفن أو الحرق .
الاقتراح الثالث وهو اشتراكي الطابع لهذا لم يعلن كاقتراح حكومى خوفا على سمعة الحكومة لدى البنك الدولي ، وتم نفي صحته بعد أسبوع واحد فقط من تسربه . رغم أنه طُرح بسرعة في الاجتماعات المغلقة (8). الاقتراح كان تأميم جميع المقابر وهدمها ثم إقامة مقبرة واحدة جماعية تضم أهل القرية أو الحي . لكنه بالطبع كان سيثير مخاوف القطاع الخاص ويُعرض جرافات الحكومة لغضب الأهالى الذين يدافعون عن عظام موتاهم أو الرافضين للتكدس الجماعي الأخير .
اقتراحات أحزاب المعارضة الخجولة بعمل اشتراك شهري بجنيه واحد يُخصم من رواتب الموظفين أو يضاف على ضرائب العاملين بالقطاع الخاص أثار غضب الموظفين الذين يعانون أصلا من أنيميا حادة في المرتبات . فقد أعلنوا عبر بريد الصحف أن قانون العاملين بالدولة رقم47 لسنة1978 ينص في ماد ة 101 بند (1)- أنه إذا توفى العامل وهو فى الخدمة يُصرف ما يعادل أجر شهرين كاملين لمواجهة نفقات الجنازة بحد أدنى 100 جنيه للأرمل أو لأرشد الأولاد أو لمن يثبت قيامه بصرف هذه النفقة. وهو ما ينبغي أن يشمل بالضرورة مصاريف الدفن أيا كانت تكلفته والحل العملى هو زيادة الرواتب بحيث يكفي أجر شهرين لمصاريف الغُسل والكفن والدفن لأنه حاليا لا يكاد يكفي لاستئجار معددة محترفة . كما ظهرت مطالبات عمالية ونقابية بمقابر تتبع الوزارات أو النقابات ، خاصة لمن يموتون بعد المعاش والذين لا تغطيهم المادة 101 أو لمن ليس لديهم مقابر وكذلك لزوجاتهم غير العاملات اللاتى يعتبرن عاملات بالتبعية في نفس الوزارة . وقيل أن هذا أكثر أهمية من المصايف الجماعية التى تحرص عليها اللجان النقابية ولا يفوز بها في النهاية سوى المحظوظين . وذكر موظف مخضرم على المعاش أن الموظفين بالمعاش لهم في ذمة الحكومة رصيد أجازات غير مدفوع الأجر يقدر بعدة مليارات من الجنيهات وتأبي الحكومة الدفع لأي موظف إلا بقضية منفردة تستنزف السنين والنقود في القضاء الإداري . وأن هذا المبلغ تكفي أرباحه لدفن الشعب المصري بأكمله ، كما يتحمل الموظفون ضريبة دمغة علي المرتبات وصلت إلي 1.4 مليار جنيه عام 2005/2006 بعد أن كانت حوالي 627 مليون جنيه عام 2001/2002 ، كما يتحمل الموظفون ضرائب على الدخل إضافة لضريبة الدمغة والتي تنمو بمتوسط معدل نمو بلغ 21.6% خلال السنوات الماضية. بينما انخفضت الضرائب علي النشاط التجاري والصناعي من حوالي 3.3 مليار جنيه عام 2001/2002 إلي 3 مليار جنيه في موازنة عام 2005/2006 أي ما يعادل 60% فقط من الضرائب على الدخول من الوظائف، وهكذا تنمو ضرائب النشاط التجاري والصناعي التى يدفعها رجال الأعمال بمعدل سالب بلغ 2.3% في ظل حكومة تدعي حماية محدودي الدخل(9) . فضلا عن حق الموظفين في تعويضهم ولو في لحظاتهم الأخيرة عن معاناة السنين مع رواتب الحكومة الهزيلة التى لا تكفي لتغطية مصاريف حمار واحد لزوم البرسيم والزريبة والبردعة والعلاج بيطري .
قد يتصور البعض أنني أكتب هذه القصة احتجاجا على حمورية الوضع العام ورغم أن هذا صحيح جزئيا إلا أن القصة أكبر من ذلك . فالحكومة رأت بذكائها المعهود أن تطلق حملة إعلامية مضادة قوية ثم تسكت تماما عن الموضوع بعد أن يمل الناس منه أو يتعودوا عليه أو يتم إلهاؤهم عنه بكارثة جماعية جديدة أو بطولة كروية أو موسم سينمائي كوميدي ناجح ، كما أن الأخبار الخارجية كانت مبشرة باشتعال التوتر في المنطقة مابين تهديد أمريكا لإيران وتهديد إسرائيل لحزب الله وتهديد حماس في غزة لفتح في الضفة مع تجدد الخصام القديم بين أصالة ونوال الزغبي .
هكذا تم سكب عشرات المقالات والتعليقات لكتاب حكوميين عن إساءة هذا الموضوع لمصر وإحراجه لملايين المصريين العاملين بالخارج وطبعا الطنطنة والطنين التقليدي عن مصر الحضارة والأهرامات ومترو الأنفاق . وكتب رئيس تحرير الأهرام ببلاغة رصينة "إن مصر التى كانت على الدوام مقبرة للغزاة تستطيع بالتأكيد أن تكون مقبرة للمصريين " . وتم شن هجوم تكتيكي مكثف على المعارضين أصحاب "ثقافة الموت" وعلي "أحزاب الموتى" العاجزة عن الخوض في غمار "الحياة" السياسية لمجرد أنها مكبلة بقوانين الطوارئ ومحاصرة بجنود الأمن المركزي . وطالبت المقالات المعارضين باقتراح حلول عملية لهذه المشكلة وغيرها ثم المشاركة في حلها مع مؤسسات المجتمع المدني وترك الحكومة في حالها ويكفيها مشاكلها مع الميزانية والبنك الدولي وجهودها المضنية في مقاومة الضغوط الأمريكية لفرض الديموقراطية المستوردة وفي المصالحة بين الدول العربية المتشاحنة وبين الإخوة اللبنانيين المختلفين والإخوة الفلسطينيين المتقاتلين .
إلى حد كبير نجحت الحملة الإعلامية المضادة ، لدرجة أن أسعار أراضي المقابر توقفت عن الارتفاع . خاصة وأن الناس استهلكوا كل النكت الممكنة عن الموضوع وبدأ الملل يعتريهم منه. وقد تعرضت شخصيا لإشاعات مُغرضة من زملاء حاقدين بنادي الأدب بقصر ثقافة المنصورة (معظمهم طبعا شعراء عموديون ) مفادها أننى الذي حركت أبي منذ البداية وربما أكون أنا الذي أبلغت عنه مباحث أمن الدولة واتصلت بعد ذلك بقناة الجزيرة بغرض البحث عن "شهرة أدبية رخيصة" والفوز أخيرا بعضوية مجلس إدارة نادي الأدب التى لا يحصل عليها عادة من تقل أعمارهم عن الخمسين . ودللوا على ذلك بقصة قصيرة قديمة لي منشورة في الثمانينات بعنوان " لقاء عاطفي في مقبرة قديمة " . بل قاموا بطباعتها في منشور ثقافي سري تم لصقه في مكتبة مبارك والمقر الفرعي لاتحاد الكتاب وطبعا على حوائط نادي الأدب (10) .
لم تفلح المنشورات المضادة التى أصدرتها الجبهة المناصرة لي (11) في تغيير الرأي العام داخل نادي الأدب والمكون بالأساس من هواة لا يجيدون اللغة أو النحو أو الوزن لكنهم يستشعرون كمية الشهرة التى حصدتها من أزمة المقابر والتى تضارع شهرة تامر بجاتو لاعب المنصورة الذي أحرز هدفين في مرمى الزمالك وأخرجه من الكأس .
دون جدوي بذلت كل المجهود البنيوى الكريه والضرورى في دراسة نبشية إحصائية لقصائد الأعداء ( الذين اضطررت آسفا لشراء أعمالهم ) وأخرجت ما يقارب خمسة آلاف كلمة تنتمى جذورها اللغوية إلى مادة "م و ت" و" ق ب ر" و" د ف ن" . باعتبار أن قصتى القديمة لا تخرج عن الاستخدام الأدبي المجازى الشائع لهذه المفردات وأنها أصلا قصة رمزية ليس لها زمن محدد (12) ومنشورة قبل صراخ أبي بعشرين عاما ، بينما مقبرتنا مقبرة حقيقية بها زحام حقيقي ولها صاحب حقيقي يخاف من الدفن في مقبرة غريبة .
كانت الحجة الدامغة البسيطة أن أصحاب هذه القصائد "لم يتربحوا ثقافيا" من الموت والقبور. وتساءل المتسائلون : كيف ولماذا أعيش الآن "في جلباب أبي" بينما كنت دائما من أنصار "قتل الأب" ؟. ووصل الأمر للتشكيك في ثوريتى نفسها حيث لم يتم اعتقالي ولو مرة واحدة طوال حياتى (13) .
قد يتصور البعض أنني أكتب هذه القصة لأدافع عن نفسي ضد هذه الاتهامات وللاعتراض على عودة كتابي السابع إلى أدراج الهيئة العامة للكتاب وتأجيل قصصي مرة أخري للعدد بعد القادم بالمجلات الثقافية . ورغم أن هذا صحيح جزئيا إلا أن القصة أكبر من ذلك . إنها قصة الرجل الذي تزوج أمي حين كانت البيضة تباع ملونة ومسلوقة بمليم واحد (14) ، قصة العجوز الذي عاصر الملك فؤاد والملك فاروق وناصر 56 وناصر 67 وسادات 73 وسادات 77 ومبارك 81 ومبارك 81 ومبارك 81 ومبارك 81 (15) ، قصة ذلك الإنسان الذي كفر بي وبالثقافة والحكومة والصحف والفضائيات وراح يقضي يومه بين عمال المشارح والحانوتية ومحلات الفسيخ .
فقد أصبحت جثث الحيوانات النافقة الملقاة في الشوارع وعلى ضفاف الترع تستوقفه بل تجذبه ، ليس فقط للتأمل الطويل الواقف بل يعود إليها بعد ساعات ليسجل ملاحظات عن كل جثة ودرجة التعفن وعدد الديدان في مساحات مختلفة من الجثة وأطوالها المتنامية ومعدلات النمو والتكاثر في الصيف والشتاء وعلاقتها بدرجة القرب من مصدر مائي مكشوف أو ضجيج السيارات أو مصادر المبيدات الحشرية كعربات رش الدخان المضاد للبعوض . وأصبحت أمي تصرخ من الروائح الكريهة المنبعثة من المنور ( الذي يحتفظ فيه أبي بجثث قطط وكلاب وأجزاء من حيوانات أكبر . ويصر على تركها في الهواء وعدم رش أي معطرات أو إطلاق أي بخور يفسد المناخ الطبيعي للتحلل ) . ومن رائحة ملابسه ثم من رائحته هو شخصيا .
توقف أبي إذن عن الصراخ وأعلن لي بهمس وبعد إلحاح من الجميع أنه لم يُجن بعد لكنه يبحث عن حل عملي للمشكلة (16) . أحضرنا طبيبا نفسيا للمنزل باعتباره صديق لي ، فشخّص الحالة بعد حوار طويل معه بأنها "اكتئاب مصحوب بضلالات عدمية" ، لكن أبي كما اتضح كان وجوديا أكثر من جان بول سارتر ، فقد تلقينا ذات صباح مكالمة تليفونية من شخص مجهول (17) يطلب حضورنا إلى مقبرتنا فورا لأن أبي يطوف حولها صارخا. كانت المقبرة مفتوحة وقد ظهر خلالها عدة أماكن متاحة لبضعة جثث . وحول المقبرة كانت جثث القطط والكلاب التى أجبرته أمي على إزالتها من المنزل .
كانت رائحة الموتى تفوح من ملابسه ولمحنا بعض الديدان بين أصابعه . في عينيه كان فرح حزين متعب ، وكأنه أخيرا يستطيع البكاء والتنهد والأهم يستطيع أن يموت وهو مطمئن .
تأتي لحظة ثقيلة في حياة الإنسان يكتشف فيها أن عدد الأموات الذين أحبهم من قلبه وكرههم من قلبه أكثر من عدد الأحياء الذين يبالى بهم ( وأظن أن أبي مر بتلك اللحظة منذ سنوات ، ربما قبل أن يشتري الكفن الأول ) . بعد تلك اللحظة يتحول الموت تدريجيا إلى بوابة للذكريات ، كأنك ستدخل مرة أخري وبعد غياب طوييييل حديقة حيوانات الجيزة . لكن هذه المرة ستدخلها وحدك بدون رحلة مدرسية أو موعد عاطفي أو أطفال يعترضون على الساندويتشات . الأسد يبدو مسكينا رغم زئيره والقرد مضطر للتمثيل على الجمهور وسيد قشطة حبيس بركة ضيقة قذرة . يصبح الأسى جزءا من الرؤية والخلوة جزءا من الضجيج ، تنكمش ظلال الأشياء الكبيرة وتبهجك تفاصيل صغيرة كنت تغفل عنها من قبل .
تأتي لحظة تسامح فيها أعداءك مرغما لأن الكراهية تتسرب مع رمال العمر من بين أصابعك الواهنة . وتأتي لحظة أهم تستطيع فيها أن تنظر إلى ابنك أو أن تنظر إلى أبيك وإذا كل الغباء الذكوري بينكما ، بذكريات العنف والعناد والتهديد والمناطحة ، يتحول إلى تفاهم عميق صامت على تسلم راية غامضة والدفاع عنها قبل الموت وبعده .
ولأول مرة في أحضاننا المتباعدة والتى لا تحدث إلا بعد خصام طويل ، أستشعر أبي يختبئ في صدري وأستشعر رغبتى الجارفة في هدهدته . هل هذه هى الطريقة الصحيحة لقتل الأب ؟ لا أدري . لم أكن بحاجة لهمسه عن أهمية الديدان وكيف أصبحنا جميعا مسمومين بالمبيدات الحشرية التى نبتلعها مع الخضر والفواكه ونستنشقها في الهواء لدرجة أن الديدان أصبحت تهرب من جثثنا أو تموت بسببها وهو ما يؤخر تحللها .
لأسباب خاصة تستطيعون استنتاجها لم نستطع وربما لم نرغب في إذاعة حل "مزارع الديدان" وضرورة تربيتها بعناية قرب فتحات المقابر ( التى يجب أصلا عدم إغلاقها بإحكام ) أو في الأماكن التى لا تصلها المبيدات الحشرية . لكن عن نفسي لن أبخل بأى كمية من الديدان على جميع المسئولين بالحكومة والهيئة العامة للكتاب والمجلات الثقافية . وأنا أنشر هذه القصة فقط كى تعرفوا أن دعوى الخلع التى رفعتها زوجتى بحجة ادعاء الضرر من رائحة جثث الحيوانات الميتة المكدسة تحت السرير (18) إنما هي دعوى كيدية (19) . وعلى أية حال فأنا على استعداد لتطليقها فورا وعلى الهواء مباشرة بشرط أن تعترف أولا أمام الملأ أنها بعد ثلاثة عشر عاما من تداخل أشواكنا ، وثلاثة أطفال يتشاجرون على ماوس الكومبيوتر وريموت الدش ، وبعد عشرات الدواوين التى اشتريتها من أجلها هي بالذات .... لا تزال تكتب الشعر العمودي .
24/7/2007
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كل ما في الأمر أن شخصيات مشاريعي الروائية تقع سريعا في الحب والمشاكل وتصل لنهايتها الدرامية في بضعة صفحات أو تشعر بالملل فجأة وتهاجر خارج الرواية .
لم أكن أتصور أبدا أن المونتاج سيكون بهذه القسوة.
طبعا تم هذا الساعة الثالثة صباحا ودون تشغيل الميكروفون وبعد أن راضينا عامل المسجد بالذي منه والأهم من ذلك بعد أن قضيت يومين أقنع أبي بضرورة ذلك من أجل الحفاظ على المكان الأخير في المقبرة ونشر الوعي الجنائزي في الفضائيات بدلا من الكليبات العارية الملعونة .
بمعدل سهم لكل مكان في المقبرة بشرط ألا يزيد وزن الفقيد عن 120كجم .
فيما يُعرف شعبيا ب"تلقين الميت".
متناسيا انه الكائن الوحيد القادر أصلا على ذلك .
الذين اقترح أحد الخبثاء أن يكونوا قدوة لبقية الشعب– ولو عند الموت – في التقدم للحرق وأن تضاف إلى بيانات قارورة كل منهم قائمة بانجازاته الشعبية ودوره في رفع الأسعار إبان فترة مسئوليته.
والعهدة على الصحفيين مدعي معرفة الأسرار الحكومية وعلى عاملي البوفيه الذين يوصلون للشعب ما لا يرد في التصريحات الرسمية.
الأرقام حقيقية وصحيحة وليست خيالا قصصيا .
10 - تم للأسف إرساله ونشره في صحيفة أخبار الأدب.
- والمؤلفة من كاتبي قصائد النثر وثلاثة كتاب قصة قصيرة مدينين لي بعزومتين عند المحمدي الكبابجي وفوق ذلك بتقريظات نقدية كتبتها عنهم دون مقابل .
12- عن عاشقين تفرق الدنيا بينهما بعشرات المشاكل ولا يستطيعان تحقيق لقاء بينهما إلا عند الموت .
13- وهى حقيقة مؤسفة غامضة السبب وأغلب الظن أنها جزء من مؤامرة أمنية لتشويه تاريخي السياسي والثقافي والأدبي .
14- المليم عملة قديمة منقرضة قبل انقراض القرش والشلن ويحكي القدماء أنه كانت توجد عملات أصغر كالخردة والنصف مليم ويُفترض نظريا أن الجنيه المصري يساوى ألف مليم .
15- التكرار مجرد خطأ مطبعي وليس له مغزي سياسي .
16- لم يعرف طبعا أن هذا قد أصبح ضمن السمات النموذجية للجنون في المجتمع المصري المعاصر.
17- غالبا هو المخبر المكلف بمتابعة تحركات أبي .
18- لم يزد الأمر أبدا عن كلب وقطتين وبضعة فئران .
19- منذ عامنا الأول وهي تخشي الدفن في مقبرتنا بجوار أمي .
قصة قصيرة
الموجودون الآن
المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 18 زائراً