الحوار والاختلاف:خصائص وضوابط1/2(د. طه عبدالرحمن)
مرسل: 12-09-2002 07:10 AM
هذا كلام في الحوار لايقدر بثمن احببت ان اشارككم فيه لعل ان يكون فيه الفائدة و المتعة وقد اقتبسته من الموقعين التاليين
http://muntada.islamtoday.net/printthread.php?threadid=862
http://muntada.islamtoday.net/printthread.php?threadid=885
كم من الحقائق الجليلة في أنفسنا ومن حولنا يمضي علينا زمان غير قصير لا نتعجب منها ولا نندهش لها ، على اعتبار أنها جلية لاخفاء فيها ، وقريبة لا ُبعد معها ، وفجأة نتفطن إليها تفطن الذي ألقي في روعه وكأنها لم توجد إلا ساعة تفطننا ، وأدعوكم قي هذا الدرس الافتتاحي المبارك إلى أن نتأمل جميعا في بعض هذه الحقائق الجلية ، عسى أن نقف على ما خفي علينا منها على قربها وجلائها .
أولا : طرح الإشكال الخاص بالحوار الاختلافي
1- حقيقتان كلاميتان
حسبنا من هذه الحقائق الجلية الخفية حقيقتان جميلتان اثنتان :
1-1 الأصل في الكلام الحوار
فلا نتكلم إلا ونحن اثنان ، بل نتكلم إلا ونحن زوجان؛ لأن الزوجين هما الاثنان المتواجدان ، والكلام لا يكون إلا بين اثنين موجودين هما : " المتكلم " و" المخاطب " فالمتكلم يزدوج بالمخاطب أو يتزاوج معه ، وميزة اللسان العربي لأنه يتضمن لفظا آخر يجري استعماله كمرادف للفظ " الكلام " لفظا يفيد لغة معنى هذا الإزدواج ، ألا وهو " الخطاب " فلا خطاب إلا مع حصول التوجه إلى الغير ، فالمتخاطبان اثنان متوجهان أحدهما إلى الآخر .
وليس لقائل أن يقول إن المرء قد يتكلم مع نفسه – أو يخاطب ذاته - ، فيكون واحدًا لا اثنين ؛ لأن الجواب على اعتراضه يكون من وجهين :
أولهما ، أن " الكلام مع النفس " - أو مخاطبة الذات – ليس حقيقة أصلية ، وإنما هي متفرعة عن حقيقة " الكلام مع الغير " – أو مخاطبة الغير – ذلك أنها تحصل منها بطريق المماثلة أو المشابهة ، حيث إنك تشبه علاقتك بنفسك بعلاقتك بغيرك ، فيعمل خيالك في الاختراع لها ما هو قوام العلاقة بالغير ، وهو صورة الكلام ، فتجعل نفسك متكلمة مع نفسك كما تتكلم مع غيرك ، أو قل -بإيجاز- إنك تقيس كلامك الداخلي على كلامك الخارجي قياسا موجبا .
الوجه الثاني : أن ذات المتكلم وإن كانت في حال الكلام النفسي ، واحدة خلقا ، فإنها اثنان خلقا ، ألست حين تكلم ذاتك تتصرف كما تتصرف الذاتان المتمايزتان فيما بينهما : وقد أقول ، -باصطلاح النظار- ، بأن لها تعددا اعتباريا لا واقعيا أو - باصطلاح البلاغيين-إن لها تعددا مجازيا لا حقيقيا .
وعلى الجملة ، فحيثما وجد اثنان متزاوجان ، بل زوجان ، فثمة حوار ، فإن كان الزوجان متمازيين خلقيا أو واقعيا أو حقيقيا ، كان الحوار حوارا مظهرا أو صريحا ، وإن كانا متمايزين خلقيا أو اعتباريا أو مجازيا ، كان الحوار حوارا مضمرا أو ضمنيا .
1-2 الأصل في الحوار الاختلاف
إننا لا ندخل – أنا وأنت – في الحوار ، إلا ونحن مختلفان ، بل إننا لا نتحاور إلا ونحن ضدان ؛ لأن الضدين هما المختلفان المتقابلان ، والحوار لا يكون إلا بين مختلفين متقابلين هما ،في الاصطلاح "المدَّعي" وهو الذي يقول برأي مخصوص ويعتقده و " المعترض " وهو الذي لا يقول بهذا الرأي ولا يعتقده .
وليس لقائل أن يقول إننا قد نلج باب الحوار ونحن على اتفاق في آرائنا كما نكون عندما نتجاذب أطراف الحديث أو نتذاكر في مسألة مشتركة ؛ لأن الجواب عن هذا الاعتراض يكون من هذين الوجهين :
أولهما ، أن " الحوار مع الاتفاق " – ولنسمه الحوار الاتفاقي – ليس حقيقة كلامية أصلية ، وإنما هي متفرعة عن حقيقة " الحوار مع الاختلاف – ولنسمَّه الحوار الاختلافي – ذلك أن هذا الاتفاق لا يخلو إما أن يكون قد تقدمه اختلاف أو لم يتقدمه ، فإن كان الأول ، فظاهر أن الاتفاق قد تفرع من الاختلاف ، لأنه يكون بمنزلة النتيجة التي أثمرها حوار صادق دخلت فيه أو دخل فيه غيرك وكان مداره على رفع الاختلاف الحاصل ، وإن كان الثاني ، فإن الاتفاق يحصل من الاختلاف بطريق المقابلة ، ومعلوم أن المقابلة نوع راسخ من الاختلاف ، فتكون قد قابلت علاقتك بموافقك بعلاقتك بمخالفك ، نافيا عن الأول ما ثبت بصدد الثانية ومثبتا لها ما انتفى عن هذه أو قل –بإيجاز- إنك تقيس حوارك الاتفاقي على حوارك الاختلافي قياسا منفيا ، فحقيقة قياسك المنفي هذا إذن أنه ممارسة اختلافية صحيحة .
والوجه الثاني ، أن الواقع الحواري للناس يشهد على غلبة هذا الحوار الاختلافي ، فلا نزاع في أن المخاطبات منتشرة غاية الانتشار في حياة الناس ، ابتداء من الحديث اليومي العام وانتهاء بالحديث العالمي الخاص ، وإذا أنت تأملت في هذا الواقع التخاطبي قليلا ، وجدت أصنافا كثيرة منها غالبا ما يكون الداعي إليها حصول اختلاف من نوع ما أو بقدر ما ، منها الحوارات ذات الفائدة العامة نحو " الاستجوابات الصحافية بمختلف وسائل الإعلام " و " المطارحات المذهبية داخل الأحزاب " و " المداخلات السياسية داخل المجالس " وكذلك " الجلسات القضائية داخل المحاكم " و " المفاوضات التجارية داخل الأسواق " و " المناظرات المهنية داخل المؤسسات " و " المباحثات العلمية داخل المؤتمرات " ومنها الحوارات ذات الفائدة الخاصة نحو " المناقشات بين الأفراد في الأوساط العائلية " و " المجادلات بين الأقران في الأندية " و " الخصومات بين الأزواج في البيوت " .
ولا ريب أن هذه الأنواع من الحوار الاختلافي تفوق بكثير أمثالها من الحوار الاتفاقي نحو " الحوار الاستخباري " الذي يكون الغرض منه الحصول على معلومات معينة ، و " الحوار " الاستشاري الذي يقصد الوصول إلى اتخاذ قرار في مسألة ما و" الحوار التربوي " الذي يكون الغرض منها التكوين والتعليم و" الحوار التدبيري " الذي يستهدف تحديد غرض مخصوص أو وسيلة مخصوصة لتحقيقه ، وحتى هذه الأنواع الاتفاقية لا تخلو من وجود هذا الوجه أو ذاك من وجوه التنازع فيها ، فمثلا الحوار التدبيري يدور أصلا على أهداف أو أعمال مختلفة فيما بينها ، فتقارن بين فوائدها وآثارها المتفاوتة ، حتى تقف على أولاها بالتحقيق ضمن أولوياتك المعتبرة ، بل ليس يمتنع أن ترد هذه الأنواع الاتفاقية على مقتضى الاختلاف في الآراء فمثلا بالنسبة للحوار التدبيري ، يجوز أن نجعل منه جملة من الآراء المتنازعة ، كل رأي منها يقول بهدف مخصوص وعمل مخصوص ، وحينئذ ، لا نستغرب أن يغلب على لفظ " الحوار " في استعمال إفادة معنى " الحوار الاختلافي " .
وعلى الجملة ، فحيثما وجد اثنان مختلفان ، بل ضدان ، فثمة حوار اختلافي فإن كان الضدان متواجهين ، كان الحوار الاختلافي حوارا مباشرا أو قريبا ، وإن كان الضدان أحدهما واسط إلى الآخر ( كالقياس على المقابل ) ، كان الحوار الاختلافي حوارا غير مباشر أو بعيدا .
2- النتيجتان المتعارضتان
بعد أن فرغت من بيان الأصلين اللذين يقوم عليهما الكلام ، وهما : " الأصل في الكلام الحوار " و " الأصل في الحوار الاختلاف " فلننظر معا في بعض النتائج التي تترتب على هاتين الحقيقتين الجميلتين ، إذ جمالهما آت من ازدواج الجلاء بالخفاء فيهما .
يترتب على الأصل الأول أن الكلام يقتضي بالضرورة وجود الجماعة ، لا وجود الواحد ، والجماعة قد تتكون من فردين عاقلين – أي زوجين – فأكثر ، حتى تسع المجتمع القومي كله – أو " الأمة " – كما هو الشأن الحوار بين الأحزاب في الحكومة وبين الأحزاب في المعارضة ، بل إن هذه الجماعة قد تسع المجتمع الإنساني بأسره أو " العالم " ، كما هو شأن ، الحوار بين الغرب والشرق، والحوار بين الشمال والجنوب .
ويترتب على الأصل الثاني أن الحوار يقتضي بالأساس وجود المنازعة ، لا وجود الموافقة ، فقد يتنازع الفردان العاقلان في الرأي ، كما قد تتنازع الطائفتان في المذهب كما هي حال النزاعات المشهورة في تاريخ الإسلام والتي مازال بعضها قائما إلى يومنا هذا مثل النزاع بين أهل السنة وأهل الشيعة أو النزاع بين السلفية والصوفية أو النزاع بين الأشاعرة والمعتزلة كما قد يتنازع المجتمعان في توجهاتهما كالنزاع بين المجتمع الأمريكي والمجتمع الصيني أو يتسع التنازع إلى مجموع العالم كالنزاع الذي أخذ يشتد بين أهل الفكرية الغربية وأهل الفكرية الإسلامية .
وهاهنا لا إخال إلا أنك تبادر إلى إيراد الاعتراض التالي على هذا الاستنتاج ، وهو : كيف يجوز عقلا أن يجتمع في الحوار مقتضى " الجماعة " ومقتضى " المنازعة " أليس ينظر إلى الجماعة على أنها تقتضي الألفة والتعارف ، في حين أن المنازعة تضادهما ؟ وعلى العكس من ذلك ، أليس ينظر إلى المنازعة على أنها تقتضي المنافرة والمناكرة في حين أن الجماعة تضادهما ؟
ومن تم تكون هذه الشبهة عبارة عن مفارقة ، علما بأن المفارقة هي الجمع بين الضدين أو النقيضين ، والمشهور أن مثل هذا الجمع يرتفع به مقتضى العقل ؛ لأنه يندرج في باب المحال ، لذلك تراني أجعل من هذه الشبهة التي قد توردها عن استنتاجي الإشكال الفكري الأساسي الذي يدور عليه هذا الدرس ، فكيف إذًا يكون الحوار في ذات الوقت جماعيًا ونزاعيًا ؟
ثانيا : حل الإشكال الخاص بالحوار الاختلافي
لو كان الأمر يتوقف على الحل الصوري ، لجاز أن أقول إن الوصفين : " الجماعة " و " المنازعة " يتواردان على موضوع " الحوار " باعتبارين مختلفين ، فلا يتعارضان : إذ يتقوم الحوار باعتبار عدد الأفراد الذين ينهضون به ، - وهو اعتبار كمي - ، ويتقوم بالمنازعة باعتبار نوع العلاقة التي تقوم بينهم – وهو اعتبار كيفي - ، وواضح أن الكم والكيف لا يتدافعان ، بحيث يصح أن تقوم الجماعة ويقوم النزاع بين أفرادها .
لكن هذا الحل الصوري -على وجاهته- يفترض التسليم المسبق بمبدأ بطلان الجمع بين المتعارضين ، هذا المبدأ الذي رسخ في العقول منذ زمن بعيد ( أرسطو) كما يفترض ثبوت التعارض بين " المنازعة " و " الجماعة " في الممارسة الحوارية كما يثبت في غيرها ، وهما افتراضان اثنان يجوز للواحد منا أن يعترض عليهما ، فقد يشكك في صحة مبدأ عدم الجمع بين المتعارضين ، وليست بي حاجة هاهنا إلى الاشتغال بهذا التشكيك ، لذلك ، أسلم بصحة هذا المبدأ ، كما قد نشكك في وجود تعارض بين" المنازعة " و " الجماعة " كما هما متحققان في الممارسة الحوارية ولو أنهما يتعارضان في غيره ، وهذا التشكيك الثاني بالذات هو الذي يمكن من رفع الإشكال المطروح ؛ لذا يتعين أن أبين كيف أن اجتماع " المنازعة " و " الجماعة " في الحوار ليس أمرا محالا ولا مردودا ، وإنما هو أمر ممكن ومقبول معا .
ولبيان ذلك ، أتخير نوعا متميزا في أنواع الحوار الاختلافي ، إذ تضرب جذوره بعيدا في تاريخ الفكر الإسلامي خصوصا ، وهو ما يسميه منظرو الحوار المعاصرون ب " الحوار النقدي " او " الحوار العقلي " أو " الحوار الإقناعي " ، وقد أسميه كذلك ب " الحوار الاعتراضي " ، وقد سماه علماء المسلمين من قبل ب " المناظرة " وأضع له التعريف التالي :
" الحوار النقدي " هو الحوار الاختلافي الذي يكون الغرض منه دفع الانتقادات أو الاعتراضات التي يوردها أحد الجانبين المتحاورين على رأي أو دعوى الآخر بأدلة معقولة ومقبولة عندهما معا .
ولنضرب له مثالا من أحداث الساعة .
زيد : أرى أن المغرب على مشارف عهد جديد ؟
عمرو : لا أدري إن كان الأمر كما ترى.
زيد : أليس التناوب السياسي والملكية الجديدة من معالم مغرب جديد
عمرو : بلى .
فواضح أن زيدا هو صاحب الدعوى ، وهي : " المغرب على مشارف عهد جديد " وأن عمرًا هو صاحب الاعتراض ، إذ يشكك في صدقها كما لو أنه قال لزيد : " لا أسلم لك ما تدعيه " ، وحينئذ تقوم بينهما منازعة في الرأي ، فيتعين إذ ذاك على زيد أن يتولى دفع الاعتراض بإقامة الدليل على دعواه ، ودليله هو : " وجود التناوب مع تجدد الملكية " ، الذي قبله المعترض .
وبعد هذا التعريف للحوار النقدي والتمثيل عليه ، أشرع الآن في توضيح كيف أن عنصري " الجماعة " و " المنازعة " في الحوار النقدي يتوافقان ، وأقوم بهذا التوضيح من خلال النظر في مقابلات ثلاث .
1- المقابلة بين الاختلاف النقدي والعنف
قد نميز في العنف الممكن حصوله في نطاق الحوار بين قسمين اثنين : أحدهما ، العنف أشد ، وقد يسمى ب " القمع " ، والمقصود به إنهاء الاختلاف بين المتحاورين بواسطة القوة ، فمعلوم أنه لاشيء يضاد الحجة مثل القوة ، فحيث لا يوجد البرهان لا يمكن أن يوجد إلا السلطان ، وحيث لا يوجد الحوار لا يمكن أن يوجد إلا الحصار ، والعنف الأشد هو نفسه على ضربين اثنين : فهناك العنف المادي الذي تستخدم فيه قوة اليد – أو قل تستخدم فيه المقمعة ( أو المقرعة ) – لإلحاق الأذى الخلقي بالغير ، وهناك أيضا العنف المعنوي الذي تستخدم فيه قوة اللسان لإلحاق الضرر الخلقي بالغير ، والقسم الثاني ، العنف الأخف ، وأسميه ب " الحسم " ، والمقصود به هو فض الاختلاف بواسطة تحكيم جانب ثالث ، حكما كان أو حكما أو وسيطا أو باللجوء إلى الحل الوسط أو بإجراء القرعة ، فلما كانت نهاية الاختلاف لا تأتي على يد المتنازعين نفسيهما بفضل أدلتهما الخاصة ، وإنما على يد طرف ثالث سواهما أو بطريق غير تدليلي ، فإن ذلك يشعرهما بأنهما غير قادرين على تحمل مسؤوليتهما في رفع الاختلاف بينهما ، وفي هذا المعنى من التأديب لهما ما هو أشبه بالتعنيف ، إلا أنه - إن جاز هذا التعبير - عنف فيه لطف .
أما الاختلاف في الرأي داخل دائرة الحوار النقدي ، فلا يندفع أبدا بواسطة " القمع " بل إن ممارسة القمع قد تزيد في حدة الاختلاف ، حتى لا سبيل إلى الخروج منه ؛ لأن الطريق الموصل إلى هذا الخروج إنما هو طريق الاقتناع ، فكل واحد من المتحاورين يسعى إلى أن يقتنع الآخر برأيه اقتناعا منبعثا من إرادته ، لا محمولا عليه بإرادة غيره ، فالإقناع والإقماع ضدان لا يجتمعان ، كما أن هذا الاختلاف لا يندفع بواسطة الحسم ، لأن أحد المتحاورين على الأقل قد يجد في نفسه حرجا مما حسم به ، فلا يسلم ، وإنما الذي يندفع به هو ، على العكس من ذلك ، ارتفاع الحرج والإقرار بالصواب الذي ظهر على يد محاوره ، وهو بالذات مقتضى " الإذعان " ، وعلى هذا ، فالحسم لا ينفع في تحصيل الإذعان الضروري للخروج من الاختلاف .
ومن هنا ، يتضح أن المنازعة التي تضاد الجماعة وتضعفها إنما هي المنازعة التي تلجأ إلى العنف ، قمعا كان أو حسما ؛ لأن المعنف لابد أن ينتهي به الأمر ، إما إلى أن يهلك أو أن ينشق أو أن يتآمر ، وفي كل واحدة من هذه الأحوال الثلاث يتسبب في خلخلة الجماعة ، زيادة أو نقصانا ، أما المنازعة التي ينبني عليها الحوار ، فإنها توافق الجماعة كل موافقة وتقويها أيما تقوية ، إذ تقضي بأن تقوم علاقات التعامل فيها ، من جهة ، على فعل الإقناع الذي يحمل تمام الاعتبار لذات الغير ، ومن جهة ثانية ، على فعل الإذعان الذي يحمل تمام الاعتبار للصواب ، ولابد لمثل هذه المنازعة أن تكون خادمة للجماعة بما يورثها مزيدا من التماسك في البنية الجامعة والتناصح في المصلحة العامة ، ولولا أني أنفر مما تجتره الألسن تحت ضغط الإعلام ، لقلت : " يكسبها مزيدا من الشفافية " .
2- المقابلة بين الاختلاف النقدي والخلاف
معلوم أن الرأي رأيان : رأي يبنيه صاحبه على دليل أو حجة من عنده ، - أي يكون رأيا مدللا تدليلا ذاتيا – ورأي لا يثنيه صاحبه على دليل من عنده – أي يكون رأيًا تحكميا - ، والرأي التحكمي على ضربين : رأي مبني على التقليد ورأي مبني على التشهي ، أما الرأي المقلد ، فهو الذي يتسول فيه صاحبه بدليل هو لغيره أو يورده بغير هذا الدليل ، مكتفيا بمضمونه مجردا ، ومعولا في ذلك على قدرة من يقلد ( أي إمامه ) في إمداده بهذا الدليل متى شاء ، وأما الرأي المتشهي فهو الذي لا يتوسل فيه صاحبه لا بدليل لغيره ، ولا بالأولى بديل من عنده .
ومقتضى الخلاف أن يكون تنازعا في الآراء التحكمية ، فإن كان في آراء مقلدة ، فهو تنازع لا اجتهاد فيه ؛ لأن مبنى الاجتهاد أساسا على اختراع الدليل ، وإن كان في آراء متشهية ، فإنه تنازع لا تعقل معه ، لأن مبنى التعقل أساسا على الاشتغال بالتدليل ، أما مقتضى الاختلاف أن يكون تنازعا في الآراء المدللة ذاتيا لا تشهي فيه ولا تقليد ، فيثبت له الوصفان معا : التعقل والاجتهاد ، وعلى هذا ، فإذا كان الخلاف يحصل بين الجلاء والمقلدين ، فإن الاختلاف ، على نقيضه ، يحصل بين العقلاء والمجتهدين .
وإذا تقرر هذا ، تبين أن المنازعة التي تضاد الجماعة وتضرها إنما هي تنازع الخلاف ، أما تنازع الاختلاف ، فإنه يوافق الجماعة كل موافقة وينفعها أيما منفعة ، إذ يوجد أن تقوم علاقات التعامل فيها ، من جهة ، على مقتضيات العقل التي تحدد للمتنازعين أدوارهم ، ومن جهة ثانية ، على مقتضيات الاجتهاد التي تضمن لهم مواجهة أطوار حياتهم ، فمثل هذا التنازع – تنازع الاختلاف – لابد أن يكون بانيا للجماعة ، فيتعين لا حفظ وجوده فحسب ، بل أيضا تقوية أسبابه .
3 – المقابلة بين الاختلاف النقدي والفرقة
ذلك أن الافتراق داخل دائرة الجماعة قد يكون بمعنيين اثنين ، أحدهما ، التفاوت بين الأفراد ، والمراد به هنا تمتع بعض الأشخاص بامتيازات وحظوظ وسلط تؤدي إلى محو المساواة بين عناصر الجماعة ، بما يكون منه انتشار مظاهر التخلخل في بنائها ، والمعنى الثاني ، الانشقاق في الصفوف ، والمراد به – كما هو معروف – تصدع صرح الجماعة ، بحيث يذهب كل عنصر منها إلى وجهة مخصوصة ، معتقدا ما لا يعتقده غيره وقائلا بما لا يقول به ، وقد ينجم هذا الانشقاق عن أسباب أخرى غير عدم المساواة ، مثل الأزمات الاقتصادية والتصارعات على السلطة والفتن الاجتماعية والمفاسد الأخلاقية . أما الاختلاف في الرأي الذي هو مدار الحوار النقدي ، فلا يمكن أن يفضي إلى " التفاوت " لأن قوانين الحوار النقدي تجري على الداخلين فيه ، كائنا ما كانا ، بالسوية ، ولاشيء يستحق أن يتميز في علاقاتهما الحوارية إلا الصواب الذي يكونان قد توصلا إليه ، وحتى إذا ظهر هذا الصواب على يد أحدهما ، فلا يجيز له ذلك أن يدعي الاختصاص به ، لأن الاتفاق جرى مع الحوار في البداية بأن يطلبا معا الوقوف عليه ، فيكون الوصول إليه مشتركا بينهما ، ثم لأن ابتدار المحاور إلى قبول الصواب يجعل علاقته به ، إن قولا أو فعلا ، لا تختلف عن علاقة صاحبه به وعلى هذا ، فإن الحوار لا يفرق أبدا بين المتحاورين ، بل يسوي بينهما على الوجه الأتم .
كما أنه لا يمكن لهذا الاختلاف أن يتولد منه " الانشقاق " ، لأن الغرض الأول الذي اجتمع عليه المتحاورون هو رفع حالة الاختلاف في رأيهما ، وحفظ هذا الغرض أثناء ممارسة لا محالة أنه يِؤدي إلى إحدى الحالات الثلاث : إما الظفر الفعلي بالصواب المطلوب أو تمحيص الطرق التي يتحمل أن، توصل إليه أو زيادة المعرفة برأي الجانب الآخر ، ولا مراء في أن كل واحدة من هذه الحالات تسهم في محو الافتراق الذي بدأ في الآراء وفي جمع العقول على رأي واحد ، بحيث يكون الحوار النقدي أداة تجميع للآراء ، لا أداة تفريق لها كما يتوهم .
وبهذا ، يتبين أن المنازعة التي تضاد الجماعة وتنسفها إنما هي المنازعة التي تنبني على التفرقة الراجعة إلى انتفاء المساواة بين الأفراد أو إلى انتشار أسباب الانشقاق الأخرى في المؤسسات الجماعية ، أما المنازعة الحوارية ، فإنها تلائم الجماعة كل ملاءمة وتخدمها أيما خدمة ، إذ تقضي بأن تقوم علاقات التعامل فيها ، على مقتضى المساواة في الحقوق والواجبات بين أفرادها من جهة، وعلى مقتضى طلب جمعهم على الرأي الصائب من آرائهم منه جهة أخرى، وعليه فلا يمكن أن، تكون الجماعة التي تأخذ بالمنازعة الحوارية إلا جماعة " ديموقراطية " صريحة ، ولا شك أن منازعة كهذه توطد أركان الجماعة بما قد تضاهي فيه ضدها – أي الموافقة – هذا إذا لم تجاوزه في ذلك درجة متى وضعنا في الاعتبار أن الأمر المتنازع فيه يكون موضع اجتهاد ، بينما الأمر المتفق عليه يكون موضع تقليد ، وفضل الاجتهاد على التقليد في تقوية الشعور بالالتزام والمسؤولية يكاد يكون بداهات من بديهات العقل .