أسباب وضع علم النحو
مرسل: 02-03-2003 09:02 AM
<font face="Simplified Arabic" font size="4" color="#8800CC">
(يُمكنُ أن نردَّ أسبابَ وضعِ النحوِ العربيّ إلى بواعثَ مُختلفة ، منها الدينيّ و منها غير الدينيّ، أمّا البواعث الدينيّة فترجع إلى الحرص الشديد على أداء نصوص الذكر الحكيم أداءً فصيحاً سليماً إلى أبعدِ حدودِ السلامةِ و الفصاحة ، و خاصةً بعدَ أن أخذ اللحنُ يشيعُ على الألسنة، و كانَ قد أخذ في الظهزر منذ حياة الرسول صلى الله عليه و سلم، فقد روى بعض الرواة أنه سمعَ رجلاً يلحن في كلامِه ، فقال : " أرشدوا أخاكم فقد ضلّ" و رووا أنَّ أحدَ ولاةِ عُمرَ بن الخطّاب رضي الله عنه كتبَ إليه كتاباً بهِ بعض اللحن، فكتبَ إليه عمر : " أن قنِّعْ كاتبَكَ سوطاً" .
غيرَ أنَّ اللحنَ في صدرِ الإسلامِ كانَ لا يزالُ قليلاً بل نادراً، و كلّما تقدَّمنا مُنحدرينَ معَ الزمن اتّسعَ شيوعُهُ على الألسنة، و خاصّةً بعدَ تعرّبِ الشعوبِ المغلوبة التي كانت تحتفظ ألسنتُها بكثيرٍ من عاداتِها اللغويّة ، ممّا فسحَ للحنِ و شيوعه . و نفس نازلة العرب في الأمصار الإسلامية أخذت سلائقهم تضعف لبعدهم عن ينابيعِ اللغةِ الفصيحة ، حتى عندَ بلغائهم و خطبائهم المفوّهين ، و يكفي أن نضربَ مثلاً لذلك ما يُروَى عن الحجّاجِ من أنه سأل يحيى بن يعمر هل يلحن في بعض نطقِه ؟ و سؤاله ذاته يدلُّ على ما استقرَّ في نفسِهِ من أنَّ اللحنَ أصبحَ بلاءً عاماً ، و صارحه يحيى بأنه يلحنُ في حرفٍ من القرآنِ الكريم إذ كانَ يقرأُ قوله عزَّ و جلَّ : (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُم )...إلى قولِهِ تعالى : (أحبَّ) بضمِّ "أحبّ" و الوجه أن تُقرأَ بالنصب خبراً لكانَ لا بالرفع . و إذا كانَ الحجّاج و هو في الذروةِ من الخطابةِ و البيان و الفصاحة و البلاغة يلحنُ في حرفٍ من القرآنِ ، فمن وراءه من العرب نازلة المدن الذين لا يرقونَ إلى منزلتِهِ البيانيّةِ كانَ لحنهم أكثر . و ازدادَ اللحنُ فشوّاً و انتشاراً على ألسنةِ آبنائهم الذين لم ينشأوا في الباديةِ مثلهم و لا تغذّوا من ينابيعِها الفصيحة ، إنما نششأوا في الحاضرةِ و اختلطوا بالأعاجِمِ اختلاطاً أدخلَ الضيم و الوهنَ على ألسنتِهم و فصاحتِهم على نحوِ ما هوَ معروف عن الوليد بن عبد الملك و كثرة ما كان يجري على لسانِهِ من لحن . و كانَ كثيرونَ من أبناءِ العرب وُلِدوا لأمّهاتٍ أجنبيّات أو أعجميّات ، فكانوا يتأثرون بهنَّ في نطقهنَّ لبعضِ الحروف و في تعبيرهنَّ ببعضِ الأساليبِ الأعجميّة . و كلُّ ذلك جعل الحاجة تمسُّ في وضوح إلى وضعِ رسومٍ يُعَرَّفُ بها الصواب من الخطأ في الكلامِ خشيةَ دخولِ اللحنِ و شيوعِه في تلاوةِ آياتِ الذّكرِ الحكيم.)
(شوقي ضيف)
يتبع...
(يُمكنُ أن نردَّ أسبابَ وضعِ النحوِ العربيّ إلى بواعثَ مُختلفة ، منها الدينيّ و منها غير الدينيّ، أمّا البواعث الدينيّة فترجع إلى الحرص الشديد على أداء نصوص الذكر الحكيم أداءً فصيحاً سليماً إلى أبعدِ حدودِ السلامةِ و الفصاحة ، و خاصةً بعدَ أن أخذ اللحنُ يشيعُ على الألسنة، و كانَ قد أخذ في الظهزر منذ حياة الرسول صلى الله عليه و سلم، فقد روى بعض الرواة أنه سمعَ رجلاً يلحن في كلامِه ، فقال : " أرشدوا أخاكم فقد ضلّ" و رووا أنَّ أحدَ ولاةِ عُمرَ بن الخطّاب رضي الله عنه كتبَ إليه كتاباً بهِ بعض اللحن، فكتبَ إليه عمر : " أن قنِّعْ كاتبَكَ سوطاً" .
غيرَ أنَّ اللحنَ في صدرِ الإسلامِ كانَ لا يزالُ قليلاً بل نادراً، و كلّما تقدَّمنا مُنحدرينَ معَ الزمن اتّسعَ شيوعُهُ على الألسنة، و خاصّةً بعدَ تعرّبِ الشعوبِ المغلوبة التي كانت تحتفظ ألسنتُها بكثيرٍ من عاداتِها اللغويّة ، ممّا فسحَ للحنِ و شيوعه . و نفس نازلة العرب في الأمصار الإسلامية أخذت سلائقهم تضعف لبعدهم عن ينابيعِ اللغةِ الفصيحة ، حتى عندَ بلغائهم و خطبائهم المفوّهين ، و يكفي أن نضربَ مثلاً لذلك ما يُروَى عن الحجّاجِ من أنه سأل يحيى بن يعمر هل يلحن في بعض نطقِه ؟ و سؤاله ذاته يدلُّ على ما استقرَّ في نفسِهِ من أنَّ اللحنَ أصبحَ بلاءً عاماً ، و صارحه يحيى بأنه يلحنُ في حرفٍ من القرآنِ الكريم إذ كانَ يقرأُ قوله عزَّ و جلَّ : (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُم )...إلى قولِهِ تعالى : (أحبَّ) بضمِّ "أحبّ" و الوجه أن تُقرأَ بالنصب خبراً لكانَ لا بالرفع . و إذا كانَ الحجّاج و هو في الذروةِ من الخطابةِ و البيان و الفصاحة و البلاغة يلحنُ في حرفٍ من القرآنِ ، فمن وراءه من العرب نازلة المدن الذين لا يرقونَ إلى منزلتِهِ البيانيّةِ كانَ لحنهم أكثر . و ازدادَ اللحنُ فشوّاً و انتشاراً على ألسنةِ آبنائهم الذين لم ينشأوا في الباديةِ مثلهم و لا تغذّوا من ينابيعِها الفصيحة ، إنما نششأوا في الحاضرةِ و اختلطوا بالأعاجِمِ اختلاطاً أدخلَ الضيم و الوهنَ على ألسنتِهم و فصاحتِهم على نحوِ ما هوَ معروف عن الوليد بن عبد الملك و كثرة ما كان يجري على لسانِهِ من لحن . و كانَ كثيرونَ من أبناءِ العرب وُلِدوا لأمّهاتٍ أجنبيّات أو أعجميّات ، فكانوا يتأثرون بهنَّ في نطقهنَّ لبعضِ الحروف و في تعبيرهنَّ ببعضِ الأساليبِ الأعجميّة . و كلُّ ذلك جعل الحاجة تمسُّ في وضوح إلى وضعِ رسومٍ يُعَرَّفُ بها الصواب من الخطأ في الكلامِ خشيةَ دخولِ اللحنِ و شيوعِه في تلاوةِ آياتِ الذّكرِ الحكيم.)
(شوقي ضيف)
يتبع...