أختي الفاضلة سماء
أعتذر كثيرا عن إنقطاعي عن المدرسة , وأنا أنتظر في هذه الأيام الأستاذ خشان بأن يدرج في هذه المدرسة الدروس الرقمية . ومن متابعة الأستاذ خشان لهذه الصفحة كتب مقالا رائعا عن الحوار الرقمي وأن كنتُ من هذا التعلم الرقمي أتجه إلى أخذ منحنى التسهيل وخصوصة مع المبتدئين ولكني وجدتُ في هذه الصفحة أختاً مبدعة مبتكرة , وإليكِ المقال :
( أخي مخلص
أتابع ما يدور في منتدى الرشف من حوارات وقد لفت انتباهي ما يدور بينك وبين الأستاذة سماء. وقد لزمني التفكير الليلة نتيجة لما رأيت لديك من اتجاهات أراها تنقض فكرة الأرقام من أساسها وبالأرقام.
إن العروض الرقمي كما قالت طالبتكم الأستاذة – فأدهشني قولها - ((نمط تفكير)) قبل أن يكون أداة تعبيرية عن وزن. ويتمثل هذا النمط من التفكير بتناول الكليات في علم العروض التي تصلح لكل البحور وكل الأوزان. ولا ينفي هذا إمكان تناول كل بحر على حدة. بل إن ذلك أمر جيد كتطبيق.
ولكن الذي أهمّني ومنعني النوم ساعات وأنا أعيد كتابة هذه الرسالة مستلقيا بين اليقظة والمنام مرات هو ما رأيته من اتجاهات لديك تنسف فكرة العروض الرقمي بالأرقام ذاتها. ويتمثل ذلك في نقطتين:
1- الفصل بين الأرقام التي تمثل التفاعيل كقولك
322 -- 1222 -- 322 مطابقة للبحر المنسرج في صورته الأصلية .
2- العودة لمفهوم الوتد المفروق، وهو في نظري آفة لزمت العروض وعقدته لا بسبب ذكر الخليل له، فالخليل خطا به خطوة كبيرة نحو خصائص الإيقاع ( البحري – أو الوتدي ). وهو مصطلح يضم كافة البحور لاحتوائها على الوتد في مقابل الإيقاع ( الخببي – أو اللاوتدي) لاقتصاره على الأسباب 2 و(2). والقول بوجود الرقم 1 أصيلا نقض للعروض الرقمي الذي يرفض الوجود المستقل لهذا الرقم.
وأتصور أن الخليل ربما نظر إلى الإيقاع الوتدي على أنه لا يحوي أكثر من سببين متتاليين. ونظر في دائرة المشتبه فوجدها تحوي الخفيف مستقرا مع وجود ثلاثة أسباب، وكذلك المنسرح مؤصلا، فكيف يتخلص من المأزق؟
الوتد أحمر ، السبب أزرق
الخفيف = 2 3 ((2 -2 2 ))3 -2 3 2
قال نعتبرها = 2 3 2 – 2 2 1 2 - 2 3 2
وبهذا ترك سببين فقط متجاورين .
وهو تخلص وإن دل على براعة. وكان قمينا أن يثير التأمل، إلا أن تفاعيل الخليل وككثير من الوسائل تحولت لدى البعض إلى غايات. فوقف الأمر عند ذاك.
ومن مشاكل هذه النظرة أنها تقدم النظري على العملي. فإنه بالنسبة للسمع لا فرق بين ما يلي مما يحاط بقوسين في السطرين التاليين:
فاعلا(تن) مسـ(ـتفـ)ـعلن (فا)علاتن= 2 3 (2 ) 2 (2) 3 (2) 3 2
فا(علا)تن مستفـ(ـعلن) فا(علا)تن = 2 (3) 2 2 2 (3) 2 (3) 2
نميز هنا بين ما تؤول إليه مستفع لن = 2 2 1 2 التي يجوز فيه مستفع لُ = 2 2 1 1 ولا يجوز مستعلن = 312 وبين مستفعلن التي ينعكس الحال فيها فتجوز مستعلن= 312 ولا تجوز مستفعلُ=1122
طبعا كل هذه تعابير بلغة العروض الخليلي.
يقول مصطفى حركات في كتابه (اللسانات الرياضية والعروض – ص 52 ) : وقد عاب كثير من العروضيين العرب والأجانب على الخليل أنه عقّد نظريته، وأنّه فرّق بصفة اصطناعية بين مستفعلن ومستفع لن
وبين فاعلاتن وفاع لاتن
حتى أن ابن عبد ربه مثلا لا يهتم بهذا التفريق ويزعم في العقد الفريد أن التفاعيل عددها ثمانية وهي فعولن، فاعلن، مفاعلتن، مفاعيلن، متفاعلن، مستفعلن، فاعلاتن، مفعولاتُ.
ويضيف:" للتفريق بين مستفعلن ومستفع لن من جهة وفاعلاتن وفاع لتن من جهة ثانية دافعان. الدافع الأول هو التغيرات التي تطرأ على كل من التفعيلات والتي تختلف من تجزيء إلى تجزيء وذلك حسب المبدأ الخليلي الذي يقول إن الأوتاد لا تتغير أوزانها [ سوى ما في الضرب منها ] بينما الأسباب تتغير، ولكن نظرة على الواقع الشعري تظهر لنا أن التغييرات التي تطرأ على التفعيلات لا تتناقض مع أفكار الخليل ولكنها لا تؤيدها فمثلا في الخفيف حذف الحرف السابع (أي الكف) لا يدخل على التفعيلة "مستفع لن " إلا في أذهان العروضيين ولو وقع ذلك فعلا وكنا نملك شواهد كافية وموثوقا بها لتحتم علينا أن نقبل نظرية الخليل لأن هذا الحرف السابع سيكون وجوبا ثاني سبب وليس ثاني [ثالث] وتد. ولكن (والذين يمارسون الشعر يعرفون ويشعرون بهذا لا الرابع ولا السابع من هذه التفعيلة يتغير في الخفيف ويبقى تقسيم الخليل لهذه التفعيلة مقبولا وليس حتميا."
كان حماسي لموقف الخليل في هذه الجزئية مطلقا ولكنه تضاءل تحت تأثير ما يلي
1- أن هناك الشاهد التالي من شعر البحتري :
وتماسكت عند زعزعني الدهــ......ـرُ التماسا منه لتعسي ونكسي
انظر العجز = رلْ تما سن ((من هُـ لتع ))سي ونك سي
=2 3 2 – (2 1 3= مستعلن) – 2 3 2
إن ورود مستعلن هنا ضد نظرية الخليل.
2- فاع لاتن مبرر وجودها هو أن يصح منها الوزن فاع لا تن = 2 1 2 2
وهي ترد في المضارع على مفاعيلُ فاعلاتن - ومفاعلن فاعلاتن
وهذان الوزنان فيهما دليلان متناقضان
فعدم مجيئها على فعِلاتن فيه تأييدٌ لنظرية الخليل من أن الفاء أول وتد فلا تحذف
فا ع لاتن = 2 1 2 2
وفي عدم مجيئها (باتفاق كل العروضيين الذين قرأت لهم) على فاع لَتن 2 1 3 دليل على أن الألف جزء من الوتد ولا تحذف
فاعلاتن = 2 3 2 وهذا ضد نظرية الخليل.
ثم جاء أحمد مستجير وهو من أروع من تحسس العروض تحسسا لا مجرد فهم على ما لي على بعض آرائه من تحفظ فأنكر الوتد المفروق جملة وتفصيلا.
ولي في المقارنة بين هذه المواقف صفحات طوال في الطبعة الثانية من الكتاب.
أرأيت إلى التعقيد الذي تأخذك إليه صيرورة التفاعيل غايات بدل أن تكون وسائل ؟
ولعلك تتشوق الآن لسماع رأيي من وجهة نظر العروض الرقمي.
أقول : إن العروض الرقمي يقوم أساسا على 2 و 3 لا غير ولا يعترف بالحدود بين التفاعيل إلا كتطبيق وإيضاح. ومن مراجعة الرابط :
ترى كيف أن { فعو(لْ مَفا)عي } = { 3 ( 31 ) 2 }في ضرب الطويل تكافئ
{عِلُنْ (مُ تفا ) لُنْ } = { 3 ( 31 ) 2 } في ضرب الكامل.وتنطبق عليها (ق 331) مثلها فتجوز قراءة البيت:
أقيموا بني النعمان عنا صدوركم ...... وإلا تقيموا صاغرين الرّوسا (دون همز الرؤوسا) همز الرؤوس يخالف مبدأ الاعتماد.
انظر الرابط:
http://209.197.232.99/vb/showthread.php?threadid=1415
إن مجرد اللجوء للاعتماد في هذه الحالة هو محاولة من الخليل لتخطي حدود التفاعيل التي أوجدتها ضرورة استعمال المصطلح الذي لم يتيسر حينها خير منه.
إن العروض الرقمية تأخذ أرقام البيت وحدة واحدة دون اعتبار حدود التفاعيل وتدرس خصائص الوزن
إذا استعملنا كلمة عروض بمعنى التفعيلة الأخيرة في البيت كانت مؤنثا. وإن استعملناها بمعنى علم العروض كانت مذكرا.
هل العروض الرقمي يرفض ما ذهب إليه الخليل ؟
كلا ولكنه من منظوره الكلي يجعله أحد احتمالين متساويا مع نقيضه وربما رجح نقيضه.
كيف؟
الإيقاع نوعان وتدي-بحري لا يتعدى عدد الأسباب بين الوتدين فيه ز= 22 =4 وخببي-لاوتدي يخلو من الأوتاد تماما
وميزة الوتدي الأساس هو عدم حذف ساكن الوتد. والوتد بهذه الطريقة يستقر بشرط أن لا يسبقه أكثر من سببين فإن سبقه ثلاثة أسباب 222 -ولا يزيد الأمر عن ذلك أبدا في الشعر الوتدي- اختل توازن الوتد فجاز فيه وجهان
ثبات ساكنه على الأصل الذي يعطينا مستعلن.=312 كما في بيت البحتري المتقدم وكما يرى مستجير.
وفي هذه الحالة يكون وزن الخفيف = 2 3 2 2

2 3 (خمسة أسباب) 3 2
أو غلبة الأسباب التي تقدمته على بؤرة استقراره السكون وحذفه ليضحي امتدادا خببيا لها كما أورد الخليل ويكون الوزن حينها :
2 3 2 2 2 1 1 2 3 2 = 2 3 (خمسة أسباب) 3 2
يبدو التوازن في رهق اختلاط إيقاعي الخببي والوتدي متساويا في الحالين. فلنقارن بينهما سماعيا ولنأخذ عجز بيت البحتري نفسيه على الوزنين
فعلى مستعلن = 312 يكون وزن العجز حسب مستجير
وتماسكت عند زعزعني الدهــ......(ـرُ التماسا منه لتعسي ونكسي)
وعلى مستفعلُ حسب الخليل نصوغ النص ليطابق
2 2 3 2 2

وتماسكت عند زعزعني الدهــ......(ـرُ التماسا يفري ويزيد تعسي)
إلى هنا والمقارنة تكاد تكون متساوية ولكن الذي يزيد الاحتمال الأول هو ورود (331) بدون الرقم 3 وراءها الذي يمكننا من تطبيق (ق331) وبالتالي جعل الوزن يصبح
2 3 2 2 2 2 2 3 2 وعليه النص
وتماسكت عند زعزعني الدهــ......(ـرُ التماسا يفري قلبي ونفسي)
هنا نكون أثبتنا للخليل رأيه ولمستجير رأيه بتحليل كلي لا يتعامل مع حدود التفاعيل أو الأسماء والمصطلحات بل الأشياء في ذاتها.
أدرك العرب هذا الرهق وإن لم يسموه بهذا الإسم، واسمع ماذا يقول أبو العلاء المعري عن بيت المتنبي:
ربّ نجيع بسيف الدولة انسفكا ........وربّ قافية غاظت به ملكا
" ولم يزاحف أبو الطيب زحافا تنكره الغريزة إلا في هذا الموضع"
يقصد في أول الصدر حيث الوزن
2 (2) 2 2 3 2 2 3 1 3 = (8) 3 4 3 1 3.
أكرر هنا أن العروض الرقمي كما قالت الأخت سماء ترقية للتفكير في تناوله للقضايا كلها لا العروضية فحسب من حيث النظرة الكلية للأمور وتخطي المظهر للجوهر. وهذا ما أرسى أساسه الخليل يرحمه الله ولكن الجمود الذي ران على الأمة قرونا بعد زمنه جعل المظاهر هي الأساس على حساب الجوهر في كثير من الأمور. وأخطر ما كان من ذلك جمود الاجتهاد في عصور امتدت قرونا.
أكرر هنا أسس العروض الرقمي
1- الإيقاع نوعان وتدي وخببي
2 – الرقمان 2و 3 هما الأساس
3 – الرقم 2 يكافئ ( 2) =11 خبيا
4- تتالي أكثر من سببين في الوتدي يلحق به رهقا خببيا
5 – ليس من مصطلحات ولا أسس بتاتا سوى ما في هذه النقاط الأربع المتقدمة التي تمثل العروض العربي وما عداها تفصيل وتطبيق.
أخي مخلص كثير من آرائك كنت أحملها ومن خلال التفاعل مع هذه الطروحات الذكية واستكناه الأرقام أراني أطور قناعاتي باستمرار وهذا ما سيجعلني أعيد كتابة الطبعة الثانية من كتابي. لم تكن الأمور أمامي بهذا الصفاء عندما كتبتها. والفضل في ذلك يعود للمشاركين النجباء مثلك ومثل طالبتك الأستاذة. وإلى المنتديات.
لك ولطالبتك الذكية الشكر على رفعي لهذا الأفق الذي طالما طمحت إليه من معالجة قضايا العروض ومن ارتياد آفاق جديدة أخرى.
تحزنني قلة الإقبال على هذا العلم المرهف الجميل الحافزللتفكير. )