الشيخ عبيد الله محمد أمين كردي
مرسل: 10-23-2002 07:41 PM
<FONT FACE="Simplified Arabic" SIZE="4"><FONT COLOR="##006000F"">الشيخ عبيد الله محمد أمين كردي
في وداع وظلال ومضة نور
على المدى 00 تَبْقَيْنَ
مَهْوى الشَّوقِ
مهوى النَّظَـرِ
وغاية المُنى
ومشرق الأنوار والأفلاك
ريَّا السُّور
ومهبط الإيمان والأمان
و درة الزمان
بنور00 سيد الأكوان
خير البشـــر
على المدى تَبْقَيْنَ 00
ما بال ثراك العطر
والقُبَّة الخضراء
والحمام..والمآذِنْ
وكُلُّ شيءٍ00 مُطْرِقٌ وساكن
كالحجر
أنا هنا
في دورة التيه
دموعي خُشّع
في حـذر
تُمْطِر فوق قلبي المنكسر
بَقيـَّة من خبر
انتقل الشيخ عبيد الله محمد أمين كردي إلى رحمة الله عز وجل، وفي لحظات أصبح الخبر القاسي على كل مسمعٍ في طيبة الطيبة، ومنها إلى أسماع محبيه عبر الدنيا...خبر جلل فَزعَت فيه الناس بالآمال إلى الكذب،وبالكذب إلى اليقين، وباليقين إلى الإيمان، وبالإيمان إلى الدعاء بالرحمة والغفران.
شخصية كشيخنا الفاضل أكبر من الحديث التقليدي عنها، بمكان الولادة وأين قضَّى مراحل الدراسة، وما هي المهن التي تقلدها... فهو أكبر من ذلك بكثير، وحين تشرق الشمس تصبح حقيقةً أكبر من أن يهتم أحد أو يسأل عن بدايات نشأتها. ولعل أكبر ميزة لشيخنا، ولعلها إحدى أهم الأسباب للشعور بفقده الكبير، أنه نشأ في رحاب الطيبة طيبة، من بين الناس الذين أحبوه دوما... صبيا رجلا، ورجلا شيخا. ولكنهم ما لبثوا أن رأوه شيخا عالما مؤرخا، وكأنه شهاب خرج من بين ظهرانيهم ليضيء لهم، مع أنه كان يصر على أنه مضيء بنور رسول الله e وبركة المدينة ومحبة أهلها، الذين تبؤوا الدار والإيمان، الذين "يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ".
أصبح الشيخ، في غفلة من الزمان أو الناس، علماً من أعلام المدينة المنورة، وعالما فذا في قائمة أئمتها وفضلائها وعلمائها الخالدين، في رحاب أصحاب رسول الله e وعمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس والأمين الشنقيطي ومحمد الحافظ وعطية سالم. واستطاع بجمعه بين العلوم الشرعية والسيرة والتاريخ أن يُكون موسوعة متناسقة..يعرِّف بالحدث والمكان. وأصبح تاريخ المدينة، مع علمه بتاريخ غيرها من بلاد المسلمين، بين يديه..وكان عوناً لكل ما يساهم في توثيق تاريخ المدينة بما في ذلك التعريف بمعالمها..فيسهم في التحقيق والتأليف والنشر، وينفي عن نفسه الريادة في ما تم. كانت محبته للمدينة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام حافزه الأول لكل عمل، وسيظل تاريخ المدينة مدينا له بما قدم، وهي أمانة على كل من يخاف الله في مُهاجِر المصطفى e ومأرز الإيمان، أن يحفظ تاريخها ويدوِّن معالمها أن تضيع بيـن عبث المتحذلقين، وحذلقة المُدَّعين، ففي ضياع ذلك ظلم لها ولأهلها، وفقدان لجزء هام من تاريخ الأمـة الإسلامية.
كان منهج الشيخ في الدعوة والتعليم والنصح والتوجيه نبوياً...في غير ضيق أو ملل، وبلسان طلق لبق، ومنطق غير منغلق، محيا أنيس وإخلاص رائع وإصرار على الحق وأمل في الهداية. وكانت حدوده في الدعوة إلى الله هي الدنيا بأسرها. فلم يترك مكانا يجد فيه للدعوة حاجة حتى يحث إليه الخطى رغم المشقة، باذلا مما أنعم الله به عليه، ما يستطيع في كرم نفس وطيب خاطر. وكان حسن الظن بالناس قـوي الأمل والرجاء بهداية الله، يدعو بالحكمة والمـوعظة الحسنة، ويجادل بالتي هي أحسن. وينزل إلى مستوى مجادليه، في صبر الحليم وأناة العالم، وثقة العامل. وكـان لا يعبأ بحاسديه، رغم انتساب بعضهم للعلم، واتخاذ بعضهم طُرقاً للنيل منه لا تُقِرُّها أبسط الأخلاق، ولا أصول الاختلاف، رغم وضوح منهجه وصحة رؤيته، فقد عوضه الله عنهم خيراً، بعميـق إيمانه ونقاء علمه وصدق سريرته، وتواضعه، ومحبته للمصطفى e وللمدينة المنورة. جـاء في البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحْبِبْهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ.
لا يقل سلوك الشيخ الشخصي ومنهجه في حياته اليومية أهمية عن علمه ذلك أنه كان تطبيقا عمليا لعلمه وما يـؤمن به. وقد كان رحمه الله نموذجا مثاليا في حسن الخلق، شيمته الأمانة والوفاء ودافعه الإخلاص، ومنبعه الإيمان، وقدوته المصطفىe. وكـان الشيخ عبيد كردي، رحمه الله، من أبر الناس برحمه، وكان رجل أسرة من نمط خاص "خيركم خـيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي". ولعل حرصه على تحفيظ أبنائه للقرآن الكريم أبلغ دليل على ذلك، كما أن منهجه الفريـد في ذلك يستحق من المختصين دراسة متأنية. وأحسب أن الشيخ كان يَعُدُّ في إطار أسرته جيرانه وأقاربه..وكل المسلمين. ولهذا فقد نذر نفسه لعون المحتاجين، خاصة في طيبة الطيبة، فكان ممن اختصهم الله بقضاء حوائج الناس، وكان يتجاوز الطرق التقليدية في طلب الدعم أو إسداء العون ليجعلها في إطار العصر ومتطلباته. كان أباً للمساكين والأيتام والأرامل امتد عونه ونفعه للناس كما انتشر علمه. وكان ورعا قنوعا يردد دائما "من بورك له في شيء فليلزمه".
حرص أحباؤه، وهم كثر، على نصحه بأن يرفق بنفسه، فقد كان يجهدها دون رفق، سواء في الدعوة أو العلم أو قضاء حوائج الناس والبر بالفقراء والمساكين والأرامل والأيتام، وهو الذي نشأ يتيما. كان يسافر لساعات طوال وبوسائل مواصلات شتى، لا يرتاح له بال حتى يُنْفِذ ما وفقه الله إليه. وكان حين العمل على كتابه "الكعبة المعظمة والحرمان الشريفان عمارة وتاريخا" مضرب المثل في الحرص على مستوى المادة العلمية والإنتاج..كان يكتب النص ويصحح الكتابة ويُعلَّق على التصميم ومستوى الألوان والطباعة والتجليد، ويقضي في ذلك ساعات وساعات:
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
ولعله من المناسب الإشارة إلى أن هذا الكتاب كان خاتمة لإنتاجه العلمي، وثَّق فيها تاريخ الكعبة والحرمين الشريفين ومكة المكرمة والمدينة المنورة، فأصبح أحد أفضل المراجع في هذا الموضوع. وكان حريصا على أن يتجاوز الكتاب المستوى المحدود للنشر، ليصل إلى كل مسلم. وهي دعوة هنا إلى القائمين على إصدار الكتاب ليحققوا ذلك الأمل. كما أتم، رحمه الله، مسودة كتـاب باللغة الإنجليزية، عن مناسك الحج والعمرة، تطرق فيه أيضا إلى الحرمين الشريفين والمدينتين المقدستين وكان يهدف إلى نشره بين المسلمين في أنحاء الدنيا وفي الشرق الأقصى خاصة، على أن يصدر في وقت لاحق بلغات أخرى.
وصـل الشيخ إلى الرياض قبل أسبوعين من انتقاله إلى الرفيق الأعلى، وطال معه الحديث، وفاجأني في معرض الكلام بقوله أنه لم يعد ما يهمه في هذه الدنيا، وكأني به يترقب لقاء الله، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. ودارت في نفس الجلسة في خاطره فكرة مقاله الذي تحدث فيه عن دورة الحياة بين المسجد النبوي والبقيع والدنيا التي بينهما. وكانت مقالته تلك كأنها وصية أخيرة ونَعْي للنفس ووداعٌ مسبق للأحباب، وشوق للقاء الأحبة، محمد وصحبه، وحسن ظن بالله عز وجل. وبعد عودته دخل المستشفى لعارض تطلب عملية جراحية محدودة، إلا أنه بروحه الأبية وعزمـه الشديد، خرج من المستشفى ليحضر درسا علميا، ثم عاد إليه. وبقي أياما معدودة خرج بعدها برفقة حفيده عبيد الله.
فقدت المدينة العديد من علمائها في العامين الأخيرين، ولعل الأَوْلى من الحديث العابر عنهم أن يتطوع بعض ذوي الفضل من أهلها ليجمعوا شتات ما قدموه للأمة من ثروة علمية، ويعيدوا إصدار ما ينفذ، وأن يوثقوا أولئك الأعلام في كتاب يعد مرجعا عبر الزمن، اعترافا بفضل أولئك وخدمة لمدينة المصطفى e. وأرجو أن بعضا من أهل الخير يخصص وقفا لذلك، وربما يتم إنشاء مكتبة باسم مكتبة علماء المدينة تضم مكتباتهم الخاصة وإصداراتهم.
وبعد يا أبا أمين...
أيها المستل من قلبي ومن كبدي، ومن بقايا الروح والجسد، أما وإن الموت حق فإن الحزن عليك باق، وقد قيض الله لك من البشائر بلقائه ما سعد به المحب وغِيظ به الحاسد.. عُلوٌ في الحياة وفي الممات..كانت الجنازة والدفن مشهداً سيظل في قلوب محبيك أبداً، لقد مكثوا جميعا بعد صلاة الفجر والصلاة عليك حتى أشرقت الأرض بنور ربها، يتلون كتاب الله ويحتسبونك عند الله عز وجل في نعيم مقيم في جنات وعيون..ولو استطاعوا لبقوا بقرب قبرك أبداً تحت قدمي رسول الله e وبجوار آل بيته الأبرار والمهاجرين والأنصار. جاء في الحديث "حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِي اللَّهم عَنْهم يَقُولُ مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَتْ ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ وَجَبَتْ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّهم عَنْهم مَا وَجَبَتْ قَالَ هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ.
وبعد يا أبا أمين..
أمَا وقد غبت من أن تشرق على قلوبنا بومضات من نور، فستظل نورا في أنفسنا نستمد مما تعلمنا منك ونستلهم ما نرجو الله عز وجل أن يجمعنا بك في حمى الحبيب العظيم صلى الله عليه وسلم. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ.
وبعد يا أبا أمين..
معذرة
إذا قست نفوسنا
وجرؤت أيدينـا
تهيل فوقك التراب
و رجعت أقدامنا
و نحن حول قبرك اليانع
تائهون
عائدون للحياة
كالسراب
عزاؤنا
الماثل للمعتبر
مصيرنا القابع
وسط الحفر
وأنك
بالذي قدمت
من مدخر
في جنة الفردوس
في رحاب الخالق المقتدر
وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون..
في وداع وظلال ومضة نور
على المدى 00 تَبْقَيْنَ
مَهْوى الشَّوقِ
مهوى النَّظَـرِ
وغاية المُنى
ومشرق الأنوار والأفلاك
ريَّا السُّور
ومهبط الإيمان والأمان
و درة الزمان
بنور00 سيد الأكوان
خير البشـــر
على المدى تَبْقَيْنَ 00
ما بال ثراك العطر
والقُبَّة الخضراء
والحمام..والمآذِنْ
وكُلُّ شيءٍ00 مُطْرِقٌ وساكن
كالحجر
أنا هنا
في دورة التيه
دموعي خُشّع
في حـذر
تُمْطِر فوق قلبي المنكسر
بَقيـَّة من خبر
انتقل الشيخ عبيد الله محمد أمين كردي إلى رحمة الله عز وجل، وفي لحظات أصبح الخبر القاسي على كل مسمعٍ في طيبة الطيبة، ومنها إلى أسماع محبيه عبر الدنيا...خبر جلل فَزعَت فيه الناس بالآمال إلى الكذب،وبالكذب إلى اليقين، وباليقين إلى الإيمان، وبالإيمان إلى الدعاء بالرحمة والغفران.
شخصية كشيخنا الفاضل أكبر من الحديث التقليدي عنها، بمكان الولادة وأين قضَّى مراحل الدراسة، وما هي المهن التي تقلدها... فهو أكبر من ذلك بكثير، وحين تشرق الشمس تصبح حقيقةً أكبر من أن يهتم أحد أو يسأل عن بدايات نشأتها. ولعل أكبر ميزة لشيخنا، ولعلها إحدى أهم الأسباب للشعور بفقده الكبير، أنه نشأ في رحاب الطيبة طيبة، من بين الناس الذين أحبوه دوما... صبيا رجلا، ورجلا شيخا. ولكنهم ما لبثوا أن رأوه شيخا عالما مؤرخا، وكأنه شهاب خرج من بين ظهرانيهم ليضيء لهم، مع أنه كان يصر على أنه مضيء بنور رسول الله e وبركة المدينة ومحبة أهلها، الذين تبؤوا الدار والإيمان، الذين "يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ".
أصبح الشيخ، في غفلة من الزمان أو الناس، علماً من أعلام المدينة المنورة، وعالما فذا في قائمة أئمتها وفضلائها وعلمائها الخالدين، في رحاب أصحاب رسول الله e وعمر بن عبد العزيز ومالك بن أنس والأمين الشنقيطي ومحمد الحافظ وعطية سالم. واستطاع بجمعه بين العلوم الشرعية والسيرة والتاريخ أن يُكون موسوعة متناسقة..يعرِّف بالحدث والمكان. وأصبح تاريخ المدينة، مع علمه بتاريخ غيرها من بلاد المسلمين، بين يديه..وكان عوناً لكل ما يساهم في توثيق تاريخ المدينة بما في ذلك التعريف بمعالمها..فيسهم في التحقيق والتأليف والنشر، وينفي عن نفسه الريادة في ما تم. كانت محبته للمدينة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام حافزه الأول لكل عمل، وسيظل تاريخ المدينة مدينا له بما قدم، وهي أمانة على كل من يخاف الله في مُهاجِر المصطفى e ومأرز الإيمان، أن يحفظ تاريخها ويدوِّن معالمها أن تضيع بيـن عبث المتحذلقين، وحذلقة المُدَّعين، ففي ضياع ذلك ظلم لها ولأهلها، وفقدان لجزء هام من تاريخ الأمـة الإسلامية.
كان منهج الشيخ في الدعوة والتعليم والنصح والتوجيه نبوياً...في غير ضيق أو ملل، وبلسان طلق لبق، ومنطق غير منغلق، محيا أنيس وإخلاص رائع وإصرار على الحق وأمل في الهداية. وكانت حدوده في الدعوة إلى الله هي الدنيا بأسرها. فلم يترك مكانا يجد فيه للدعوة حاجة حتى يحث إليه الخطى رغم المشقة، باذلا مما أنعم الله به عليه، ما يستطيع في كرم نفس وطيب خاطر. وكان حسن الظن بالناس قـوي الأمل والرجاء بهداية الله، يدعو بالحكمة والمـوعظة الحسنة، ويجادل بالتي هي أحسن. وينزل إلى مستوى مجادليه، في صبر الحليم وأناة العالم، وثقة العامل. وكـان لا يعبأ بحاسديه، رغم انتساب بعضهم للعلم، واتخاذ بعضهم طُرقاً للنيل منه لا تُقِرُّها أبسط الأخلاق، ولا أصول الاختلاف، رغم وضوح منهجه وصحة رؤيته، فقد عوضه الله عنهم خيراً، بعميـق إيمانه ونقاء علمه وصدق سريرته، وتواضعه، ومحبته للمصطفى e وللمدينة المنورة. جـاء في البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحْبِبْهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ.
لا يقل سلوك الشيخ الشخصي ومنهجه في حياته اليومية أهمية عن علمه ذلك أنه كان تطبيقا عمليا لعلمه وما يـؤمن به. وقد كان رحمه الله نموذجا مثاليا في حسن الخلق، شيمته الأمانة والوفاء ودافعه الإخلاص، ومنبعه الإيمان، وقدوته المصطفىe. وكـان الشيخ عبيد كردي، رحمه الله، من أبر الناس برحمه، وكان رجل أسرة من نمط خاص "خيركم خـيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي". ولعل حرصه على تحفيظ أبنائه للقرآن الكريم أبلغ دليل على ذلك، كما أن منهجه الفريـد في ذلك يستحق من المختصين دراسة متأنية. وأحسب أن الشيخ كان يَعُدُّ في إطار أسرته جيرانه وأقاربه..وكل المسلمين. ولهذا فقد نذر نفسه لعون المحتاجين، خاصة في طيبة الطيبة، فكان ممن اختصهم الله بقضاء حوائج الناس، وكان يتجاوز الطرق التقليدية في طلب الدعم أو إسداء العون ليجعلها في إطار العصر ومتطلباته. كان أباً للمساكين والأيتام والأرامل امتد عونه ونفعه للناس كما انتشر علمه. وكان ورعا قنوعا يردد دائما "من بورك له في شيء فليلزمه".
حرص أحباؤه، وهم كثر، على نصحه بأن يرفق بنفسه، فقد كان يجهدها دون رفق، سواء في الدعوة أو العلم أو قضاء حوائج الناس والبر بالفقراء والمساكين والأرامل والأيتام، وهو الذي نشأ يتيما. كان يسافر لساعات طوال وبوسائل مواصلات شتى، لا يرتاح له بال حتى يُنْفِذ ما وفقه الله إليه. وكان حين العمل على كتابه "الكعبة المعظمة والحرمان الشريفان عمارة وتاريخا" مضرب المثل في الحرص على مستوى المادة العلمية والإنتاج..كان يكتب النص ويصحح الكتابة ويُعلَّق على التصميم ومستوى الألوان والطباعة والتجليد، ويقضي في ذلك ساعات وساعات:
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
ولعله من المناسب الإشارة إلى أن هذا الكتاب كان خاتمة لإنتاجه العلمي، وثَّق فيها تاريخ الكعبة والحرمين الشريفين ومكة المكرمة والمدينة المنورة، فأصبح أحد أفضل المراجع في هذا الموضوع. وكان حريصا على أن يتجاوز الكتاب المستوى المحدود للنشر، ليصل إلى كل مسلم. وهي دعوة هنا إلى القائمين على إصدار الكتاب ليحققوا ذلك الأمل. كما أتم، رحمه الله، مسودة كتـاب باللغة الإنجليزية، عن مناسك الحج والعمرة، تطرق فيه أيضا إلى الحرمين الشريفين والمدينتين المقدستين وكان يهدف إلى نشره بين المسلمين في أنحاء الدنيا وفي الشرق الأقصى خاصة، على أن يصدر في وقت لاحق بلغات أخرى.
وصـل الشيخ إلى الرياض قبل أسبوعين من انتقاله إلى الرفيق الأعلى، وطال معه الحديث، وفاجأني في معرض الكلام بقوله أنه لم يعد ما يهمه في هذه الدنيا، وكأني به يترقب لقاء الله، ومن أحب لقاء الله أحب الله لقاءه. ودارت في نفس الجلسة في خاطره فكرة مقاله الذي تحدث فيه عن دورة الحياة بين المسجد النبوي والبقيع والدنيا التي بينهما. وكانت مقالته تلك كأنها وصية أخيرة ونَعْي للنفس ووداعٌ مسبق للأحباب، وشوق للقاء الأحبة، محمد وصحبه، وحسن ظن بالله عز وجل. وبعد عودته دخل المستشفى لعارض تطلب عملية جراحية محدودة، إلا أنه بروحه الأبية وعزمـه الشديد، خرج من المستشفى ليحضر درسا علميا، ثم عاد إليه. وبقي أياما معدودة خرج بعدها برفقة حفيده عبيد الله.
فقدت المدينة العديد من علمائها في العامين الأخيرين، ولعل الأَوْلى من الحديث العابر عنهم أن يتطوع بعض ذوي الفضل من أهلها ليجمعوا شتات ما قدموه للأمة من ثروة علمية، ويعيدوا إصدار ما ينفذ، وأن يوثقوا أولئك الأعلام في كتاب يعد مرجعا عبر الزمن، اعترافا بفضل أولئك وخدمة لمدينة المصطفى e. وأرجو أن بعضا من أهل الخير يخصص وقفا لذلك، وربما يتم إنشاء مكتبة باسم مكتبة علماء المدينة تضم مكتباتهم الخاصة وإصداراتهم.
وبعد يا أبا أمين...
أيها المستل من قلبي ومن كبدي، ومن بقايا الروح والجسد، أما وإن الموت حق فإن الحزن عليك باق، وقد قيض الله لك من البشائر بلقائه ما سعد به المحب وغِيظ به الحاسد.. عُلوٌ في الحياة وفي الممات..كانت الجنازة والدفن مشهداً سيظل في قلوب محبيك أبداً، لقد مكثوا جميعا بعد صلاة الفجر والصلاة عليك حتى أشرقت الأرض بنور ربها، يتلون كتاب الله ويحتسبونك عند الله عز وجل في نعيم مقيم في جنات وعيون..ولو استطاعوا لبقوا بقرب قبرك أبداً تحت قدمي رسول الله e وبجوار آل بيته الأبرار والمهاجرين والأنصار. جاء في الحديث "حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِي اللَّهم عَنْهم يَقُولُ مَرُّوا بِجَنَازَةٍ فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَبَتْ ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا فَقَالَ وَجَبَتْ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِي اللَّهم عَنْهم مَا وَجَبَتْ قَالَ هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ.
وبعد يا أبا أمين..
أمَا وقد غبت من أن تشرق على قلوبنا بومضات من نور، فستظل نورا في أنفسنا نستمد مما تعلمنا منك ونستلهم ما نرجو الله عز وجل أن يجمعنا بك في حمى الحبيب العظيم صلى الله عليه وسلم. وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ.
وبعد يا أبا أمين..
معذرة
إذا قست نفوسنا
وجرؤت أيدينـا
تهيل فوقك التراب
و رجعت أقدامنا
و نحن حول قبرك اليانع
تائهون
عائدون للحياة
كالسراب
عزاؤنا
الماثل للمعتبر
مصيرنا القابع
وسط الحفر
وأنك
بالذي قدمت
من مدخر
في جنة الفردوس
في رحاب الخالق المقتدر
وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون..