ديستويفسكي واليهود

حوارات - مواضيع - شعرعامِّي

المشرف: مجدي

موودي
المشرف العام
مشاركات: 274
اشترك في: 04-30-2001 10:04 PM
اتصال:

مشاركةبواسطة موودي » 04-25-2002 07:20 PM

<font size=4 color=Navy>
لعل فصل "المسألة اليهودية" الذي كتبه فيودر ميخائيلوفيتش ديستويفسكي في "يوميات كاتب" من أهم الوثائق التاريخية/الأدبية في التركة العظيمة لهذا الكاتب العالمي على الرغم من الاختلافات الكثيرة حوله، وحول إبداعاته وتوجهاتها. وبالبحث في المكتبة المركزية الروسية -مكتبة لينين سابقا- عثرنا على نسخة من طبعة أ. ف. ماركس ـ سانت بطرسبورج ـ لعام 1895م باللغة الروسية القديمة، ووجدنا فصل "المسألة اليهودية" يمثل الفصل الثاني من "يوميات كاتب" عن شهر مارس 1877م، ويقع في الجزء الأول من المجلد الحادي عشر بالأعمال الكاملة. وقد نُشِرَت تلك اليوميات في مقالات بملحق مجاني لمجلة "نيفا" عام 1895م. أما الكتاب نفسه فقد أجازته رقابة سانت بطرسبورج في 23 يونيو 1895م.
وإذا كان يبدو أننا هنا نَتَّبِع منهجا رياضيا في دقته بالنسبة لتحديد التواريخ والأسماء، فالسبب يعود إلى عوامل كثيرة هامة وجدية وإن كانت غير جديدة بالنسبة لآثار الكبار بداية من وليم شكسبير حتى العديد من كتابنا ومؤرخينا الكبار مرورا بآخرين من أمثال تورجينيف وشولجين وبلينسكي وجونتشاروف وحتى بوريس باسترناك الذي رفض جائزة نوبل عن قناعة شخصية.
إن مقالة "المسألة اليهودية" تحديدا لم تظهر إلى النور بعد عام 1895م في أي من الطبعات التالية لطبعة أ. ف. ماركس المشار إليها أعلاه. وقد ظهرت فقط بعد 99 عاما بالضبط، أي في عام 1994م، في كتيب صغير الحجم ضم مقالات أخرى وملخصات لكتب -كانت ممنوعة أو مهملة عمدا- من أهمها ملخص لكتاب فاسيلي شولجين "ما لا يعجبنا فيهم" عن دار نشر "فيتز". وتكررت نفس الطبعة عام 1995م (أي بعد مئة عام بالتمام والكمال) عن نفس الدار، وحتى الآن لم تظهر بعد ضمن الأعمال الكاملة بصورتها التي كتبها عليها ديستويفسكي. وعلى الرغم من أن الظروف لا تسمح في هذه المقدمة البسيطة بتناول أسباب المنع -أو الإهمال- لهذه المقالة طوال تلك الفترة، إلا إنه يمكننا أن ندرك ظروف وملابسات المنع وأسبابه من خلال قراءتها. مع العلم بأن الفترة التي كُتِبَت فيها كانت مليئة بأحداث تاريخية هامة انعكست في مجملها على بعض الأعمال الإبداعية عند تورجينيف على سبيل المثال في قصة "اليهودي" (1846م)، وعند تشيخوف في قصة "كمان روتشيلد" (1894م)، وأدت على نحو ما -إلى جوار أسباب وأحداث أخرى كثيرة- إلى مشاكل بين الروس واليهود، في روسيا، بداية من عام 1897م حتى عام 1906م، قادت في جزء منها إلى انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول عـام 1897م، ثم إلى ثورة 1905م.
أما الأمر الذي لفت انتباهنا إلى هذه الوثيقة التاريخية/الأدبية الهامة، فهو تلك الموجة الجديدة-بعد انهيار الاتحاد السوفييتي- التي حملت معها تغيرات جذرية في مجمل العلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وتحديدا في العلاقات القومية والإثنية والدينية لشعوب روسيا الكثيرة. إننا هنا لسنا بصدد تحليل أو حتى إلقاء الضوء على ظروف وملابسات هذه الوثيقة. ولكن حركة القوميين الروس بعد انهيار الاتحاد السوفييتي هبت من رقدتها بشكل مثير للانتباه. وعلى الرغم من شراستها لا يمكن إطلاقا اتهامها بذلك المصطلح الابتزازي المسمى بـ "معاداة السامية". لأنه مع سقوط وتحلل الاتحاد السوفييتي طفت على السطح نزاعات وصراعات دينية وقومية وإثنية وجد الروس أنفسهم فيها في وضع خطير. فهم فعليا لا يملكون في هذه الصراعات والنزاعات ناقة أو بعير، لأنهم بطبيعتهم شعب متسامح ليست لديه أية رواسب قومية أو دينية، وليست لديه أية تعصبات قبلية أو إثنية أو انفعالات متطرفة ضد أي من الأقليات الموجودة في روسيا. ولكن تدني الأحوال الاقتصادية والاجتماعية، وانهيار أحلام الرخاء والوعود البراقة بالازدهار والثراء قد وَلَّت مثل أشياء كثيرة أخرى، وظهرت على الساحة نزاعات قبلية وطائفية (كان البعض منها خاملا وغير فعال حيث تمكنت السلطة السوفييتية من التعامل معه وإدارته بشكل يضمن القضاء عليه تدريجيا، والبعض الآخر كان مستترا وهو الجزء الذي تم استغلاله بعد رفع شعارات الـ "بيريسترويكا" ليحدث ما يحدث في السنوات الأخيرة، ونراه عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة) من الأقليات الشيء الذي دفع مجموعات ودوائر القوميين الروس -وهم قلة، ولكنها فعالة جدا، بل وتمثل جزءا لا يستهان به من "الإنتلجنسيا" الروسية عميقة الثقافة- إلى التعامل مع هذه المشاكل على طريقتها. ولما كان اليهود في روسيا، قبل قيام الاتحاد السوفييتي، قد استطاعوا أن يلعبوا لعبتهم الشهيرة ويسيطروا على مجمل المجالات الحيوية مثل الاقتصاد والإعلام (راجع كتاب فاسيلي شولجين "ما لا يعجبنا فيهم" الذي صدر في فرنسا عام 1930م، وفي روسيا لأول مرة عام 1994م) فقد جاءت ثورة 1917م لتزيح تماما العامل القومي-القبلي، ونجحت بالفعل في ذلك، إلا أنه بمجيء سياسة الـ "بيريسترويكا"، ثم انهيار الاتحاد السوفييتي وقيام روسيا الاتحادية-الجديدة، ظهر اللوبي الصهيوني مرة أخرى أقوى وأمكر، فسيطر تماما على البنوك ووسائل الإعلام، وبالتالي -بديهيا- على السلطة، ووجد الروس أنفسهم مرة أخرى في ذيل القائمة يتسولون على محطات المترو ويتشردون في الحارات والأزقة المظلمة مع إصرار وسائل الإعلام التي يملكها -جميعا- المليارديرات اليهود على تصوير الروس الجدد بأنهم واجهة المجتمع الروسي، ولا يخفى على أحد أن هذه الواجهة معظمها، إن لم يكن كلها من اليهود، أما الروس منهم فهم إما يعملون بأموال وتوجيهات اللوبي الصهيوني، أو يقومون بغسل أموال المافيا الروسية الشرسة.
نعود فنكرر بأن هذه الهجمة الصهيونية الشرسة التي لا تتردد في الإفصاح عن ذلك والمجاهـرة به، والفخر أيضا بكل إنجازاتها في تخريب كل شيء بروسيا، قد كتلت ضدها تيارا لا يقل عنها سوء، وهو تيار القوميين الروس المتطرفين أيضا. فقاموا منذ بداية التسعينات بإصدار كتب ومطبوعات كثيرة عن الماسونية والصهيونية وبروتوكولات حكماء صهيون، وأحيوا النعرة القومية والقبلية. وما يهمنا في كل ذلك هو قيام التيار القومي الروسي المتطرف بإصدار هذا الفصل من يوميات ديستويفسكي مشوها، وانتزعوا منه 5 صفحات كاملة (أشرنا إليها في هوامش مع الترجمة الكاملة من النسخة الأصلية) بل وسمحوا لأنفسهم بإزالة أقواس ووضع أخرى في أماكن مختلفة. ومع ذلك يبقى كل هذا مجرد رد فعل متطرف على توجهات وسلوكيات أكثر تطرفا في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية متدنية، ويبقى أيضا ديستويفسكي كما عرفناه بتناقضاته وإشكالياته الشخصية والفنية والتاريخية. والأهم من هذا وذاك هو إمكانية الحصول على الوثيقة في آخر طبعاتها قبل المنع. ولتكن هذه الوثيقة إحدى زوايا النظر إلى القدرة الديستويفسكية الفذة رغم ما يتعرض له من حقد شديد وخاصة من جانب اليهود، واحتقارهم لأعماله. ولكن الحكم الأخير للتاريخ وللناس على ديستويفسكي وشكسبير وتورجينيف وباسترناك وجونتشاروف وبلينسكي وشولجين يبقى هو الأساس حيث لا محل هنا للأحقاد الشخصية أو القبلية، أو إطلاق ألفاظ ومصطلحات ابتزازية مثل "معاداة السامية"!.
وعلى الرغم من مرور أكثر من مئة عام على تلك الوثيقة، سنرى بالفعل أنها كما لو كانت قد كُتِبَت منذ عهد قريب، وربما الآن، وكأن ديستويفسكي كان يرى كل شيء عبر الزمن، عبر مئة عام، عبر قيام إمبراطوريات وانهيار أخرى. إنها وثيقة ديستويفسكية أدبية، ربما تكون عاطفية نسبيا، ولكنها على كل حال تظل تمتلك قيمتها التاريخية/الإنسانية.
المسألة اليهودية
لا تعتقدوا بأنني أغامر فعليا بإثارة "المسألة اليهودية"! لقد كتبتُ هذا العنوان على سبيـل الدعابة، لأنه ليس في طاقتي فتح قضية ضخمة مثل وضع اليهود في روسيا التي تمتلك بين أبنائها 3 ملايين يهودي. هذا الأمر ليس بمقدوري، إلا أنني ما زلت أمتلك رأيا ما. ويبدو أن بعض اليهود قد أصبحوا فجأة مهتمين برأيي. منذ فترة وجيزة بدأتُ أتلقى منهم رسائل يوجهون إليَّ فيها اللوم بجدية ومرارة لأنني أهاجمهم[1]، وأنني "أكره اليهودي"[2] ليس بسبب رذائله، "ليس كمُسْتَغِل"، وإنما تحديدا كأصل، أي كما درج عليه القول بأن: "يهوذا هو الذي خان المسيح". يكتب ذلك يهود "متعلمون"، أي من هؤلاء الذين (لاحظتُ ذلك، لكنني لا أود إطلاقا تعميم ملاحظتي، مع التحفظ مسبقا) يحاولون دائما إعطاءنا تصورا بأنهم مع تعليمهم قد أصبحوا منذ زمن بعيد لا يشاركون أمتهم "أباطيلها"، ولا يؤدون الطقوس الدينية مثل الآخرين من اليهود البسطاء، ويرون ذلك أدنى من مستوى ثقافتهم، علاوة على زعمهم بأنهم لا يؤمنون بالرب. وأشير هنا، بالمناسبة، بين قوسين إنه من الإثم على جميع هؤلاء السادة من "علية اليهود" الذين يناضلون هكذا من أجل أمتهم أن ينسوا ربهم ويتخلوا عنه. وذلك بعيد تماما عن كونه إثما يخص فقط المشاعر القومية، وإنما لأسباب أخرى ذات بعد عميق للغاية. إنه لأمر غريب: يهودي بدون رب شيء ما غير مفهوم. يهودي بدون رب أمر يستحيل تصوره. لكن ذلك من الموضوعات الواسعة، لذا سندعه مؤقتا. إن كل ما يثير دهشتي أكثر من أي شيء هو: كيف، ومن أين، وقعتُ في زمرة الكارهين لليهود كشعب، وكأمة؟. فنفس هؤلاء السادة يسمحون لي جزئيا بإدانة اليهودي كمُستَغِل، واستنكار بعض عيوبه ورذائله، ولكن هذا مجرد كلام: ففي الواقع إنه من الصعب إيجاد من هو أكثر تدقيقا وتهيجا وغضبا من اليهودي المثقف كيهودي. ومع ذلك، فمـرة أخرى: متى وكيف صَرَّحتُ بالكره لليهودي كإنسان؟ إن قلبي لم يعرف قط ذلك الكره، ويعرف هذا البعض من أولئك اليهود الذين تعرَّفوا إليَّ وكانوا معي في علاقات، ومنذ البداية، وقبل أية كلمة، أُبعدُ عن نفسي هذا الاتهام مرة واحدة وإلى الأبد كي لا أتذكَّر أي شيء عن ذلك بعد الآن. فهل حقا يتهمونني بـ "الكراهية" لأنني أسمي اليهودي أحيانا "جيدا"؟ لكنني، أولا، لا أعتقد أن ذلك مهينا، وثانيا فكلمـة "جيد" على ما أذكر كنتُ أذكرها دائما للإشارة إلى فكرة سائدة: "يهودي، يهودية، مملكة اليهود"[3] وخلافه. وهذا ما أُطْلِق على ما هو معروف من مفاهيم واتجاهات وصفات في هذا العصر. ويمكن مناقشة هذه الفكرة، بل وعدم الاتفاق معها، ولكن من غير الممكن أن تكون الكلمة سببا للإهانة. وسأورد جزءاً من رسالة أحد المثقفين اليهود الذي كتب إليَّ رسالة طويلة ورائعة في أشياء كثيرة تهمني للغاية.. وهذا أحد أهم الاتهامات الخاصة لي بكراهية اليهودي كإنسان. وبدهي أن اسم السيد ن. ن.، الذي كتب إليَّ الرسالة سوف يظل طي الكتمان.
… ولكنني نويتُ تناول أحد الموضوعات التي لا أستطيع تفسيرها لنفسي إطلاقا، وهو كراهيتكم لـ "الجيد " التي تظهر تقريبا في كل فصل من "يومياتكم". وكم أود معرفة لماذا تقفون ضد الـ "جيد" وليس ضد المُستَغِل بشكل عام.إنني لا أقل كراهية عنكم تجاه خرافات وأباطيل أمتي ـ فما عانيته منها لم يكن قليلا ـ لكنني لن أوافق أبدا إنه في دماء هذه الأمة يجرى استغلال بلا ضمير. هل حقا لا يمكنكم التوصل إلى القانون الأساسي لأية حياة اجتماعية حيث جميع مواطني الدولة الواحدة دون استثناء، لو قاموا بجميع واجباتهم اللازمة لوجود الدولة، يجب أن يتمتعوا بجميع الحقوق والمنافع، كما يجب أن يكون هناك إجراء عقابي واحد وعام للجميع، لمن يخالفون القانون، ولأعضاء المجتمع المضرين؟… إذن فلماذا يجب أن يكون جميع اليهود مُنْتَقَصين في حقوقهم، ولماذا يجب أن تُسَن من أجلهم قوانين تأديبية خاصة؟. وما وجه الأفضلية في استغلال الأجانب (إذ أن اليهود على كل حال من الرعايـا الروس): الألمان والإنجليز واليونانيين الموجودين بتلك الكثرة في روسيا عن الاستغلال اليهودي[4]؟. وما أفضلية مالك الأرض الأرثوذكسي الروسي والمستثمر والبائع أو جابي الإتاوات ومصاص الدماء الموجودين هكذا بكثرة في روسيا كلها عن أمثالهم من اليهود[5] الذين على كل حال يعملون في دائرة محدودة. ما أفضلية هذا عن ذاك.
(هنا يقارن صاحب الرسالة الموقر بعض ملاك الأرض الروس المعروفين بأمثالهم من اليهود، بمعنى أن الروس لا يقلون في ذلك. ولكن على أي شيء يدلل هذا ؟ فنحن لا نتفاخر بملاكنا الروس، ولا نضعهم مثلا للاقتداء، بل على العكس فنحن نتفق بدرجة عالية أن هؤلاء وأولئك سيئون).
ويمكنني أن أطرح عليكم الآلاف من هذه الأسئلة.
إنكم عندما تتحدثون عن الـ "جيد" تسحبون هذا المفهوم على كل الجماهير الفقيرة بشكل فظيع للثلاثة ملايين يهودي من السكان في روسيا، والذين من بينهم 2900000 على الأقل يخوضون نضالا يائسا من أجل وجودهم الذليل، والذين هم أطهر أخلاقا ليس فقط من القوميات الأخرى، وإنما أيضا من الشعب الروسي الذي تعظمونه. إنكم تُضَمِّنُون في تلك التسمية ذلك العدد الموقر من اليهود الذين حصلوا على تعليم عال، والذين يتمايزون في جميع ميادين حياة الدولة. خذوا ولو…
(يورد مرة أخرى هنا بعض الأسماء التي أرى أنه لا يحق لي ذكرها هنا باستثناء جولدشتاين، وذلك ربما يكون كريها للبعض منهم أن يقرؤوا أنهم من أصول يهودية).
جولدشتاين (الذي مات ببطولة في الصرب من أجل الفكرة السلافية)، الذي عمل لصالح المجتمع والبشرية؟. إن كراهيتكم للـ "جيد" تمتد حتى إلى دزرائيلي الذي ربما لا يعلم هو نفسه أن أجداده في زمن ما كانوا يهودا إسبان، والذي لا يقود بالطبع الآن السياسة الإنجليزية المحافظة من وجهة نظر "جيد"؟… للأسف أنتم لا تعرفون الشعب اليهودي ولا حياته ولا روحه ولا تاريخه ذا الأربعين قرنا في النهاية. للأسف، لأنكم على كل حال إنسان مخلص وشريف جدا، ولكنكم تلحقون الضرر دون وعي منكم بجماهير غفيرة من الشعب الفقير ـ أما الـ "جيد" الأقوياء باستقبالهم أقوياء هذا العالم في صالوناتهم، لا يخشون بالطبع لا الصحافة، ولا حتى الغضب العاجز للمُسْتَغَلين. ويكفي الكلام حول هذا الموضوع!. فمن المشكوك فيه أن أقنعكم بوجهة نظري ـ وكم كنتُ أتمنى أن تقنعوني أنتم.
هذا هو الجزء المُقتَطَف. وقبل أن أُجيبُ بشيء ما (إذ أنني لا أود أن أتحمَّل تبعة مثل هذا الاتهام الخطير) ـ أوجه الاهتمام إلى ضراوة الهجوم ودرجة الحساسية. فطوال عام من صدور الـ "يوميات" لم تكن لدىَّ إطلاقا مقالة بهذا الحجم من الضراوة والحساسية ضد الـ "جيد"، والتي كان يمكنها أن تستدعي قوة الهجوم هذه. وثانيا، من المستحيل إغفال أن الراسل الموقر الذي تناول الشعب الروسي في سطوره القليلة تلك، لم يحتمل ولم يتماسك فأخذ يتعامل مع الشعب الروسي المسكين باستعلاء وغطرسة أكثر من الحد اللازم. وفي الحقيقة، في روسيا ومن الروس لم يتبق مكان واحد لم يُبْصَق عليه (كلمة شيدرين)، أما لليهودي فكل شيء "مغفور". وعلى أية حال فهذه القسوة تفصح بوضوح عن كيف ينظر اليهود ذاتهم إلى الروس. لقد كتب هذا بالطبع إنسان متعلم وموهوب (فقط، لا أعتقد أنه بدون أباطيل وخرافات). إذن فماذا ننتظر بعد ذلك من اليهودي غير المتعلم، وما أكثرهم، وأية مشاعر لديه نحو الروس؟. إنني أقول ذلك ليس اتهاما، فكل ذلك شيء طبيعي: أود فقط الإشارة إلى أن الشعب الروسي ليس وحده المذنب في أسباب ودوافع فصلنا عن اليهود، وإنما قد تراكمت تلك الأسباب والدوافع، بالطبع، من الجانبين معا، وليس من المعروف أي طرف قد ساهم بدرجة أكبر. وبعد أن نَوَّهتُ بذلك، سأقول بعض الكلمات لتبرئة نفسي، وكيف أنظر بشكل عام إلى هذه القضية على الرغم من أنني ما زلتُ أكرر أن هذه المسألة ليست بقدر طاقتي، ولكنني على كل حال يمكنني أن أدلي برأي ما.
( 2 )
مع وضد[6]
لنفترض إنه من الصعب تماما معرفة تاريخ الأربعين قرنا لهذا الشعب كيهود، إلا أنني للوهلة الأولى أعرف شيئا واحدا وهو إنه ربما لا يوجد في العالم ككل ذلك الشعب الآخر الذي في كل دقيقة، وفي كل خطوة، وفي كل كلمة من كلماته قد تَشَكي وتَظَلَّم من مصيره، ومن ذله وعذاباته وآلامه، حتى إنك لا تتصور إنهم هم الذين يسودون في أوروبا، وهم الذين يتحكمون في البورصات هناك، الأمر الذي جعلهم يتحكمون في سياسة الدول وشؤونها الداخلية وقيمها. وليكن جولدشتاين النبيل قد مات من أجل الفكرة السلافية، لكن على أية حال لو لم تكن الفكرة اليهودية في العالم بهذه القوة، لأمكن منذ زمن بعيد حل تلك القضية "السلافية" (في العام الماضي) لصالح السلافيين وليس لصالح الأتراك. إنني مستعد للاقتناع بأن اللورد بيكونسفيلد نفسه ربما يكون قد نسى انحداره في زمن ما من اليهود الإسبان (إلا إنه على الأرجح لم ينس). أما إنه قد "قاد السياسة الإنجليزية المحافظة" إلى حد ما من وجهة نظر يهودي[7]، فهذا على حد اعتقادي لا يمكن الشك فيه. وبالطبع فالـ "إلى حد ما" هذه يجب ألا نسمح بها أبدا.
لكن لنعتبر أن كل ذلك من جانبي بلا حجة، نبرة جوفاء وكلام فارغ، وأسلِّم لهم بذلك. إلا أنني على أية حال لا أستطيع أبدا تصديق صراخ اليهود وصياحهم بأنهم إلى هذا الحد مظلومون ومعذبون ومهانون. وفي رأيي أن الفلاح الروسي، بل الإنسان الروسي البسيط عموما يتحمل أعباء أكثر من اليهودي. ويكتب لي مراسلي في رسالة أخرى: "قبل كل شيء يجب منحهم (اليهود) جميع الحقوق المدنية (ولتتصوروا أنهم حتى الآن محرومون من حقهم الأساسي ذاته: الاختيار الحر لمكان الإقامة، الأمر الذي نجم عنه العديد من القيود والمضايقات لكل جماهير اليهود) الممنوحة لجميع الشعوب الغريبة الأخرى في روسيا، وبعد ذلك فقط يمكن مطالبتهم بالقيام بالتزاماتهم نحو الدولة، والسكان الأصليين".
ولكن تخيلوا أيها السيد الراسل وأنتم تكتبون لي في نفس الرسالة، على صفحة أخرى، إنكم "تحبون جماهير الشعب الروسي الكادحة، وتشفقون عليها أكثر بكثير من الجماهير اليهودية" ـ (وهذا أشد ما يمكن أن يقال لليهودي) ـ تصوروا فقط أنه عندما كان اليهود "يعانون من الاختيار الحر لمكان الإقامة"، كان هناك 23 مليونا من "الجماهير الكادحة الروسية" يعانون من نظام الرق والعبودية الذي كان بطبيعة الحال أشد وطأة من "الاختيار الحر لمكان الإقامة". فهل أشفق عليهم اليهود آنذاك؟. لا أعتقد ذلك: فالوضع في أطراف روسيا الغربية وفي جنوبها يمكنه الإجابة على هذا. آنذاك كان اليهود كالعادة يصرخون مطالبين بالحقوق التي لم تكن لدى الشعب الروسي نفسه، كانوا يصرخون ويتشكون بأنهم مقهورون ومعذبون، وبأنه عندما يمنحونهم حقوقا أكثر "عندئذ فقط اطلبوا منا القيام بالتزاماتنا تجاه الدولة والسكان الأصليين "ثم أتى المُحَرِر، محرر الشعب الأصلي، فانظر ماذا حدث، مَنْ كان أول المنقضين عليه كمن ينقض على فريسة، مَنْ في الغالب استغل علله ومشاكله، مَنْ أحاطه بالأكاذيب وخدعه بحرفته الذهبية الأبدية، ومَنْ حل في كل مكان، حيثما استطاع وأدرك، محل الإقطاعيين الذين أُلْغِيَ نظامهم، مع فارق أن الإقطاعيين كانوا رغم استغلالهم الشديد للناس، حاولوا دائما ألا يهلكوا فلاحيهم، على الأرجح من أجل مصالحهم كي لا يستنزفوا القوى العاملة، أما اليهودي فلم يكن يعنيه استنفاد ونضوب القوى العاملة الروسية، وحصل على ما يبغيه ورحل.
إنني أعرف أن اليهود بمجرد قراءتهم لهذا سوف يبدؤون في الحال صراخهم بأن ذلك ليـس صحيحا، وبأنه افتراء ووشاية، وبأنني أكذب إذ أُصَدِّق جميع هذه الحماقات، وأنني "لا أعرف تاريخ الأربعين قرنا" لهؤلاء الملائكة الأطهار الذين دون مقارنة "أطهر أخلاقا ليس فقط من القوميات الأخرى، وإنما من الشعب الروسي" (حسب ما جاء في كلمات الراسل أعلاه). وليكن، ليكن أنهم أطهر أخلاقا من جميع الشعوب في العالم، ومن البدهي طبعا الشعب الروسي، ومع ذلك فقد قرأتُ لِتَوِّي في عدد مارس من مجلة أخبار أوروبا أن اليهود في أمريكا، في الولايات الجنوبية، قد انقضوا دفعة واحدة على ملايين الزنوج الذين تحرروا، وامتلكوهم على طريقتهم "بحرفتهم الذهبية" السرمدية مستغلين عدم خبرة هذه العشيرة المُسْتَغَلَّة ومشاكلها. تصوروا أنني عندما قرأتُ ذلك، تذكرتُ في الحال إنه قد ورد على ذهني منذ خمس سنوات مضت، وعلى وجه التحديد أن الزنوج برغم تحررهم من أصحاب العبيد لا مفر لهم، إذ إنه بطبيعة الحال سوف ينقض اليهود الكثيرون جدا في العالم على تلك الفريسة الصغيرة الطازجة. وأؤكد لكم أنني فكرتُ أكثر من مرة، ووردت خلال تلك الفترة على ذهني فكرة: "لكن لماذا لم تُسْمَع أخبار عن اليهود، ولماذا لا تنشر الصحف، إذ إن هؤلاء الزنوج كنز لليهود، فهل من المعقول أن يغفلوا عنه؟" وفي النهاية حدث وكتبوا في الصحف، وقرأت. ومنذ 10 أيام قرأتُ في جريدة "العصر الحديث" (رقم 371) خبرا واردا من كوفنو[8]: "وصل الأمر إلى إن اليهود قد انقضوا على السكان الليتوانيين الأصليين وكادوا يقضون عليهم جميعا بالفودكا، ولم ينقذ هؤلاء السكارى المساكين سوى القساوسة الكاثوليك حيث هددوهم بعذاب الجحيم وأقاموا بينهم جمعيات الامتناع عن تعاطي الخمور". وفي الحقيقة فقد أبدى المراسل الصحفي المثقف خجله بشدة من مواطنيه، ومع ذلك فقد ذكر إن الاقتصاديين المثقفين قد هبوا في أثر رجال الدين، وبدؤوا في إقامة بنوك قروية لإنقاذ الشعب تحديدا من المرابي اليهودي، كما قاموا بإنشاء الأسواق الريفية حتى تتمكـــن "الجماهير الفقيرة الكادحة" من الحصول على متطلباتها الضرورية بالأسعار الحقيقية، وليس بالسعر الذي يحدده اليهودي. لقد قرأتُ كل ذلك، وأعرف إنهم سيبدؤون بالصراخ في لحظة واحدة بأن كل هذا لا يعني ولا يثبت أي شيء، وإنما هو بسبب أن اليهود أنفسهم مضطهدون ومساكين، وكل ذلك ما هو إلا "صراع من أجل الوجود"، وأن الأحمق فقط هو الذي لا يمكنه إدراك ذلك، وأنه لو لم يكن اليهود ذاتهم فقراء، وإنما على العكس أغنياء، لأظهروا أنفسهم في الحال من أكثر الجوانب إنسانية حتى ليصاب العالم كله بالدهشة والعجب. إلا إن جميع هؤلاء الزنوج والليتوانيين بالطبع هم أشد فقرا من اليهود الذين يبتزونهم، وبالرغم من ذلك (اقرؤوا الخبر) فقد أعرضوا عن التجارة التي يمارسها اليهود. وثانيا فليس من الصعب أن يكون المرء إنسانيا وأخلاقيا حينما يحيا هو فقط حياة الرغد والسعادة، ولكن عندما يصل الأمر إلى "الصراع من أجل الوجود" فلا تمسه. وأعتقد أن هذه الصفات ليست على الإطلاق هي الصفات الملائكية. وثالثا فلن أطرح بالطبع هذين الخبرين من جريدتي أخبار أوروبا والعصر الحديث كحقائق أساسية ودامغة. فلو تم البدء في كتابة تاريخ هذه القبيلة العالمية، لأمكن العثور في الحال على مئة ألف حقيقة مثل هذه، بل وأضخم منها. وبالتالي فحقيقة أو حقيقتان على سبيل الزيادة لا تضيفان أي شيء جديد، إذ إنه ومع ذلك هناك طرافة في الأمر: الطريف إنك إذا احتجت لمعلومات عن اليهودي وأعماله خلال النقاش أو في لحظة تقليبك الذاتي للأمور، فلا تذهب إلى المكتبة من أجل القراءة، ولا تتعب نفسك في تَصَفُّح الكتب القديمة أو مراجعة ملاحظاتك الخاصة، ولا تجهد نفسك ولا تبحث أو تتوتر، ولا تتحرك من مكانك، ولا تنهض حتى من مقعدك، ولكن مد يدك فقط إلى أول صحيفة بالقرب منك، ثم ابحث في الصفحة الثانية أو الثالثة: ستجد في الحال شيئا ما عن اليهود، وفي الحال سيكون هو بالذات ما يهمك، وسيكون قطعا مميزا، وحتما على نفس المنوال ـ أي نفس المآثر والحركات ! معنى ذلك إنه يعني شيئا ما، يشير إلى شيء ما، ويكشف عن شيء ما حتى وإن كنت لا تفقه أي شيء في تاريخ الأربعين قرنا لهذه القبيلة. من البدهي إنهم سيجيبونني بأن كل ذلك من منطلق الحقد، ولذا فالكل يكذب. بالطبع، يمكن تماما أن يحدث ويكذب الجميع دون استثناء، ولكن في هذه الحالة يُطْرَح سؤال آخر: إذا كان الجميع يكذب دون استثناء، وأن كل ذلك من منطلق ذاك الحقد، إذن فمن أين جاء هذا الحقد. إذن فهذا الحقد الجماعي العام يعني شيئا ما، و "أن كلمة الجميع تعنى شيئا ما!" كما هتف يوما بلينسكي.
"الاختيار الحر لمكان الإقامة!" ولكن هل الإنسان الروسي "الأصلي" هكذا لديه الحرية المطلقة في اختيار مكان الإقامة؟ أ ليست حتى الآن موجودة تلك القيود المرفوضة الباقية من مرحلة الرق على الحرية الكاملة لاختيار مكان الإقامة للمواطن الروسي، والتي استرعت اهتمام الحكومة منذ زمن؟ أما بشأن اليهود، فمن الواضح للجميع أن حقوقهم في اختيار مكان الإقامة قد توسَّعت بدرجة كبيرة خلال العشرين سنة الأخيرة. على الأقل أنهم قد ظهروا في روسيا بالأماكن التي لم يرهم أحد فيها من قبل. ومع ذلك فاليهود طوال الوقت يتشكون من الحقد والقيود. ولنفترض إن معرفتي غير جيدة بالحياة اليهودية، إلا أنني أعرف تماما شيئا واحدا، ومن الممكن أن أجادل الجميع، وتحديدا هو: إنه لا يوجد لدى عامة شعبنا أي كره ديني متحامل وغبي وغير مبني على التجربة تجاه اليهود من قبيل "يهوذا هو الذي خــان المسيح"، فإنني أُكرر أن شعبنا كله ينظر إلى اليهودي دون أي كره متحامل. وقد رأيتُ ذلك طوال خمسين عاما، حتى لقد حدث وعشتُ مع الشعب، بين عامته وجماهيره، في نفس العنابر، ونمتُ على نفس الأرضية الخشبية، وكان هناك بعض اليهود ـ لم يحتقرهم أحد، ولم يستثنيهم أو يطردهم. وعندما كانوا يصلون (مع إن اليهود يقومون بالصلاة مع الصراخ مرتدين ملابس خاصة)، لم يجد أحد في ذلك أية غرابة، ولم يضايقهم أحد أو يسخر منهم، وهو الشيء الذي كان بالضبط يمكن توقعه بالذات من شعب خشن، بمفهومنا نحن، مثل الشعب الروسي. ولكن على العكس، فعندما كنا ننظر إليهم، نقول: "هكذا هو دينهم، وهكذا يصلون"، ثم نمر بهم في هدوء، بل وتقريبا باستحسان. ولكن انظر ماذا يحدث، اليهود كانوا يتجنبون الروس في الكثير، يرفضون الأكل معهم، وينظرون إليهم باستعلاء (وأين كان ذلك ـ في السجن!)، بل وكانوا يبدون تقززهم واشمئزازهم ونفورهم بشكل عام من كل ما هو روسي، ومن الشعب "الأصلي". ونفس الشيء في معسكرات الجنود، وفي كل مكان في أنحاء روسيا: اذهبوا بأنفسكم واسألوا، هل يهينون اليهودي في المعسكرات كيهودي، كـ "جيد"، بسبب الديانة والعادات؟ لا يضايقونهم في أي مكان، وهكذا الحال بين أفراد الشعب. على العكس، أؤكد لكم إنه في المعسكرات كما في أي مكان، الروسي البسيط يرى الكثير ويفهم جيدا (اليهود أنفسهم لا يخفون ذلك) إن اليهودي يرفض الأكل معه، يشمئز منه، يتجنبه ويحتاط منه قدر المستطاع. ولكن بدلا من أن يغضب الروسي ويتضايق من ذلك، يقول في هدوء ووضوح: "هكذا هو دينه، وهو الذي يفرض عليه ألا يأكل معنا، وأن يتجنبنا" (أي لا لأنه شرير)، وحين يدرك الروسي هذا السبب السامي، يغفر لليهودي من أعماق روحه. ومع ذلك فقد راودتني أحيانا فنتازيا: ماذا لو لم يكن اليهود في روسيا هم الثلاثة ملايين، وإنما الروس، بينما كان اليهود هم الثمانين مليونا ـ ففي أي شيء كان الروس سيلجؤون إليهم فيه، وكيف كان اليهود سيستخفون بهم؟ هل كان من الممكن أن يمنحونهم حقوقا متساوية مقارنة بأنفسهم؟[9] هل كان من الممكن أن يتيحوا لهم فرصة الصلاة بينهم في حرية؟ أم إنهم كانوا سيحولونهم إلى عبيد لديهم؟ والأسوأ من ذلك أن يسلخوا جلودهم تماما؟ وربما ضربوهم ليصل الأمر إلى الجلد، إلى الإبادة التامة كما فعلوا مع الشعوب الأخرى قديما، في تاريخهم هذا القديم؟ لا، أنني أؤكد لكم إنه لا يوجد لدى الشعب الروسي أبدا كره متحامل تجاه اليهودي، ولكن من الجائز أن يكون هناك عدم تعاطف معه، وخاصة في بعض الأماكن المتفرقة، وحتى من الممكن أن يكون ذلك شديدا. لا شك في أن هذا موجود فعلا ولا يمكن نفيه، ولكنه يحدث عموما ليس بسبب كون الإنسان يهوديا، وليس من منطلق كره ما قبلي أو ديني، ولكن لأسباب أخرى قد أذنب فيها ليس الشعب الأصلي، وإنما اليهودي نفسه.
( 3 )
[10]Status in Statu
أربعون قرنا من الوجود
الكره المبنى على الادعاءات والأباطيل ـ هذا ما يطلقه اليهود على السكان الأصليين مـن اتهامات. لكن إذا كان الحديث يتناول الادعاءات والأباطيل، إذن فماذا تعتقدون: هل يناصب اليهود ادعاءات وأباطيل للروس أقل من التي يناصبها الروس لليهود؟ أ ليس أكثر؟ لقد قدمتُ لكم أمثلة عن مواقف الروس البسطاء تجاه اليهود. وأمامي الآن رسائل يهود ليسوا بسطاء، وإنما من اليهود المتعلمين ـ كم من الكراهية والحقد في هذه الرسائل تجاه "السكان الأصليين" ! والأهم أنهم يكتبون ولا يلاحظون ذلك بأنفسهم.
هل تتصوروا، هذا الشعب الممتلئ بالحيوية، القوى النشيط بصورة غير عادية، والذي ليس له نظير في العالم، يُضَيِّع حدوده واستقلاله السياسي وقوانينه أكثر من مرة، وحتى دينه ـ فقده، وفي كل مرة يعود فيتحد، ثم يُبْعَث من جديد بنفس الأفكار، وإن كان في صورة أخرى، فيصنع لنفسه قوانين وديانة ثم يعود فيُضَيِّع كل شيء. هذا الشعب لا يستطيع أن يحيا بدون الدولة داخل الدولة[11] والتي حافظ عليها دائما في كل مكان خلال سنواته الألفين من المطاردات والتشتتات. إنني حينما أتحدث عن الجيتو، لا أود إطلاقا توجيه أي اتهام، إلا إن كل ما هنالك هو فيما يكمن مغزى الجيتو؟ وفيم تتمحور فكرته؟ وما جوهر هذه الفكرة؟.
إن التعرض لهذا الموضوع كان على الدوام صعبا، ويستحيل ذلك في مقالة قصيرة على وجه الخصوص. وأحد أسباب الاستحالة هنا هو إنه لم يحن بعد الوقت والموعد المناسبين، على الرغم من مرور الأربعين قرنا الماضية، وإن الحكم النهائي للبشرية على هذه القبيلة العظيمة لم يزل بعد قيد المستقبل. ولكن من دون التغلغل في جوهر الموضوع وعمقه، يمكن وصف ولو بعض ملامح هذا الجيتو، أو على الأقل ما يظهر منه. هذه الملامح : الإحساس بالاغتراب والعزلة على مستوى التحجر الديني، وعدم القدرة على الاندماج، والإيمان بأنه لا يوجد في العالم سوى شخصية قومية واحدة ألا وهى الشخصية اليهودية، وحتى إن كان الآخرون موجودين، فالأمر سيان، يجب النظر إليهم وكأنهم غير موجودين. "أُخرج من بين الشعوب، وشَكِّل ذاتك، واعلم إنك الوحيد حتى الآن لدى الإله، اسحق الآخرين أو خذهم عبيدا، أو استغلهم. ثق بانتصارك على العالم كله، وثق بأن كل شيء سيخضع لك. تجنب الجميع في حسم، ولا تشترك مع أحد في معاشك. وحتى عندما تُحْرَم من أرضك، ومن شخصيتك السياسية، حتى عندما تتشتت على وجه الأرض، بين كل الشعوب ـ سيان ـ ثق بأنك موعود بكل ذلك إلى الأبد، ثق بأن كل شيء سيكون. أما بعد، فَعِشْ، وتجنب، واتحد، واعمل، واستغل، و ـ انتظر، انتظر" …
ها هو جوهر فكرة الجيتو، وبعد ذلك طبعا توجد قوانين داخلية، وربما سرية تحدد هذه الفكرة. إنكم أيها السادة اليهود والمدافعون المتعلمون تقولون بأن كل هذا هراء، وإنه " لو كان يوجد جيتو (أي إنه كان، أما الآن فلم يتبق منه سوى آثار ضئيلة)، فالمطاردات الدينية وحدها منذ العصور الوسطى وقبلها هي التي قادت إليه، وهى فقط التي وَلَّدَته. لقد ظهر هذا الجيتو فقط من إرادة البقاء، وإذا حدث واستمر ذلك، وخاصة في روسيا، فإنه فقط بسب أن اليهود حتى الآن غير متساوين في الحقوق مع السكان الأصليين". ولكن يبدو لي أن اليهودي لو كان حتى متساويا في الحقوق، فلن يتخلى بأي حال من الأحوال عن الجيتو. فضلا عن ذلك فالتصميم على الإشارة بأن المطاردة وإرادة البقاء هما السبب في وجود الجيتو شيء غير كاف أو مقنع، كما لو أن الإصرار على إرادة البقاء لم يكن كافيا طوال أربعين قرنا، فكم من المضجر والممل ذلك الإصرار على الحفاظ على النفس طوال هذه الفترة. وكم من أقوى الحضارات في العالم لم يصل عمرها حتى إلى نصف الأربعين قرنا وفقدت قوتها السياسية ومظاهرها القبلية. إذن فليست إرادة البقاء وحدها هي السبب الرئيسي، ولكنها فكرة أخرى متحركة ومسيطرة، شيء ما كوني ربما لا يكون بوسع البشرية بعد إصدار حكمها النهائي عليه كما قلتُ آنفا، حيث أن الطابع الديني في الغالب موجود ـ وهذا مما لا شك فيه. وأن يهوا لا يزال يقود شعبه نحو الهدف الأكيد ـ وهذا بالطبع واضح تماما. إنني مازلتُ أكرر إنه من المستحيل حتى تصور يهودي بدون إله، فضلا عن أنني لا أثق حتى في المثقفين اليهود الملحدين: إنهم جميعا ليسوا إلا جوهرا واحدا، ولا يعلم إلا الله ماذا ينتظر العالم من اليهود المثقفين! لقد قرأتُ في طفولتي وسمعتُ أسطورة عن اليهود تحكي بأنهم ينتظرون في إصرار حتى الآن المسيح المُنْتَظَر، كلهم على حد سواء، بداية من أبسط "جيد" حتى أرفع العلماء والفلاسفة والحاخامات، وإنهم جميعا مازالوا يؤمنون بأن المسيح المنتظر سوف سيجمعهم ثانية في القدس، وسيلقى بسيفه جميع الشعوب تحت أقدامهم، الأمر الذي يجعل اليهود، أو في أبعد الأحوال غالبيتهم العظمى، لا يفضلون إلا مهنة واحدة ـ تجارة الذهب وصناعته بكثرة من أجل ألا يملكوا وطنا، وألا يكونوا مرتبطين بأرض غريبة، كل ما في الأمر أن يكون كل ما لديهم، وكل ممتلكاتهم مجرد ذهب ومجوهرات. وهذا كله لحين ظهور المسيح المنتظر حتى يسهل حمل ونقل كل شيء وقتئذ"
حينما يتلألأ شعاع الفجر
ويضطرم، وتعزف المزامير
والآلات النحاسية والدفوف
سنحمل الفضة والخير
والمقدسات إلى البيت القديم
إلى فلسطين.

كل ذلك، أكرر، سمعته كأسطورة. إلا أنني واثق بأن جوهر الأمر موجود حتما، وبالذات داخل مجمل جماهير اليهود على شكل ميل غريزي يستحيل مقاومته. ولكن من أجل الحفاظ على جوهر هذا الموضوع فلابد طبعا من الحفاظ على أدق وأصرم أشكال الجيتو، وهذا ما تم الحفاظ عليه، ومن ثم فأسباب وجوده لم تكن أبدا المطاردات وحدها، وإنما فكرة أخرى كانت ومازالت…
أما إذا كان يوجد في الحقيقة لدى اليهود ذلك النظام الخاص الصارم الذي يربطهم ببعضهم البعض في كتلة واحدة لها خصوصيتها، إذن فمن الممكن التفكير في موضوع المساواة الكاملة في جميع حقوقهم مع حقوق السكان الأصليين. وبطبيعة الحال فكل ما تتطلبه الإنسانية والعدالة، وكل ما تمليه القوانين الإنسانية والمسيحية يجب أن يُقَدَّم كله إلى اليهود. ولكن إذا كانوا يطالبون بالمساواة الكاملة في كل الحقوق الممكنة مع السكان الأصليين، وفي نفس الوقت يظلون متسلحين بنظامهم وخصائصهم، وعزلتهم الدينية والقبلية، وقواعدهم ومبادئهم التي تتعارض تماما مع تلك الفكرة التي طرحها، أو على الأقل تطور على أساسها العالم الأوروبي بأكمله، إذن ألا يحدث وأن يحصلوا حينئذ على شيء ما أزيد، شيء ما خاص وأعلى حتى من السكان الأصليين ذاتهم؟ وبالطبع فسوف يشيرون عندئذ إلى الأجانب الآخرين زاعميـن: "إنهم متساوون، أو تقريبا متساوون في الحقوق، أما اليهود فحقوقهم أقل من جميع الأجانب. وذلك لأنهم يخشوننا نحن اليهود كما لو إننا أكثر ضررا من جميع الأجانب. ومع ذلك ففي أي شيء يعتبر اليهودي مضرا؟ لو كانت هناك صفي دنيئة في الشعب اليهودي، فهذا يعود وبشكل محدد إلى أن الشعب الروسي نفسه هو المتسبب فيها بجهله وفظاظته وانحطاط ثقافته، وانعدام إمكانيته على الاستقلالية، وضعف تطوره الاقتصادي. إن الشعب الروسي نفسه بحاجة إلى السمسار والمدير، وولي الأمر لأحوالـه الاقتصادية، والمرابي، وهو نفسه الذي يدعوهم ويُسَلِّم لهم. فها هي أوروبا على العكس من ذلك: هناك شعوب قوية مستقلة روحيا ذات تطور وطني شديد، معتادة منذ زمن بعيد على العمل مع القدرة على بذل الجهد، وبالتالي فهم هناك لا يخشون منح اليهودي جميع الحقوق! فهل يُذْكَر في فرنسا أي شيء عن الضرر من جيتو اليهود المحليين؟".
هذا الكلام يبدو مقنعا، ولكن قبل كل شيء تتجلى ملاحظة بين قوسين، وبالتحديد: "فاليهودية تزدهر في تلك الأماكن التي يكون فيها الشعب جاهلا فظا أو غير حر، أو متخلف اقتصاديا ـ هناك فقط يصيرون سادة وأحرارا، وتصير أمورهم على ما يرام!" وبدلا من أن يحدث العكس، بأن يرفعوا بنفوذهم مستوى التعليم، ويعملوا على زيادة المعرفة، وتوليد القدرة الاقتصادية لدى السكان الأصليين. بدلا من كل ذلك نجد اليهودي أينما حل وأقام، أذل الشعب وأفسد فيه أكثر فأكثر، وازدادت البشريـة ذلا وخنوعا، وتدنى مستوى التعليم أكثر، بل وانتشر بشكل أفظع فقر محكم غير إنساني ينمو معه اليأس ويترعرع. اسألوا السكان الأصليين في أنحاء بلادنا، ماذا يحرك اليهود، وماذا حركهم طوال القرون الماضية؟ ستحصلون على إجابة واحدة: عدم الرحمة، "لقد حركهم طوال القرون الماضية شيء واحـد فقط، هو عدم الرحمة تجاهنا، وفقط الارتواء بعرقنا ودمائنا". وبالفعل فمجمل نشاط اليهود في جميع أرجاء بلادنا لا يتركز إلا في وضع السكان الأصليين قدر المستطاع في حالة تبعية مطلقة لهم وذلك باستغلال القوانين المحلية، حيث تحايلوا على الدوام لإيجاد الثغرات في اللوائح والقوانين. وكانت لديهم دوما القدرة على نسج العلاقات مع هؤلاء الذين بأيديهم مقدرات الشعب، حتى إنه لم يعد يحق لهم أن يتذمروا أو يهمهموا بأي شيء عن حقوقهم القليلة بالمقارنة بالسكان الأصليين. لقد حصلوا لدينا على حقوق كثيرة إذا ما قورنت بما لدى السكان الأصليين. إن تاريخ أنحاء روسيا يشهد بما جرى للشعب الروسي خلال عشرات ومئات السنين حيثما حل اليهود. وماذا بعد، هل بوسعكم أن تتذكروا أية قبيلة أخرى من القبائل الغريبة في روسيا يمكن أن تتساوى بهذا المفهوم في نفوذها مع النفوذ الفظيع لليهود؟ لن تجدوها، فاليهود يتفردون بشذوذهم وأصالتهم في هذا المجال أمام جميع القوميات الروسية، والسبب يعود بالطبع إلـى الجيتو، وإلى روحه التي تبث فيهم عدم الرحمة تجاه كل ما هو غير يهودي، وعدم احترام أي شعب أو قومية، أو أي جوهر إنساني آخر ما لم يكن يهوديا. ولكن ما هذا التبرير الذي يقول بأن شعوب أوروبا الغربية لم تسلم نفسها لليهود، وأن ما حدث للروس هم أنفسهم المذنبون فيه؟ هل هذا لأن الشعب الروسي في أنحاء روسيا كان أضعف من الشعوب الأوروبية (ومن هنا فقط كان وضعه السياسي الصعب طوال قرون)، وبالتالي يجب سحقه تماما والقضاء عليه بالاستغلال، وليس مساعدته؟ وإذا كانوا يشيرون إلى أوروبا، إلى فرنسا على سبيل المثال، فمن المشكوك فيه أن الجيتو هناك لم يكن هكذا غير مضر. وبالطبع فتدنى وانهيار المسيحية وفكرتها هناك ليس بسبب اليهود، وإنما بذنبهم هم، غير إنه من المستحيل عدم الإشارة إلى الانتصار القوى لليهودية في أوروبا، والتي حلت محل الكثير من الأفكار السابقة فيها. علما بأن الإنسان كان دائما وفي جميع العصور يمجد النزعة المادية، وكان ينزع لرؤية الحرية وفهمها على إنها مجرد تأمين حياته بالأموال التي يكدسها بكل ما أوتى من قوة، ويختزنها بكل الطرق والوسائل. ومع ذلك فلم تسمُ هذه الطموحات هكذا بشكل واضح وإرشادي إلى مستوى المبدأ البدهي إطلاقا، كما ارتفعت وسمت في قرننا التاسع عشر. "كل إنسان من أجل نفسه، وفقط من أجل نفسه. كل العلاقات بين الناس من أجل المصلحة الخاصة فقط" ـ هذا هو المبدأ الأخلاقي لغالبية الناس الحاليين[*]، ليس فقط للسيئين، وإنما على العكس للكادحين أيضا، الذين لا يقتلون ولا يسرقون. فعدم الرحمة تجاه الجماهير المعدمة، وتداعى روح الأخوة، واستغلال الأغنياء للفقراء كان كله موجودا في السابق وعلى الدوام، لكنه لم يرتفع أبدا إلى مستوى الحقيقة العليا والعلم، بل كانت المسيحية نفسهـا تدينه. أما الآن فعلى العكس، يعتبر كل هذا من أعمال الخير. ولم يكن عبثا أن اليهود يسيطرون طوال الوقت وفي كل مكان على البورصات هناك، وليس عبثا أنهم يحركون رؤوس الأموال ويسيطرون على القروض، وليس عبثا أنهم يتحكمون في السياسة الدولية كلها، وماذا بعد ـ بالطبع فمملكة اليهـود تقترب… مملكتهم الكاملة! ستحل بانتصار كامل لتلك الأفكار التي ستنهار أمامها مشاعر حب الإنسانية، والتعطش للحقيقة، والكرامة القومية، بل وحتى الوطنية للشعوب الأوروبية. ستقبل، على العكس، النزعة المادية، والرغبة الشهوانية الحسية لتأمين الحياة المادية الخاصة، والتعطش الشخصي لتكديس الأموال بكل السبل والوسائل ـ هذا ما سوف يصبح الهدف الأسمى والذكاء والتعقل والحرية بدلا من أفكار الخلاص، الوسيلة الوحيدة للترابط الأخوي والأخلاقي الوثيق بين الناس. سوف يسخرون ويقولون إن كل هذا ليس بسبب اليهود أبدا. طبعا ليس بسبب اليهود وحدهم، لكن إذا كان اليهود قد انتصروا وازدهروا بشكل حاد في أوروبا تحديدا عندما انتصرت تلك المبادئ الجديدة إلى ذلك الحد الذي جعلها في مستوى المبادئ الأخلاقية، فمن المستحيل إغفال أن اليهود قد قاموا بممارسة تأثيرهم هناك، ولعل أصحابنا المدافعين يذكرون أن اليهود على العكس فقراء في كل مكان وخاصة في روسيا، وأن علية اليهود فقط هم الأغنياء، أصحاب البنوك وملوك البورصة، أما التسعة أعشار من اليهود الباقين فهم بكامل المعنى معدمون، يعانون ويقاسون من أجل الحصول على لقمة العيش، يتوددون ويتملقون ويسمسرون ويبحثون من أين يمكنهم الحصول على كوبيك من أجل لقمة الخبز. نعم، هذا صحيح، ولكن على ماذا يدلل، ألا يعنى ذلك تحديدا أن هناك شيئا ما في ممارسات اليهود (أي الغالبية العظمى منهم على أسوأ الفروض)، وأن هناك شيئا ما غير صحيح وشاذ في استغلالهم، شيئا ما غير طبيعي هو بالذات الذي يحمل لهم في طياته العقاب؟ إن اليهود يمارسون التجارة والسمسرة بجهـود الآخرين! ورأس مالهم هو الجهد المتراكم، إنهم يحبون المتاجرة بجهود الآخرين! ولكن على أية حال فهذا لا يغيِّر في الأمر شيئا حتى الآن: على هذا الأساس فعلية اليهود تتعالى وتتسيد البشرية، تسعى بشكل أكثر قوة وصلابة لتفرض على العالم كله مظهرها وصفاتها وجوهرها. إلا إن اليهود مازالوا يصرخون بأن بينهم أناس طيبين. يا إلهي، هل القضية في ذلك؟ إننا لا نتحدث الآن إطلاقا عن الناس الطيبيـن والخبثاء، أ ليس بين أولئك الناس هناك بشر طيبون أيضا؟ وهل كان المرحوم جيمس روتشيلد في باريس شريرا؟ إننا نتحدث عن المجموع، عن فكرته. نتحدث عن الروح اليهودية "الجيدية"، وعن الأفكار اليهودية "الجيدية التي سيطرت على العالم كله بدلا من المسيحية" التي ساء حظها…
( 4 )
ولكن… فلتحيا الأخُوَّة ![12]
لكن ماذا أقول، ولماذا؟ أم أنني عدو لليهود؟ هل صحيح، كما تكتب إليَّ فتاة يهودية لا شك إنها (كما هو واضح من رسالتها، ومن مشاعرها الحارة المخلصة في هذه الرسالة) متعلمة وشريفة ـ أنني عدو لهذه القبيلة "المنكوبة" والتي على حد قولها "أنتهز أية فرصة مناسبة للهجوم القاسي عليها". "إن كرهكم، من البدهي، لمجموعة اليهود التي لا تفكر إلا في نفسها". لا، أنا ضد هذه البدهية حيث إنني أناقش الأمر ذاته، وفي جوهره. على العكس، إنني تحديدا أتحدث وأكتب أنه "يجب العمل على منح اليهود كل ما تتطلبه الاعتبارات الإنسانية والعدالة، وكل ما يستوجبه القانون الإنساني". لقد كتبتُ هذه الكلمات السابقة، والآن أضيف إليها إنه بصرف النظر عن كل الأفكار التي طرحتها، أناصر بشدة التوسيع الكامل لحقوق اليهود في التشريعات الرسمية، ومساواتهم قدر الإمكان في الحقوق مع السكان الأصليين (وإن كانوا في حالات أخرى يملكون الآن، وحاليا، حقوقا أكثر، أو من الأفضل القول بأن لديهم الإمكانيات على الانتفاع بهذه الحقوق أكثر من السكان الأصليين ذاتهم). وبالطبع تَرِدُ على ذهني الآن هذه الفكرة الخيالية: ماذا لو انهارت، على نحو ما ولسبب ما، الجمعية الزراعية التي تحمى فلاحنا المسكين من أخطار عديدة؟ ماذا لو اجتاح اليهود هذا الفلاح المتحرر لِتَوِّه، والذي لا يملك الخبـرة الكافية، أو يمكنه مقاومة الإغراءات التي قامت بحمايته منها الجمعية الزراعية؟ سوف تكون لحظـة نهايته: ستنتقل في الحال أملاكه وقواه جميعا إلى قبضة اليهودي، وسيحل ذلك الزمن الذي لا يمكن مقارنته بزمن نظام الرق والعبودية، بل وحتى بزمن الاحتلال التتري.
ولكن على الرغم من كل هذه الفنتازيا والخيالات، ومن كل ما كتبتُ سابقا، فأنا على أية حال مع المساواة الكاملة والنهائية للحقوق. ولكن إذا كان الأمر كذلك، إذن فلماذا قمتُ بكتابة كل هذه الصفحات، وماذا أردتُ أن أقول! إذا كنتُ هكذا أناقض نفسي؟ ومع ذلك، تحديدا، فأنا لا أناقض نفسي. إنني، من وجهة نظر روسية، وجذرية، لا أرى أية عوائق في توسيع الحقوق اليهودية، وأؤكد أن هذه العوائق موضوعة بلا ريب من جانب اليهود أنفسهم أكثر مما هي من جانب الروس. وفي حالة إذا لم يتحقق ما تمنيته من صميم قلبي، فسوف يكون ذنب الإنسان الروسي بلا شك أقل بكثير من ذنب اليهودي ذاته. وذلك مثلما أشرتُ إلى اليهودي البسيط الذي لم يكن يريد التعامل أو الأكل مع الروس الذين لم يغضبوا فقط أو ينتقموا منه لذلك، وإنما على العكس فكروا باتزان وتعقُّل، وسامحوه قائلين: "هكذا هو، لأن دينه كذلك" ـ هذا الأمر بالنسبة لليهودي البسيط، أما بالنسبة لليهودي المثقف فكثيرا ما نرى ذلك التعالي الشديد على الروس، في نفس الوقت الذي يصيحون فيه بأنهم يحبون الشعب الروسي، لدرجة أن أحدهم كتب إليَّ بأنه من المؤسف له تحديدا أن الشعب الروسي ليس له دين، ولا يفقه شيئا في مسيحيته. وهذا حديث شديد الوطأة بالنسبة لليهودي، ويطرح سؤالا هاما: هل يفقه هذا اليهودي المتعلم نفسه شيئا ما في المسيحية؟ ولكن صفتي الصلف والاستعلاء لدى اليهود من أثقل وأقسى الصفات بالنسبة لنا نحن الروس. فمَنْ مِنَّا نحن الروس أو اليهود أقل قدرة على فهم الآخر؟ أُقْسِمُ بأنني أقرب إلى تبرئة الروس وعذرهم: فلدى الروس على أية حال لا يوجد (وهذا شيء غير إيجابي!) أية كراهية أو تعصب ديني ضد اليهود. إذن فأين الأفكار الأخرى، ولدى مَنْ أكثر؟ اليهود يصرخون بأنهم طوال قرون عديدة كانوا مُطَارَدين ومُضطَهَدين، مُطَارَدين ومُضطَهَدين، وهذا ما يجب أن يأخذه الروس في كل الأحوال في اعتبارهم عند الحكم على الطابع اليهودي. حسنا، سنأخذ ذلك في حسابنا، بل ويمكننا أيضا إثباته: كم من مرة تلاقت وارتفعت أصوات المثقفين الروس دفاعا عن اليهود، ولكن هل يأخذ اليهود في اعتبارهم، رغم شكواهم من الروس واتهامهم لهم، القرون العديدة التي عانى فيها الشعب الروسي نفسه؟ هل من الممكن إثبات أن هذا الشعب قد عانى "في تاريخه كله" ظلما وشرا أقل مما عاناه اليهود أينما كانوا؟ وهل يمكن التصديق على أن اليهودي ليس هو الذي كثيرا ما اتحد مع ظالمي هذا الشعب، وكثيرا ما تعهد لهم بضبط الشعب الروسي، ومن ثم تحول هو نفسه إلى ظالم له؟ لقد حدث كل ذلك بالفعل، وهذا تاريخ، وحقيقة تاريخية، ومع ذلك فلم نسمع أبدا أن الشعب اليهودي قد ندم على ذلك، وفي ذات الوقت ما زال يتهم الشعب الروسي بأنه لا يحبه.
"ولكن كفي! كفي!" فلتكن الوحدة الروحية الكاملة لكل الشعوب والأقوام، فلا أي فارق في الحقوق! ومن أجل ذلك، وقبل كل شيء، أرجو من اليهود الذين يعارضونني، والذين يرسلون إليَّ الرسائل أن يكونوا على العكس متسامحين وعادلين تجاهنا نحن الروس. وإذا كان اشمئزاز اليهود الكئيب الدائم وتعاليهم تجاه الروس وليد التحامل "الرواسب التاريخية" وليست أمورا مستترة في أحد الأغوار الخفية العميقة لقوانينهم ونظامهم، فلسوف يزول كل ذلك سريعا، وسنخطو معا في روح واحدة، وأُخُوَّة كاملة تجاه عون متبادَل وخدمة عظيمة لأرضنا ودولتنا ووطننا! ولتتوقف الاتهامات المتبادَلة، وتزول سورة الحماس الدائمة لتلك الاتهامات، والتي تعوق الفهم الواضح للأمور. وبالنسبة للشعب الروسي يمكن التأكيد بأنه سوف يتقبل اليهودي في علاقة أُخُوَّة كاملة بصرف النظر عن اختلاف الدين، وباحترام كامل للحقيقة التاريخية لهذا الاختلاف. ولكن من أجل التآخي، والتآخي الكامل، يجب أن يتم ذلك من الجانبين على السواء. وليُعَبِّر اليهودي للروسي حتى ولو عن القليل من المشاعر الأخوية لكي يشجعه هو أيضا على ذلك. إنني أعرف إنه من الممكن حاليا أن نجد بين الشعب اليهودي العديد من الأشخاص الباحثين عن مواضع الخلل، والمتعطشين لإزالتها والتخلص منها. كما أن بينهم أناس يحبون البشر، ولن أصمت أبدا عن ترديد ذلك حتى لا أخفي الحقيقة. فمن أجل ألا يُحْبَط هؤلاء النافعون والمحبون للإنسانية من اليهود، ومن أجل تخفيف تحاملهم، ومن أجل تيسير أمورهم للشروع في بذل الجهود، أتمنى لو يحدث توسيع كامل في حقوق الفئة اليهودية، ولو بقدر الإمكان، وتحديدا بقدر ما يبرهن الشعب اليهودي نفسه عن قدرته على الاستفادة من هذه الحقوق دون إلحاق الضرر بالسكان الأصليين، وحتى يمكننا أيضا أن نتقدم إلى الأمام، وأن تكون هناك خطوات أكثر من جانب الشعب الروسي… والسؤال يكمن في: هل سيتسنى لأولئك الناس الجدد الطيبين من اليهود أن يقوموا بأمور كثيرة، وإلى أي حد هم قادرون على التعامل مع الجديد الرائع من أجل الارتباط الأقوى الحقيقي مع بشر مختلفين عنهم في الدين والدم؟.
-------------------------------------
[1] الأقواس موجودة في طبعتي 1994م، 1995م، ولكنها غير موجودة في طبعة 1895م.
[2] لم يكتب ديستويفسكي هنا كلمة يهودي بالروسية، ولكنه استخدم كلمة "جيد" بتعطيش الجيم المأخوذة بدورها من الكلمة الإنجليزية "Judas" التي تقال عادة في روسيا لتحقير اليهود.
[3] استخدم ديستويفسكي هنا التسمية الشعبية السائدة " جيد ". وبهذه الفقرة تم اختتام الجزء الأول من المقال في طبعتي 1994م، 1995م. وما سيأتى بعد ذلك موجود فعليا في النص الأصلي، وذلك حتى بداية الجزء الثاني.
[4] كاتب الرسالة يستخدم أيضا الصفة من كلمة "جيد".
[5] يستخدم أيضا جمع كلمة "جيد".
[6] في طبعتي 1994م، 1995م تم حذف هذا العنوان وبدا كما لو كان ديستويفسكي يواصل كلامه بفقرة جديدة. إلا إنه في طبعة 1895م يوجد هذا العنوان مع الكلمات اللاتينية حيث يفصلها حرف ( ? ) الروسي بدلا من ( And ) الإنجليزية. انظر الهامش رقم 3.
[7] لم يكتبها ديستويفسكي يهودي بالروسية، وإنما كتبها " جيد ".
[8] مدينة فيلنوس حاليا ـ عاصمة جمهورية ليتوانيا.
[9] من البدهي أن ديستويفسكي أثناء كتابته لهذه المقالة لم يكن يعرف إطلاقا أن اليهود سوف يقومون بعد سبعين عاما بتشريد شعب بأكمله واحتلال وطنه. ولكن في قضية " ألبرت ماكاشوف " في نهاية القرن العشرين، كانت تلك النقطة التي يتحدث عنها الآن ديستويفسكي هي أحد الأسباب التي فجرت الأزمة في روسيا حيث ضرب ماكاشوف مثلا بدولة إسرائيل الحالية قائلا : إذا كانت السلطة في روسيا تتكون من 95% من الأقلية اليهودية التي تعيش بين مئة وسبعين مليونا من الروس في نفس الوقت الذي نرى فيه ( دولة إسرائيل الديمقراطية المراعية لحقوق الإنسان ! ) لا تتضمن السلطة فيها ممثلين عن الشعب الفلسطيني على الرغم من عدد السكان الفلسطينيين الذين يفوقون أعداد اليهود في تلك الدولة.
[10] جاءت في النص الأصلي بطبعة 1895م باللاتينية دون ترجمة حيث استخدمها ديستويفسكي إلى جانب العنوان الروسي. وقد ترجمت إلى الروسية في طبعتي 1994م، 1995م بمعنى " دولة داخل الدولة " في حين تم حذف العنوان " أربعون قرنا من الوجود " المكتوب بالروسية في النص الأصلي لعام 1895م.
[11] جاءت باللاتينية ( Status in Statu )، وأقرب معنى لها في النص هو " الجيتو ".
[12] هذا الجزء تم حذفه ( أو إغفاله ) تماما من طبعتى 1994م، 1995م.
[*] هي الفكرة الأساسية للبرجوازية التي حلت محل النظام العالمى السابق في نهاية القرن الثامن عشر، والتي وضعت الأفكار الرئيسية لمجمل القرن التاسع عشر في العالم الأوروبي كله.

موسكو: أشرف الصباغ- الوطن



اطيب الامنيات

موودي
سحاب الوجد
همس جديد
مشاركات: 7
اشترك في: 04-26-2002 08:31 PM
اتصال:

مشاركةبواسطة سحاب الوجد » 04-28-2002 05:57 PM

جهد رائع منك موودي شكرا لك على المقاله الرائعه عن الكاتب والمفكر الرائع فيودر ميخائيلوفيتش ديستويفسكي حقا استمتعت بقراءه المقال عن أديب مشهور وله مدرسته الخاصه في العالم
شكرا لك

العودة إلى “المقالات والشعر العامِّي”

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 44 زائراً