مرسل: 10-24-2001 05:28 AM
<font size=4 color=teal>
جائتني على الايميل انقلها لكم كما هي
=========================================
وداعا هيا ...... د. محمد الحضيف
منذ سنوات تعودت هيا أن لا تنام بعد أن تصلي الفجر ، تعد القهوة لوالديها والإفطار لإخوانها ، وتكمل ما فاتها من أمور البيت ، التي غلبها الإعياء والنوم ، دون أن تنجزها الليلة السابقة .
في الخامسة والعشرين ولم تتزوج هيا ، التي أصبحت معلمة منذ ثلاث سنوات . متوسطة الجمال ، ومتوسطة في كل شئ ، طرق باب أهلها كثير من الرجال ، لكنها امتنعت عن الزواج ، أو أن شرطها ، يرد عنها راغبي الزواج : أتزوج لكن أبقى عند أهلي ...
- من يقبل هذا الشرط يا هيا ...؟
تسألها أمها بمزيج من العتاب والشفقة .
تحاصر آهة تكاد تذيب صدرها ، وترد على أمها دون أن تنظر في عينيها :
- المقسوم لابد أن يكون يا أميمتي .
بينها وبين أكبر إخوانها عشر سنوات ، بنت في الخامسة عشرة . أمها ليست من أنصار تحديـد النسل ولا تنظيمه . نصف متعلمة ، أو قل أمية إن شئت ، أجهضت في حملها الثاني ، بعد هيا ، فأسقطت جنينها ، فتأثرت قدرتها على الإنجاب ، وفشل أطباء المستشفى الحكومي في علاجها ، ولم يكن في مقدور الوالد ، الفقير المعدم ، الذي لا يملك إلا دكانا صغيرا ، أن يعالج أمها في المستشفيات الخاصة .
حملت أمها دون علاج ، هكذا كأقدار البسطاء ، بعد عشر سنوات ، وأنجبت أربع بنات وولدين ، أكبرهم عمره سبع سنوات . قبل ست سنوات ، حينما كانت أمها حامل بأخيها الأصغر ، وبينما كان والدها يجتاز الشارع ، في ظهيرة حارة ، في اتجاه الكلية ، حيث كانت تدرس ، ليأخذها ويعود بها إلى البيت ، إجتاحته سيارة فارهة ، فأصيب بشلل رباعي . لم يعرف نوع السيارة ، ولا قائدها ، لكن ، قال له فيما بعد ، شخص كان حاضرا الحادث ، أنه ترجل من السيارة شاب ، فتفقد مقدمة السيارة ، ثم قال ، وهو يمد بطاقة أخرجها من جيبه، لسيارة شرطة صادف وجودها في تلك اللحظة :
- "وجع ... ما يشوف ...؟" .
ثـم أنطلق ، وهو يمسح من على جبينه حبات من العرق تكثفت ، حينما لفحت الشمس وجهه ، الذي كان قد غادر لتوه هواء مكيف السيارة البارد .
هيا تخرج من البيت بعيد الفجر ، قبل أن تمزق الشمس أستار الظلام ، لتقلها سيارة ، هي وبعض زميلاتها ، إلى حيث تدرس ، حيث تم تعيينها معلمة في مدرسة تقع في قرية تبعد عن مقر إقامتها 3.. كيلو متر . لم يشفع لها حطام ذلك الآدمى .. أبوها ، ولا أمها البائسة التي تنوء بهم أبيها المقعد ، وبقلق الخوف عليها منذ تخرج حتى تعود ، وقلق العـذاب على مستقبلها ، الذي يعني بؤسا وضياعا لهم جميعا لو تركتهم ... وهي لن تفعل .
قالت للمسئول :
- هذه حال أبي .. وأمي وإخواني القصر ، حاول أن تساعدني .. أن تجد لي مخرجا . سعادة المسؤل ، النزيه جدا ، قال لها :
- عفوا .. النظام لا يسمح .
وضعت سماعة الهاتف ، والمرارة تكاد تمزق حلقها ، ونظرت بانكسار للمديرة وقالت :
- لقد رفض .. يقول النظام لا يسمح .
كلتاهما تعلمان أن (سعادته) ، قد نقل قريبة له قبل أيام ، من مدرسة في الحي المجاور إلى مدرسة ملاصقة لمنزلها . استدارت خارجة من مكتب المديرة . وحينما حاذت لوحة على الجدار تعلق عليها قرارات إدارة التعليم بصقت عليها . هكذا هو رد فعل المحرومين، البؤساء ، يعبرون عن غيظهم بالبصق على الجدران .. فقط حينما لا يراهم أحد .
دائما أصادف هيا تخرج ملتفة بعباءتها مع الفجر ، تنتظر السيارة التي تقلها إلى عملها .. إلا اليوم . اليوم أنا أجهشت بالبكاء ، حيث لم تخرج هيا كعادتها . وهي أيضا لم تعد القهوة لوالديها ، ولم توضئ أباها المقعد ، قبل ذلك ، أو تدفئ الماء لأمها ، التي تسلخت يداها ، من رضح نوى التمر لبيعه علفا للأغنام . وهي كذلك ، لن تصنع فطورا لأولئك الأطفال ، الذين سيخرجون إلى المدارس شعورهم مبعثرة .. وربما بلا فطور .
اليوم أنا أجهشت بالبكاء ، بكيت كثيرا ، رغم أنه لا تربطني بهيا صلة ، ولا أعرفها ولا تعرفني . ليس لأن هيا في الخامسة والعشرين ولم تتزوج ، لأنها تصر على أن تبقي مع أهلها . لا ... لقد غادرت أهلها إلى الأبد .
اليوم أنا مزقني البكاء على هيا ، التي رحلت وأخذت قلبي معها ... قلبي الذي تعلق بروحها دون جسدها ، هيا ماتت بحادث سيارة ، قتلتها السيارة التي تحملها إلى عملها البعيد عن حطام البشر ، الذين كانت تقوم قبل الفجر من أجلهم .. وأمتنعت عن الزواج من أجلهم . ماتت وهي في طريقها إلى عملها البعيد ،
الذي تمزقت بينه وبين نماذج من البؤس ، قضت المشيئة أن تكون حبلهم الوحيد المتصل بالحياة .
أنا جار هيا الذي أنطفأ وهج الحياة في قلبه ، يوم أنطفأت هيا .. الشمعة التي ظلت تتقد بصمت .. تقاوم الظلام بصمت .. تقاوم الصقيع بصمت .. الظلام والصقيع بكل ما يمثلانه من ظلم ، وتخلف ، وحيف ، وقسوة ، وترف ، ومحسوبية .. وبيروقراطيـة قبيحة . الظلام والصقيع كأبرز مظاهر التوحش وإحتقار الإنسان ونسيانه .
أنا اليوم جار هيا الجريح ، معطوب إلى النهاية ، لأن هيا التي مثلت أجمل مظاهر مقاومة الفناء ، الذي يفرضه الإنسان على الانسان ، وهيا التي مثلت نافذة الضوء الوحيدة ، لبقايا بشر (يقفون) بين الحياة واللاحياة .. قد أنطفأت إلى الأبد .
هيا ماتت في حادث سيارة ولم يسمع بها أحد ، رغم أنه دوى في قلوب أناس أيقظ نحيبهم صـم الصخر .
ماتت هيا ... لم يسمع بها أحد ، وهي التي لم تضاجع الرجال ، ولم تتعرى ، ولم تتخذ صديقـا ، ماتت في عباءتها .. لم ير جسدها أحدا . ماتت لم تتزوج ولم تصنع لنفسها حياة ، لأنها كانت مشغولة بصناعة الحياة لغيرها ... ولم تكتب عنها الجريدة . قلت لرئيس تحرير جريدتنا المحلية :
- ماتت هيا ..
قال :
- كتبنا عن ديانا .
اليوم أنا أجهشت بالبكاء ... بكيت طويلا ، وقفت ولم تخرج هيا كعادتها . اليوم كذلك ، لم يخرج الأطفال إلى المدارس ، ليس لأنه ليس هناك (هيا) ترتب شعورهـم وتعد لهم الإفطار . اليوم لم يخرج الأطفال إلى المدارس لأنه ليس لديهم دفاتر ، ولا أقلام ، ولا (مراييل) جديدة .. ولا فطور ... لأن هيا لم تعد هناك تنفق عليهم .
ماتت هيا فارتاح مدير التعليم ، ورئيس التحرير لن يكتب عنها ، وأنا انتقلت إلى بيت آخر، بعيدا عن بيت أهلها .. بعيد عـن المكـان الذي كانت تقف فيه ، بانتظار السيارة التي تقلها .. إذن أنا لن أفكر فيمن ماتت من أجلهم ..
إذن أنا مرتاح الضمير ...
شكرا مدير التعليم .. شكرا رئيس التحرير .. وداعا هيا .. وداعا هيا .
===============================
جائتني على الايميل انقلها لكم كما هي
=========================================
وداعا هيا ...... د. محمد الحضيف
منذ سنوات تعودت هيا أن لا تنام بعد أن تصلي الفجر ، تعد القهوة لوالديها والإفطار لإخوانها ، وتكمل ما فاتها من أمور البيت ، التي غلبها الإعياء والنوم ، دون أن تنجزها الليلة السابقة .
في الخامسة والعشرين ولم تتزوج هيا ، التي أصبحت معلمة منذ ثلاث سنوات . متوسطة الجمال ، ومتوسطة في كل شئ ، طرق باب أهلها كثير من الرجال ، لكنها امتنعت عن الزواج ، أو أن شرطها ، يرد عنها راغبي الزواج : أتزوج لكن أبقى عند أهلي ...
- من يقبل هذا الشرط يا هيا ...؟
تسألها أمها بمزيج من العتاب والشفقة .
تحاصر آهة تكاد تذيب صدرها ، وترد على أمها دون أن تنظر في عينيها :
- المقسوم لابد أن يكون يا أميمتي .
بينها وبين أكبر إخوانها عشر سنوات ، بنت في الخامسة عشرة . أمها ليست من أنصار تحديـد النسل ولا تنظيمه . نصف متعلمة ، أو قل أمية إن شئت ، أجهضت في حملها الثاني ، بعد هيا ، فأسقطت جنينها ، فتأثرت قدرتها على الإنجاب ، وفشل أطباء المستشفى الحكومي في علاجها ، ولم يكن في مقدور الوالد ، الفقير المعدم ، الذي لا يملك إلا دكانا صغيرا ، أن يعالج أمها في المستشفيات الخاصة .
حملت أمها دون علاج ، هكذا كأقدار البسطاء ، بعد عشر سنوات ، وأنجبت أربع بنات وولدين ، أكبرهم عمره سبع سنوات . قبل ست سنوات ، حينما كانت أمها حامل بأخيها الأصغر ، وبينما كان والدها يجتاز الشارع ، في ظهيرة حارة ، في اتجاه الكلية ، حيث كانت تدرس ، ليأخذها ويعود بها إلى البيت ، إجتاحته سيارة فارهة ، فأصيب بشلل رباعي . لم يعرف نوع السيارة ، ولا قائدها ، لكن ، قال له فيما بعد ، شخص كان حاضرا الحادث ، أنه ترجل من السيارة شاب ، فتفقد مقدمة السيارة ، ثم قال ، وهو يمد بطاقة أخرجها من جيبه، لسيارة شرطة صادف وجودها في تلك اللحظة :
- "وجع ... ما يشوف ...؟" .
ثـم أنطلق ، وهو يمسح من على جبينه حبات من العرق تكثفت ، حينما لفحت الشمس وجهه ، الذي كان قد غادر لتوه هواء مكيف السيارة البارد .
هيا تخرج من البيت بعيد الفجر ، قبل أن تمزق الشمس أستار الظلام ، لتقلها سيارة ، هي وبعض زميلاتها ، إلى حيث تدرس ، حيث تم تعيينها معلمة في مدرسة تقع في قرية تبعد عن مقر إقامتها 3.. كيلو متر . لم يشفع لها حطام ذلك الآدمى .. أبوها ، ولا أمها البائسة التي تنوء بهم أبيها المقعد ، وبقلق الخوف عليها منذ تخرج حتى تعود ، وقلق العـذاب على مستقبلها ، الذي يعني بؤسا وضياعا لهم جميعا لو تركتهم ... وهي لن تفعل .
قالت للمسئول :
- هذه حال أبي .. وأمي وإخواني القصر ، حاول أن تساعدني .. أن تجد لي مخرجا . سعادة المسؤل ، النزيه جدا ، قال لها :
- عفوا .. النظام لا يسمح .
وضعت سماعة الهاتف ، والمرارة تكاد تمزق حلقها ، ونظرت بانكسار للمديرة وقالت :
- لقد رفض .. يقول النظام لا يسمح .
كلتاهما تعلمان أن (سعادته) ، قد نقل قريبة له قبل أيام ، من مدرسة في الحي المجاور إلى مدرسة ملاصقة لمنزلها . استدارت خارجة من مكتب المديرة . وحينما حاذت لوحة على الجدار تعلق عليها قرارات إدارة التعليم بصقت عليها . هكذا هو رد فعل المحرومين، البؤساء ، يعبرون عن غيظهم بالبصق على الجدران .. فقط حينما لا يراهم أحد .
دائما أصادف هيا تخرج ملتفة بعباءتها مع الفجر ، تنتظر السيارة التي تقلها إلى عملها .. إلا اليوم . اليوم أنا أجهشت بالبكاء ، حيث لم تخرج هيا كعادتها . وهي أيضا لم تعد القهوة لوالديها ، ولم توضئ أباها المقعد ، قبل ذلك ، أو تدفئ الماء لأمها ، التي تسلخت يداها ، من رضح نوى التمر لبيعه علفا للأغنام . وهي كذلك ، لن تصنع فطورا لأولئك الأطفال ، الذين سيخرجون إلى المدارس شعورهم مبعثرة .. وربما بلا فطور .
اليوم أنا أجهشت بالبكاء ، بكيت كثيرا ، رغم أنه لا تربطني بهيا صلة ، ولا أعرفها ولا تعرفني . ليس لأن هيا في الخامسة والعشرين ولم تتزوج ، لأنها تصر على أن تبقي مع أهلها . لا ... لقد غادرت أهلها إلى الأبد .
اليوم أنا مزقني البكاء على هيا ، التي رحلت وأخذت قلبي معها ... قلبي الذي تعلق بروحها دون جسدها ، هيا ماتت بحادث سيارة ، قتلتها السيارة التي تحملها إلى عملها البعيد عن حطام البشر ، الذين كانت تقوم قبل الفجر من أجلهم .. وأمتنعت عن الزواج من أجلهم . ماتت وهي في طريقها إلى عملها البعيد ،
الذي تمزقت بينه وبين نماذج من البؤس ، قضت المشيئة أن تكون حبلهم الوحيد المتصل بالحياة .
أنا جار هيا الذي أنطفأ وهج الحياة في قلبه ، يوم أنطفأت هيا .. الشمعة التي ظلت تتقد بصمت .. تقاوم الظلام بصمت .. تقاوم الصقيع بصمت .. الظلام والصقيع بكل ما يمثلانه من ظلم ، وتخلف ، وحيف ، وقسوة ، وترف ، ومحسوبية .. وبيروقراطيـة قبيحة . الظلام والصقيع كأبرز مظاهر التوحش وإحتقار الإنسان ونسيانه .
أنا اليوم جار هيا الجريح ، معطوب إلى النهاية ، لأن هيا التي مثلت أجمل مظاهر مقاومة الفناء ، الذي يفرضه الإنسان على الانسان ، وهيا التي مثلت نافذة الضوء الوحيدة ، لبقايا بشر (يقفون) بين الحياة واللاحياة .. قد أنطفأت إلى الأبد .
هيا ماتت في حادث سيارة ولم يسمع بها أحد ، رغم أنه دوى في قلوب أناس أيقظ نحيبهم صـم الصخر .
ماتت هيا ... لم يسمع بها أحد ، وهي التي لم تضاجع الرجال ، ولم تتعرى ، ولم تتخذ صديقـا ، ماتت في عباءتها .. لم ير جسدها أحدا . ماتت لم تتزوج ولم تصنع لنفسها حياة ، لأنها كانت مشغولة بصناعة الحياة لغيرها ... ولم تكتب عنها الجريدة . قلت لرئيس تحرير جريدتنا المحلية :
- ماتت هيا ..
قال :
- كتبنا عن ديانا .
اليوم أنا أجهشت بالبكاء ... بكيت طويلا ، وقفت ولم تخرج هيا كعادتها . اليوم كذلك ، لم يخرج الأطفال إلى المدارس ، ليس لأنه ليس هناك (هيا) ترتب شعورهـم وتعد لهم الإفطار . اليوم لم يخرج الأطفال إلى المدارس لأنه ليس لديهم دفاتر ، ولا أقلام ، ولا (مراييل) جديدة .. ولا فطور ... لأن هيا لم تعد هناك تنفق عليهم .
ماتت هيا فارتاح مدير التعليم ، ورئيس التحرير لن يكتب عنها ، وأنا انتقلت إلى بيت آخر، بعيدا عن بيت أهلها .. بعيد عـن المكـان الذي كانت تقف فيه ، بانتظار السيارة التي تقلها .. إذن أنا لن أفكر فيمن ماتت من أجلهم ..
إذن أنا مرتاح الضمير ...
شكرا مدير التعليم .. شكرا رئيس التحرير .. وداعا هيا .. وداعا هيا .
===============================