أمل دنقل الشاعر القومي

حوارات - مواضيع - شعرعامِّي

المشرف: مجدي

موودي
المشرف العام
مشاركات: 274
اشترك في: 04-30-2001 10:04 PM
اتصال:

مشاركةبواسطة موودي » 04-30-2002 11:27 AM

<font size=4 color=Navy>
أمل دنقل (1940 - 1983) واحد من أهم شعراء الستينيات في مصر، فالمكانة التي يحتلها في تاريخ الشعر العربي المعاصر، والتي ترتبط بالإنجاز الذي حققه على المستوى الإبداعي، تجعل منه واحدا من أبرز الشعراء العرب المعاصرين. ولا تحتسب المكانة، في هذا السياق، بالكم الشعري الذي كتبه الشاعر، أو الدواوين التي أصدرها.

أعمال أمل دنقل قليلة مثل عمره القصير، ولكنها أعمال متميزة بما تنطوي عليه من إنجاز ودلالة، ابتداء من ديوان "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" الذي لفت إليه أنظار الأمة العربية عام 1969، وكان بمثابة احتجاج وإدانة للعالم الذي أدى إلى هزيمة يونيو 1967، ومرورا بديوان "تعليق على ما حدث" عام 1971 الذي كان استمرارا لاتجاه الديوان الأول، وكذلك ديوان "العهد الآتي" الذي صدر عام 1975 والذي وصلت فيه تقنية الشاعر إلى ذروة اكتمالها، وأخيرا ديوان "أوراق الغرفة (8)" عام 1983، وقد أصدره أصدقاء الشاعر بعد وفاته بشهور، شأنه في ذلك شأن "أقوال جديدة عن حرب البسوس" الذي صدر عن دار المستقبل العربي في القاهرة عام 1984، قبيل نشر الأعمال الكاملة.

رموز من التراث العربي

هذه الأعمال القليلة نسبيا، تنطوي على عالم شديد الخصوصية والأهمية في تاريخ الشعر العربي المعاصر، فهي تقدم لنا شاعرا وصل بالمحتوى القومي للشعر إلى درجة عالية من التقنية الفنية والقيمة الفكرية في وقت واحد، إلى الدرجة التي يمكن أن نقول معها إن شعر أمل دنقل هو المحلي الحداثي الأخير، للرؤية القومية في الشعر العربي المعاصر، هذه الرؤية القومية التي دفعته إلى اختيار رموزه من التراث العربي، وصياغة أقنعته من الشخصيات الرمزية الثرية في هذا التراث، والقادرة على إثارة اللاشعور القومي لجماهير القراء العرب. ومن هنا كان ديوانه الأول "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" علامة مؤثرة، فالأقنعة التي ينطوي عليها الديوان، والأصوات الناطقة في القصائد، ذات ملامح تراثية، وصلت بينها وبين القراء وصلا حميما، وزاد من أهمية هذا الوصل ما تميزت به قصائد هذا الديوان من تقنية فنية عالية، جعلت من الشاعر أمل دنقل واحدا من أهم شعراء العرب الشباب.

لقد احتوى هذا الديوان على قصائد "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" و "حديث خاص مع أبي موسى الأشعري" و "من مذكرات المتنبي في مصر"، وكلها قصائد تلح على إثارة المعطيات التراثية الكامنة في وعي المتلقي ولا وعيه على السواء، أو تستغل المخزون الشعوري للمتلقي كي تدخل به إلى عالم الشاعر، فتؤهله للاتحاد بشخصيات الشاعر ورموزه. وتضمنت هذه القصائد "الأقنعة" الشهيرة التي عرف بها أمل دنقل وأصبحت علامة له. و "الأقنعة" رموز، في هيئة أشخاص تراثية في الأغلب يختفي وراءها الشاعر، فينطق صوتها الذي هو صوته ويجسد من خلالها، وبواسطتها، تجاربه ونظرته إلى العالم، على نحو يتباعد عن الذاتية المباشرة التي كانت سمة للشاعر الرومانسي، ويؤكد موضوعية الإبداع والتلقي على السواء، فالقناع يتيح للشاعر خلق موازيات رمزية تجسد نظرته إلى العالم، ويوصل صوته عبر وسائل مراوغة، ويتيح للشاعر اكتشاف تجربته خلال آخر يشبهه بأكثر من معنى، وفي الوقت نفسه، يتيح القناع للقارئ الاتحاد بشخصيات الشاعر، والاستجابة إلى صوتها الذي هو صوت الشاعر، والتفاعل مع موقفها القديم الذي يسقط نفسه على الموقف المعاصر الذي يعاني منه الشاعر والقارئ على السواء.

هكذا كانت قصيدة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" واحدة من القصائد اللافتة بعد هزيمة العام السابع والستين، فقد جذبت الأنظار إليها وإلى شاعرها على السواء. وأعادت إلى الأذهان مأساة "زرقاء اليمامة" التي حذرت قومها من الخطر القادم فلم يصدقوها، كأنها صوت الإبداع الذي كان يحذر من الخطر القادم فلم يصدقه أحد. وإذ أكد "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" التشابه بين الماضي والحاضر، فإنه أكد الهوية القومية لشعر أمل دنقل من حيث وصل هذه الرموز بجذورها في التراث العربي الذي يصل بين المبدع والقارئ، ومن حيث ربط هذه الهوية برؤية لا ترى إمكانا للمستقبل إلا بنهضة قومية تستعيد أعظم ما في الماضي من خبرات وتتجاوز ما في الحاضر من ثغرات.

صوت المواطن البسيط

ولا شك أن جانبا لافتا من التأثير الذي تركته هذه القصيدة يرجع إلى طبيعة الصوت الذي ينطقه القناع بها، فهو صوت المواطن البسيط الذي يقف أعزل بين السيف والجدار، يصمت كي ينال فضلة الأمان، كأنه عبدمن عبيد عبس يظل يحرس القطعان، يصل الليل بالنهار في خدمة السادة، طعامه الكسرة والماء وبعض التمرات اليابسة. هذا العبدالذي ينطق في القصيدة كان يجسد صوت الشاعر من ناحية، وصوت المواطن العربي المسكين الذي مزقته الهزيمة من ناحية ثانية. ومن هنا، اتحدت جماهير القراء بصوت هذا العبد العبسي البائس الذي يبكي في حضرة زرقاء اليمامة، هذا العبد- عندما وقعت الواقعة، وتخاذل الكماة والرماة - يدعى إلى الميدان وهو الذي لا حول له ولا شأن، فماذا يفعل سوى أن يبكي بين يدي زرقاء اليمامة، عاجزا، عاريا، مهانا، صارخا، كأنه صدى يجسد ما في داخل كل قارئ عربي للقصيدة في الوقت الذي كتبت فيه. وإذا كان صوت هذا العبدالعبسي (الصورة الموازية للمواطن العربي البسيط) شاهدا على الهزيمة فإن بكاءه في حضرة زرقاء اليمامة، العرافة المقدسة، شاهد على ما يمكن أن يفعله الشعر، فالشعر - الإبداع - صورة أخرى من هذه العرافة، أو قناع لها، قادر على أن يرى ما لا يراه الآخرون، وأن يستشرف أفق الكارثة أو أفق الوعد بالمستقبل. وبكاء هذا العبدفي حضرة زرقاء اليمامة مثل شهادته علامة على أسباب الهزيمة التي ترتبت على غياب الديمقراطية عن قبائل "عبس" العربية، من العصر الجاهلي إلى العام السابع والستين، حيث كتبت هذه القصيدة.

وإذا كان تأثير القصيدة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" يرجع إلى طبيعة قناعها، والاتحاد الشعوري واللاشعوري الذي يقيمه القناع بين صوته وصداه عند القارئ، فإن الجوانب الأخرى من نجاح القصيدة ترجع إلى بقية خصائصها الأسلوبية، حيث تتجاور الصياغة العربية المحكمة مع الإيقاعات الإنشادية، وتتآلف لغة الصورة التي تخاطب العين مع النبرة التي تخاطب السمع وتتوازى التضمينات الشعرية القديمة مع الإشارات السياسية المعاصرة، ويتقابل الموقف السياسي الذي يسعى إلى تأكيد حق المواطن العربي في صياغة مصيره مع صوت الشاعر الذي يؤكد دور الشاعر في تحرير الوطن والمواطن.

رحلة الأقنعة

ولقد كانت هذه القصيدة، في الوقت نفسه، بداية رحلة الأقنعة التي انطلقت بصوت أبي موسى الأشعري، في قناعه الذي يؤكد دلالة الموقف الذي يدين جميع الأطراف، فيخلع الجميع كي يسترد المؤمنون الرأي والبيعة، وصوت المتنبي الموجع في قناعه الذي ينطق لغة السخرية، بعد العام السابع والستين، على هذا النحو:

ساءلني كافور عن حزني
فقلت إنها تعيش الآن في بيزنطة
شريدة.. كالقطة
تصيح كافوراه.. كافوراه
فصاح في غلامه أن يشتري جارية رومية
تجلد كي تصيح واروماه.. واروماه
لكي تكون العين بالعين
والسن بالسن

واستمرت الأقنعة في قصائد أمل دنقل ودواوينه اللاحقة تؤكد البعد القومي لشعره، وتؤكد صوت المواطن العربي البسيط الذي يجسد القناع التراثي، في شعر أمل، همومه وتطلعاته وأحلامه. وتجاوب الصوت التراثي في "فقرات من كتاب الموتى" مع القناع الذي انطوت عليه قصيدة "الحداد يليق بقطر الندى" في الديوان الثاني "تعليق على ما حدث". وتجاوبت أقنعة الديوان الثاني مع "أوراق أبي نواس" و "رسوم في بهو عربي" في الديوان الثالث "العهد الآتي"، حيث الإفادة من التراث العربي الأدبي تتجاور والإفادة من التراث الديني الإنساني في تأكيد معنى "العهد الآتي" الذي يحل محل "العهد القديم". وتتجاوب أقنعة الديوان الثالث مع أقنعة الديوان الرابع الذي غدا كله أقنعة مستعارة من سيرة "المهلهل" أخي "كليب" المقتول. ومع الأسف لم يتح للشاعر الوقت لكتابة هذا الديوان "الأقنعة" فقد دهمه المرض اللعين بعد أن فرغ من القصيدتين الأوليين، أو القناعين الأولين، فنشر القصيدة الأولى بعنوان "لا تصالح" والثانية بعنوان "أقوال اليمامة". وقد احتلت القصيدة الأولى مكانة تعلو على المكانة التي احتلتها قصيدة "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" وذلك لارتباطها بتجسيد موقف عربي قومي من الصلح مع العدو الإسرائيلي.

وظلت القصيدة، منذ أن نشرت، معلقة من المعلقات القومية التي يتناشدها الباحثون عن الكرامة الوطنية. وتقوم القصيدة على عشر وصايا كأنها معارضة موازية للوصايا العشر التي خلفتها الديانة الموسوية، وهي وصايا تؤكد ضرورة الحفاظ على الحق العربي، وعدم الصلح مع العدو الغادر، وتأكيد معنى الثأر الذي هو ثأر جيل فجيل:

وغدا..
سوف يولد من يلبس الدرع كاملة
يوقد النار شاملة
يطلب الثأر
يستولد، الحق من أضلع
المستحيل

وكان أمل يريد أن يصوغ أقنعة لبقية الشخصيات الأساسية في حرب البسوس التي استمرت أربعين سنة، جساس وجليلة والمهلهل وغيرهم، وذلك ليصوغ من هذه الحرب موازيات رمزية للواقع العربي المعاصر، ويصوغ من شخصياتها موازيات مماثلة لاتجاهات الحاضر. ولم يتحقق من حلم أمل سوى قصيدة "لا تصالح" التي تستحضر الملك كليب في ساعاته الأخيرة، وقصيدة اليمامة التي كانت ترفض السلام مع قاتل أبيها الذي يرمز للمجد العربي القتيل، أو الأرض العربية السليبة التي تريد أن تعود إلى الحياة مرة أخرى. ولكن إذا كان مشروع هذا الديوان لم يكتمل فإن ما تحقق منه يكفي لإبراز حلم أمل دنقل القومي، وهو حلم يتجسد في وطن عربي ترفرف عليه أعلام الحرية والعدل والتقدم، ويستعيد فيه المستقبل عظمة الماضي وأمجاده.

كعنقاء قد أحرقت ريشها
لتظل الحقيقة أبهى
وترجع حلتها في سنا الشمس أزهى
وتفرد أجنحة الغد
فوق مدائن تنهض من ذكريات الخراب

هذه المدائن التي تنهض من ذكريات الخراب هي المدائن العربية التي ظل أمل دنقل يغني لها، ابتداء من القاهرة العجوز إلى كل العواصم العربية. وفي سبيل مستقبل هذه المدائن، ظل شعر أمل يلازم خاصية لم تفارقه قط، هي خاصية الرفض بمعانيه المتعددة، الرفض السياسي لتراجع أنظمة الحكم والهزائم المصاحبة لديكتاتورية حاكميها. والرفض الاجتماعي لصور النفاق التي تمزق الحياة وتعوق التقدم.والرفض الفكري لكل ما يشد العقل إلى قيود التخلف، أو التقاليد الجامدة. والرفض الوجودي لكل ما يحرم الإنسان من أن يمارس حضوره الفاعل في الوجود.

روح رافضة

ويلفت الانتباه، في هذا السياق، أن القصيدة الأولى التي لفتت الأنظار إلى شعر أمل دنقل، قبل أن ينشر ديوانه الأول بسنوات، كانت بعنوان "كلمات سبارتكوس الأخيرة"، وهي قصيدة تقوم على قناع سبارتكوس محرر العبيد في الإمبراطورية الرومانية. والقناع منسوج من بعض الأفكار التي أكدها طه حسين عندما كتب دراسته الشهيرة بعنوان "ثورتان"، مقارنا بين ثورة العبيد في روما وثورة الزنج في البصرة. ومنسوج من ملامح سبارتكوس التي رسمتها الرواية العالمية الشهيرة التي كتبها الروائي الأمريكي هوارد فاست والتي عالجتها السينما العالمية في فيلم شهير بعنوان "سبارتكوس". وقد كتب أمل قصيدته في أبريل 1962، في أعقاب استفتاء شعبي شهير في مصر، بما يؤكد معنى الرفض الحاسم الذي يعلق من يقول "لا" على مشانق القيصر، في مقابل الذين ينالون الأمان ممن يقولون "نعم" لكنهم - في النهاية - معلقون في مشانق الخنوع، وذلك بالمعنى الذي ينطقه هذا المقطع الذي يتوجه فيه سبارتكوس بالخطاب إلى الخائفين:

يا إخوتي الذين يعبرون في الميدان مطرقين
منحدرين في نهاية المساء
في شارع الإسكندر الأكبر
لا تخجلوا ولترفعوا عيونكم إليّ ل
أنكم معلقون جانبي على مشانق القيصر

وإذ تنطلق بداية القصيدة من المأثورات الرومانية الخاصة بعوالم الأرباب الوثنية، وتتخذ منها مهادا يؤسس دلالة رفض الاستبداد في الحكم. وإذ تؤكد البداية الذين لابد أن يقولوا "لا" في وجه من يقولون "نعم"، فإنها تؤكد الصوت المتحرر الذي يدعو إلى تحرير الأفراد من سطوة "القيصر" الذي يسلب شعبه حريته، فيتحول الشعب إلى عبيد، أرقاء، يحتاج إلى من يقوده إلى الثورة، ومن ينطق له باسم الثورة من خلال قناع يذكر الحاضر بمعناها الأبدي الدائم. وحين يؤكد سبارتكوس معنى الثورة على كل قيصر جديد، في نفوس المظلومين، فإنه يؤكد الدور الذي يقوم به الشعر والشاعر في رفض كل ما يغتال أحلام المظلومين.

هذا الروح الرافض يتلهب في شعر أمل دنقل، دائما، ولا يكف تلهبه عن التوقد، فهو شعر التمرد الذي يأبى الخنوع. بقدر ما استمد هذا الروح من نسغ التمرد في الحاضر، ظل متوهجا بالرفض إلى آخر لحظة من حياة الشاعر.

الاقتراب من وجدان الجماهير

ولا شك أن هذا البعد السياسي الذي تميز به شعر أمل دنقل هو الذي أكد صلة الشاعر بالجمهور، وجعله حريصا على تأكيد الطابع الإنشادي للقصيدة، كأنه لا يكتب القصيدة إلا ليلقيها في محفل جمعي، وكأن جانبا من بناء القصيدة نفسها لا يفهم إلا في ضوء تلقيها الجماعي، ومن هنا، كانت قصيدة أمل تتميز برموزها القريبة من وجدان الجماهير، وصورها الشعرية البسيطة ومقاطعها القصيرة الحادة، والإيقاعية العالية، وغير ذلك من الخصائص البلاغية التي تلازم كل شعر يتجه إلى الجماهير العربية ليدفعها إلى تغيير عالمها.

وفي هذا المجال، يتباعد شعر أمل دنقل عن الغرابة والتعقيد والاستغراق في العوالم الذاتية أو اللغة اللامنطقية التي تنفر من الوضوح، إلى آخر ما يتميز به بعض الشعر الذي يغالي في نزعته الحداثية التي تبعده عن الجماهير. إن شعر أمل دنقل على النقيض من نزعات الحداثة المغتربة، ينطوي على المعنى الواضح، والبناء المنطقي، والخطابية التي لا تفارق نسيج صياغته دون أن تقلل من شاعريته المتميزة. وقصيدة "لا تصالح" خير مثال على هذا النوع من الشعر، فهي قصيدة تستبدل بالصورة المركبة المعقدة الملتبسة الصورة البسيطة الواضحة، وبالكلمات المتنافرة الكلمات المتسقة منطقيا، وبلغة الاستعارة لغة التشبيه، وبالكتابة التي تدنو من النثر المقاطع الإيقاعية، ذات النغمة البارزة، والقافية التي لا تفلت الوقع الموسيقي، بل تكثفه، وتضبط تدافعه. وأخيرا، تستبدل القصيدة بالمثيرات الفردية المثيرات الجمعية، على نحو يحمل المتلقي إلى حالة شعورية تتناسب وطبيعة الهدف القومي من شعر أمل دنقل الذي كان أكثر أبناء جيله استجابة إلى الجماهير العربية وأكثرهم قدرة على تحريكها. ولذلك احتضنته هذه الجماهير ورعته منذ أن أدركت مرضه، وساندته، وظلت حانية عليه تقديرا منها لدوره في حياتها.

حرص على التجديد

ولكن هذه الصلة بالجماهير لم تنس قصيدة أمل دنقل ما عليها من حق للشعر. إن الصنعة تتجاور مع العفوية، والأصالة تقترن بالمعاصرة، والحرص على النغمة الإيقاعية القديمة يتناغم مع الحرص على التجديد، وعين الشاعر التي لا تمل من النظر إلى عالم المدينة تتضافر مع أذنه التي لا تمل من الاستماع إلى النغمات والأصوات في هذا العالم. ولذلك فإننا نستطيع أن نلمح في شعر أمل دنقل تجاورا لافتا بين الحداثة والتقاليد، خصوصية العالم الأدبي وجمعية العالم الجماهيري، الاستغراق في التقنية والعفوية التي تخفي هذه التقنية.

ومن المؤكد أن شعر أمل دنقل لا يدخل في باب المناسبات بالمعنى الذي تنتهي به القصيدة بانتهاء المناسبة. إن غوص هذا الشعر في تجاربه. وتجسيده اللحظات الجوهرية في الواقع، وصياغته الأقنعة النموذجية التي تتحول إلى موازيات رمزية، وخلقه شخصيات إبداعية لا يمكن نسيانها، على نحو ما نجد في "يوميات كهل صغير السن" و "سفر ألف دال"، وقدرة هذا الشعر على صياغة جداريات بالغة الحيوية لمشاهد المدينة وعالمها، وأناسها الهامشيين، ولغة هذا الشعر المنسوجة باقتدار يجتذب العين والأذن ويمتعهما في آن واحد، والإحكام البنائي الذي يخلف لذة عقلية في ذهن المتلقي، كلها خصائص تتجاوز المناسبة، أو المناسبات، وتضع أمل دنقل في مصاف الشعراء الكبار الذين يتجاوز شعرهم اللحظة التاريخية التي أوجدته لأنه عثر على العناصر الباقية في هذه اللحظة.

ونضيف إلى الخصائص السابقة ما يتميز به شعر أمل دنقل من تراكيب حدية، وعوالم تجمع بين المتقابلات في صياغات لافتة. وذلك هو السبب في أن المفارقة والتضاد هما الخاصيتان البلاغيتان الأثيرتان في هذا الشعر. التضاد الذي يضع الأشياء في علاقات متدابرة، والمفارقة التي تستقطر السخرية من التقابلات المفاجئة. إن قارئ أمل دنقل لن ينسى المفارقة التي تنبثق حين تتجاور الأشياء بغتة، ويبرز التقابل بين العناصر على نحو ساخر، موجع نقرأ معه:
<font size=5 color=red>
لا تسألي النيل أن يعطي وأن يلدا
لا تسألي... أبدا
إني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثير ولكن لا أرى أحدا

<font size=4 color=Navy>

ولقد كان شعر أمل، بهذه اللغة التي تؤكد السخرية من خلال المفارقة، يجسد التضاد الذي تنبني عليه علاقات الواقع المختل، الواقع الذي دفع الشاعر إلى أن ينطق بلغة أقنعته المستعارة قائلا: "مملكتي ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلم إلى اليهود".


جابر عصفور


اطيب الامنيات

موودي
sun_of_ sa
بوح دائم
مشاركات: 173
اشترك في: 03-13-2002 01:28 PM
اتصال:

مشاركةبواسطة sun_of_ sa » 04-30-2002 12:15 PM

لك الشكر و القدير اخي الكريم
طلقينى فالليالي قيود


------------
~¤§‡ علي الموسوي السيهاتي‡§¤~
تأبط حلماً
همس جديد
مشاركات: 58
اشترك في: 09-24-2001 08:54 AM

لا تصالح

مشاركةبواسطة تأبط حلماً » 05-09-2002 09:47 PM

<font size=4>

لا تصالحْ !

.. ولو منحوك الذهب

أترى حين أفقأ عينيك،

ثم أثبت جوهرتين مكانهما..

هل ترى..؟

هي أشياء لا تشترى..:

ذكريات الطفولة بين أخيك وبينك،

حسُّكما - فجأةً - بالرجولةِ،

هذا الحياء الذي يكبت الشوق.. حين تعانقُهُ،

الصمتُ - مبتسمين - لتأنيب أمكما..

وكأنكما

ما تزالان طفلين!

تلك الطمأنينة الأبدية بينكما:

أنَّ سيفانِ سيفَكَ..

صوتانِ صوتَكَ

أنك إن متَّ:

للبيت ربٌّ

وللطفل أبْ

هل يصير دمي - بين عينيك - ماءً ؟

أتنسى ردائي الملطَّخَ بالدماء..

تلبس - فوق دمائي - ثيابًا مطرَّزَةً بالقصب ؟

إنها الحربُ !

قد تثقل القلبَ ..

لكن خلفك عار العرب

لا تصالحْ ..

ولا تتوخَّ الهرب !

لا تصالح على الدم .. حتى بدم !

لا تصالح ! ولو قيل رأس برأسٍ

أكلُّ الرؤوس سواءٌ ؟

أقلب الغريب كقلب أخيك ؟!

أعيناه عينا أخيك ؟!

وهل تتساوى يدٌ .. سيفها كان لك

بيدٍ سيفها أثْكَلك ؟

سيقولون :

جئناك كي تحقن الدم ..

جئناك . كن - يا أمير - الحكم

سيقولون :

ها نحن أبناء عم.

قل لهم : إنهم لم يراعوا العمومة فيمن هلك

واغرس السيفَ في جبهة الصحراء

إلى أن يجيب العدم

إنني كنت لك

فارسًا،

وأخًا،

وأبًا،

ومَلِك!


لا تصالح ..

ولو حرمتك الرقاد

صرخاتُ الندامة

وتذكَّر ..

(إذا لان قلبك للنسوة اللابسات السواد ولأطفالهن الذين تخاصمهم الابتسامة)

أن بنتَ أخيك "اليمامة"

زهرةٌ تتسربل - في سنوات الصبا -

بثياب الحداد

كنتُ، إن عدتُ:

تعدو على دَرَجِ القصر،

تمسك ساقيَّ عند نزولي..

فأرفعها - وهي ضاحكةٌ -

فوق ظهر الجواد

ها هي الآن .. صامتةٌ

حرمتها يدُ الغدر:

من كلمات أبيها،

ارتداءِ الثياب الجديدةِ

من أن يكون لها - ذات يوم - أخٌ !

من أبٍ يتبسَّم في عرسها ..

وتعود إليه إذا الزوجُ أغضبها ..

وإذا زارها .. يتسابق أحفادُه نحو أحضانه،

لينالوا الهدايا..

ويلهوا بلحيته (وهو مستسلمٌ)

ويشدُّوا العمامة ..

لا تصالح!

فما ذنب تلك اليمامة

لترى العشَّ محترقًا .. فجأةً ،

وهي تجلس فوق الرماد ؟!


(4)


لا تصالح

ولو توَّجوك بتاج الإمارة

كيف تخطو على جثة ابن أبيكَ ..؟

وكيف تصير المليكَ ..

على أوجهِ البهجة المستعارة ؟

كيف تنظر في يد من صافحوك..

فلا تبصر الدم..

في كل كف ؟

إن سهمًا أتاني من الخلف..

سوف يجيئك من ألف خلف

فالدم - الآن - صار وسامًا وشارة

لا تصالح ،

ولو توَّجوك بتاج الإمارة

إن عرشَك : سيفٌ

وسيفك : زيفٌ

إذا لم تزنْ - بذؤابته - لحظاتِ الشرف

واستطبت - الترف

(5)
لا تصالح

ولو قال من مال عند الصدامْ

" .. ما بنا طاقة لامتشاق الحسام .."

عندما يملأ الحق قلبك:

تندلع النار إن تتنفَّسْ

ولسانُ الخيانة يخرس

لا تصالح

ولو قيل ما قيل من كلمات السلام

كيف تستنشق الرئتان النسيم المدنَّس ؟

كيف تنظر في عيني امرأة ..

أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها ؟

كيف تصبح فارسها في الغرام ؟

كيف ترجو غدًا .. لوليد ينام

- كيف تحلم أو تتغنى بمستقبلٍ لغلام

وهو يكبر - بين يديك - بقلب مُنكَّس ؟

لا تصالح

ولا تقتسم مع من قتلوك الطعام

وارْوِ قلبك بالدم..

واروِ التراب المقدَّس ..

واروِ أسلافَكَ الراقدين ..

إلى أن تردَّ عليك العظام !


(6)
لا تصالح

ولو ناشدتك القبيلة

باسم حزن "الجليلة"

أن تسوق الدهاءَ

وتُبدي - لمن قصدوك - القبول

سيقولون :

ها أنت تطلب ثأرًا يطول

فخذ - الآن - ما تستطيع :

قليلاً من الحق ..

في هذه السنوات القليلة

إنه ليس ثأرك وحدك،

لكنه ثأر جيلٍ فجيل

وغدًا..

سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً،

يوقد النار شاملةً،

يطلب الثأرَ،

يستولد الحقَّ،

من أَضْلُع المستحيل

لا تصالح

ولو قيل إن التصالح حيلة

إنه الثأرُ

تبهتُ شعلته في الضلوع..

إذا ما توالت عليها الفصول..

ثم تبقى يد العار مرسومة (بأصابعها الخمس)

فوق الجباهِ الذليلة !


(7)
لا تصالحْ، ولو حذَّرتْك النجوم

ورمى لك كهَّانُها بالنبأ..

كنت أغفر لو أنني متُّ..

ما بين خيط الصواب وخيط الخطأ .

لم أكن غازيًا ،

لم أكن أتسلل قرب مضاربهم

أو أحوم وراء التخوم

لم أمد يدًا لثمار الكروم

أرض بستانِهم لم أطأ

لم يصح قاتلي بي: "انتبه" !

كان يمشي معي..

ثم صافحني..

ثم سار قليلاً

ولكنه في الغصون اختبأ !

فجأةً:

ثقبتني قشعريرة بين ضعلين..

واهتزَّ قلبي - كفقاعة - وانفثأ !

وتحاملتُ ، حتى احتملت على ساعديَّ

فرأيتُ : ابن عمي الزنيم

واقفًا يتشفَّى بوجه لئيم

لم يكن في يدي حربةٌ

أو سلاح قديم،

لم يكن غير غيظي الذي يتشكَّى الظمأ


(8)
لا تصالحُ ..

إلى أن يعود الوجود لدورته الدائرة:

النجوم.. لميقاتها

والطيور.. لأصواتها

والرمال.. لذراتها

والقتيل لطفلته الناظرة

كل شيء تحطم في لحظة عابرة:

الصبا - بهجة الأهل - صوتُ الحصان - التعرف بالضيف - همهمة القلب حين يرى برعمًا في الحديقة يذوي - الصلاة لكي ينزل المطر الموسمي - مراوغة القلب حين يرى طائر الموت وهو يرفرف فوق المبارزة الكاسرة

كلُّ شيءٍ تحطَّم في نزوةٍ فاجرة

والذي اغتالني: ليس ربًّا

ليقتلني بمشيئته

ليس أنبل مني.. ليقتلني بسكينته

ليس أمهر مني.. ليقتلني باستدارتِهِ الماكرة



لا تصالحْ

فما الصلح إلا معاهدةٌ بين ندَّينْ ..

(في شرف القلب)

لا تُنتقَصْ

والذي اغتالني مَحضُ لصْ

سرق الأرض من بين عينيَّ

والصمت يطلقُ ضحكته الساخرة !

(9)

لا تصالح

ولو وَقَفَت ضد سيفك كلُّ الشيوخ

والرجال التي ملأتها الشروخ

هؤلاء الذين يحبون طعم الثريد

وامتطاء العبيد

هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق أعينهم،

وسيوفهم العربية، قد نسيتْ سنوات الشموخ

لا تصالح

فليس سوى أن تريد

أنت فارسُ هذا الزمان الوحيد

وسواك .. المسوخ !

(10)

لا تصالحْ

لا تصالحْ



أمل دنقل .
آه يا صديقه لو بيدي ماء الذهب
وحقول السنابل الصفراء
لحصدت لك كل شيء من ...لا شيء
sun_of_ sa
بوح دائم
مشاركات: 173
اشترك في: 03-13-2002 01:28 PM
اتصال:

مشاركةبواسطة sun_of_ sa » 05-10-2002 02:55 AM

يبارك الله فيكما

كنت في شوق لمثل ما تكرمتم به

شكرا جزيلا
طلقينى فالليالي قيود





------------

~¤§‡ علي الموسوي السيهاتي‡§¤~
نفح الخزامى
بوح دائم
مشاركات: 102
اشترك في: 08-21-2001 09:09 AM
اتصال:

مشاركةبواسطة نفح الخزامى » 05-23-2002 04:22 AM

ما اجمل الحديث عن الشاعر الحزين امل دنقل

ولان الحديث يدور حوله فعندي رجاء خاص الى الاخ مودي او غيره ممن يعرفون اجابة سؤالي ومطلبي ان لا يبخلوا علي بقصيدة ٍ قرأت مقطعا منها لامل دنقل واموت شوقا لاقرأ ما تبقى منها

انا لا اذكرها جيدا ولكن اعتقد انها تقول :

شيء في صدري يحترق
اذ يمضي الوقت فنفترق
؟؟؟!!

ونمد الايدي يجمعها حبٌ وتفرقها طرق

؟؟؟؟!!

شيء كالفرحة يحترق

اعرف انها تشبه الكلمات المتقاطعة ..ولكن هذا الذي اذكره منها

:(

ارجوكم ساعدوني لاحصل على بقيتها
المرأة كالقيثارة من لا يحسن العزف عليها تسمعه انغاما لا ترضيه
وريث الرمل
بوح دائم
مشاركات: 212
اشترك في: 08-26-2001 06:53 AM
اتصال:

إلى الأخت نفح الخزامى هذا هو النص ...

مشاركةبواسطة وريث الرمل » 05-24-2002 06:03 AM

هذا هو نص أمل دنقل

مجموعته الشعرية الكاملة ص 101



شيء في قلبي يحترقُ

إذ يمضي الوقتُ فنفترقُ

ونمدُّ الأيدي يجمعها

حبٌّ وتفرِّقها طرقُ

***

.. ولأنت جواري ضاجعة

وأنا بجوارك مرتفقُ

وحديثك يغزله مرحٌ

والوجه حديثٌ متَّسقُ

ترخين جفونا

أغرقها سحر

فطفا فيها الغرقُ

وشبابك حانٌ جبليٌّ

أرز وغدير ينبثقُ

ونبيذ ذهبي وحدي

مصطبحٌ منه ومغتبقُ

وتغوص بقلبي نشوته

تدفعني فيك فتلتصقُ

وأمد يدين معربدتين

فثوبك في كفي مزقُ

وذراعك يلتفُّ

ونهر من أقصى الغابة يندفقُ

وأضمك ( شفة في شفة )

فيغيب الكون وينطبقُ

..................

وتموت النار فنرقبها

بجفونٍ حار بها الأرقُ

خجلى وشفاهك ذائبة

وثمارك نشوى تندلقُ

ونعود نثرثر

كبحيرات هادئة

غطاها الورقُ

ويمر الوقت فلا ندري

ويقيم محافله الشفقُ

وتدق الساعة معلنة

فيهب بنا صحو قلقُ

ويحين وداع وقتي

وأراه كحلم ينسحقُ

يرتد الصمت لموضعه

ويعود إلى الأذن الحلقُ

ونمد الأيدي

راغمة

نتشاكى العتب

وتنزلقُ

وأحس بشيء في صدري

شيء

كالفرحة يحترقُ

---------------------------

مع تقديري للجميع

أنام ملء جفوني عن شواردها
....................... ويسهر الخلق جرَّاها ويختصم
صورة العضو الشخصية
kindy girl
بوح دائم
مشاركات: 696
اشترك في: 06-14-2002 02:59 PM

مشاركةبواسطة kindy girl » 06-20-2002 12:01 PM

أثريتوا فكرنا و وسعتوا مداركنا في هذا الموضوع ...
تحية لأخي موودي و باقي الأحبة(وريث الرمل-sun-of-sa-نفخ الخزامى)..

المحبة
kindy girl
;) ;)
ريم الفلا
نحلــــــ النادي ـــــــة
مشاركات: 3773
اشترك في: 04-14-2001 12:17 PM
اتصال:

مشاركةبواسطة ريم الفلا » 06-27-2002 01:55 AM



كتب: خيري حسين - باحث مصري
1/9/2001م


محمد أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل من مواليد قرية "القلعة" إحدى قرى مديرية "قنا" أقصى جنوب مصر، ولد في 1941 لأب يعمل مدرسًا للغة العربية متخرجًا في الأزهر.

كان والده في تنقل ما بين قرية "القلعة" وإحدى مدن "قنا"؛ فهو في فترة الدراسة يقيم بالمدينة، يعمل بالتدريس، وحين تنتهي الدراسة يعود أدراجه بأسرته المكونة من ولدين وبنت، أكبرهم أمل وأصغرهم أنس.. وهذا التنقل قد أثّر في طبيعة أمل كثيرا فيما بعد.

وكأن الألم هو الحضانة الأولى للعظماء، فلم يكد أمل يتم العاشرة من عمره حتى مات والده. وحرصت أمه الشابة الصغيرة التي لم تكن قد جاوزت النصف الثاني من عقدها الثالث على أن يظل شمل أسرتها الصغيرة ملتئمًا، مع عناية خاصة توليها لمستوى الأولاد الاجتماعي من حيث حسن المظهر والتربية وعلاقاتهم وأصدقائهم.

ساعدهم على العيش "مستورين" أن الأب قد ترك لأولاده بيتًا صغيرا في المدينة يقطنون في طابق منه ويؤجّرون طابقًا آخر، كما عاون الأم في تربية أولادها أحد أقرباء زوجها كان بمنزلة عم "أمل".

حين التحق أمل بمدرسة ابتدائية حكومية أنهى بها دراسته سنة 1952 عُرف بين أقرانه بالنباهة والذكاء والجد تجاه دراسته، كما عُرف عنه التزامه بتماسك أسرته واحترامه لقيمها ومبادئها؛ فقد ورث عن أمه الاعتداد بذاته، وعن أبيه شخصية قوية ومنظمة.



آثار الطفولة :


والمفارقة أنه حين وصل للمرحلة الثانوية بدت ميوله العلمية، وهيأ نفسه للالتحاق بالشعبة "العلمي" تمهيدًا لخوض غمار الدراسة الأكاديمية في تخصص علمي كالهندسة أو الكيمياء، لكن العجيب أن أصدقاءه قد أثروا كثيرا في تحوله المعاكس إلى الأدب والفن في هذه الفترة ؛ فقد كان من أقرب أصدقائه إلى نفسه "عبد الرحمن الأبنودي" –شاعر عاميه مصري- وقد تعرف عليه أمل بالمرحلة الثانوية، و"سلامة آدم" –أحد المثقفين البارزين- فيما بعد، وكان يمت له بصلة قرابة وكان رفيقه الأول في مرحلة الطفولة، وبعد اتفاقهما الدائم على الالتحاق بالقسم العلمي وجدهما قد فاجآه والتحقا بالقسم الأدبي، فوجد "الصغير" نفسه في حيرة شديدة، سرعان ما حُسمت إلى اللحاق بأصدقائه.

إلا أن ذلك لا يعني أنه كان بعيدا عن مجال الأدب، فضلا عن الثقافة العربية؛ فقد نشأ في بيت أشبه بالصالونات الأدبية، فلم يكن والد أمل مدرسًا للعربية فحسب، ولكنه كان أديبًا شاعرًا فقيهًا ومثقفًا جمع من صنوف الكتب الكثير في سائر مجالات المعرفة؛ لذا فقد تفتحت عينا الصغير على أرفف المكتبة المزدحمة بألوان الكتب، وتأمل في طفولته الأولى أباه وهو يقرأ حينا ويكتب الشعر حينا.

لهذا كله ولموهبته الشعرية الباسقة لم يكد أمل ينهي دراسته بالسنة الأولى الثانوية إلا وكان ينظم القصائد الطوال يلقيها في احتفالات المدرسة بالأعياد الوطنية والاجتماعية والدينية.

وهذه المطولات أثارت أحاديث زملائه ومناوشاتهم بل وأحقادهم الصغيرة أحيانا، فبين قائل بأن ما يقوله "أمل" من شعر ليس له، بل هو لشعراء كبار مشهورين استولى على أعمالهم من مكتبة أبيه التي لم يتح مثلها لهم، أما العارفون بـ"أمل" والقريبون منه فيأملون – من فرط حبهم لأمل- أن يكون الشعر لوالد أمل دنقل، عثر عليه في أوراق أبيه ونحله لنفسه شفقة على أمل اليتيم المدلل الذي أفسدته أمه بما زرعته في نفسه من ثقة بالنفس جرأته –في نظرهم- على السرقة من أبيه.

ولما أحسّ أمل من زملائه بالشك؛ تفتق ذهنه عن فكرة مراهقة جريئة وهي وإن كانت لا تتسق مع شخصيته الرقيقة إلا أنها فاصلة.. أطلق موهبته بهجاء مقذع لمن تسول له نفسه أن يشكك في أمل أو يتهمه، ولم يمض كثير حتى استطاع أمل دنقل بموهبته أن يدفع عن نفسه ظنون من حوله. ولما تفرغ أمل من الدفاع عن نفسه داخل المدرسة تاقت نفسه لمعرفة من هو أفضل منه شعرا في محافظته، فلم يسمع بأحد يقول بالشعر في قنا كلها إلا ارتحل له وألقى عليه من شعره ما يثبت تفوقه عليه، وكأنه ينتزع إعجاب الناس منهم أنفسهم.



أحلام وطموحات:


ولما لم يكن هناك من يجده أمل مكافئا تاقت نفسه أن يلتقي بالشعراء الذين يرى أسماءهم على الدواوين الراسخة في مكتبته، وانصرف أمل عن أحلامه الدراسية وطموحاته العلمية إلى شيء آخر هو الشعر.

ومما نُشر لأمل دنقل وهو طالب في الثانوية أبيات شعرية نشرتها مجلة مدرسة قنا الثانوية سنة 1956، وكتب تحتها: الطالب أمل دنقل يقول فيها:


يا معقـلا ذابت على أسـواره كل الجنود
حشـد العـدو جيوشه بالنار والدم والحديد

ظمئ الحديد فراح ينهل من دم الباغي العنيد
قصص البطولة والكفاح عرفتها يا بورسعيد


وفي العدد التالي أفردت المجلة صفحة كاملة لقصيدة بعنوان: "عيد الأمومة"، وكتبت تحت العنوان: للشاعر أمل دنقل، وليس للطالب كسابقتها، جاء فيها:


أريج من الخلد .. عذب عطر
وصوت من القلب فيه الظفر

وعيد لـه يهتف الشـاطئان
وإكليله من عيون الزهر...

ومصر العلا .. أم كل طموح..
إلى المجد شدت رحال السفر

وأمي فلسطين بنت الجـراح
ونبت دماء الشهيد الخضـر

يؤجـج تحنانهـا في القلوب
ضرامًا على ثائرها المستمر

وأمي كل بـلاد.... تثـور
أضالعـها باللظى المستطـر

تمج القيود.... وتبني الخلود
تعيـد الشباب لمجـد غبـر

فإن الدمـاء تزف الدخيـل
إلى القبر.. رغم صروف القدر

وتنسج للشعب نور العـلاء
بحـرية الوطـن المنتصـر


حصل على الثانوية العامة عام 1957، والتحق بكلية الآداب 1958. وقد ساعده ذلك على الإقامة في القاهرة لتتاح له فرصة جديدة ونقلة حقيقية في مجال القصيدة الدنقلية كما يقول عنه "قاسم حداد" في مقاله: "سيف في الصدر" في مجلة "الدوحة" أغسطس 1983: "دون ضجيج جاء إلى الشعر العربي من صعيد مصر، وكتب قصيدته المختلفة، وكسر جدران قلعة القصيد كما لم يعهد الشعر العربي القصائد ولم يعهد الكسور".

وهذه قضية أمل الكبرى التي عاش من أجلها كالمحارب تماما، وهو يعبر عن ذلك حين يقول:


كنت لا أحمل إلا قلما بين ضلوعي
كنت لا أحمل إلا قلمي
في يدي: خمس مرايا
تعكس الضوء الذي يسري من دمي
افتحوا الباب
فما رد الحرس
افتحوا الباب ….. أنا أطلب ظلا
قيل: كلا


وانفجر أمل في الشعر بهدوئه العجيب.. فلم يمكث في القاهرة سوى عام واحد؛ إذ رحل عنها 1959 إلى قنا ثانية حيث عمل موظفا بمحكمة قنا، لكن تهويمات الشعر وخيالاته لم تكن تدع مبدعا كأمل لوظيفة رتيبة مملة.. ترك العمل لانشغاله بالشعر والحياة، واستمر شعره هادفا ثائرا على الواقع، وأحيانا ساخرا منه بأسلوب يحيل هذه السخرية إلى إبداع شعري غاية في الشفافية تطلق في ذهن القارئ العديد من المعاني الشعرية.



أمل الثورة:


ورغم شعارات ثورة يوليو وانجذاب الكثيرين لها؛ حيث كانت الثورة أمل جموع الشعب الكادح، ومنهم أمل دنقل الفقير ابن أقصى الصعيد.. فإن ذلك لم يخدعه كآخرين، حيث كان متنبها لأخطائها وخطاياها؛ فقد سجل رفضها بعين الباحث عن الحرية الحية لا شعارها؛ ففتح نار سخريته عليها، فهو يرفض الحرية المزعومة التي فتحت أبواب السجون على مصراعيها.. يقول أمل:


أبانا الذي في المباحث، نحن رعاياك
باق لك الجبروت، باق لك الملكوت
وباق لمن تحرس الرهبوت
تفرّدت وحدك باليسر
إن اليمين لفي خسر
أما اليسار ففي عسر
إلا الذين يماشون
إلا الذين يعيشون..
يحشون بالصحف المشتراة العيون فيعيشون
إلا الذين يوشُون
إلا الذين يوشون ياقات قمصانهم برباط السكوت
الصمت وشمك..
والصمت وسمك
والصمت أنى التفتّ
يرون ويسمك
والصمت بين خيوط يديك المشبكتين المصمغتين
يلف الفراشة والعنكبوت


لم يستقر أمل دنقل في وظيفة أبدا فها هو يعمل موظفا في مصلحة الجمارك بالسويس ثم الإسكندرية، ويترك الوظيفة، لقد اعتاد أمل دنقل الترحال، وربما ورثها من طفولته حال حياة والده، ولكن انغماسه في الشعر قوّى ذلك في نفسه، وجعله يتحلل من قيود المكان وقيود الوظيفة، فقد ترك دراسته في السنة الأولى الجامعية، وترك عمله بقنا، وها هو يترك السويس إلى الإسكندرية، بل يترك العمل الوظيفي ليعلن لنا بنفسه في أخريات حياته أنه لا يصلح إلا للشعر فيقول: "أنا لم أعرف عملا لي غير الشعر، لم أصلح في وظيفة، لم أنفع في عمل آخر…" توصل أمل دنقل إلى ذلك قبل أفول نجمه بثلاثة أيام فقط.

وفي 1969 يصدر الديوان الأول لأمل دنقل بعنوان: "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" تأثرا بالنكسة، وبعده بعامين ينشر أمل دنقل ديوانه الثاني: "تعليق على ما حدث"، ثم يأتي نصر 1973 وعجب الناس من موقف أمل دنقل؛ إذ هو لم يكتب شعرا يمجد هذا النصر حيث يصدر ديوانه الثالث: "مقتل القمر" 1974 دونما قصيدة واحدة تحدثنا عن النصر، وفي 1975 يصدر ديوانه: "العهد الآتي".



عشق الترحال والحياة:


وفي أحد أيام سنة 1976 يلتقي أمل دنقل بالصحفية "عبلة الرويني" التي كانت تعمل بجريدة "الأخبار" فتنشأ بينهما علاقة إنسانية حميمة، تتوج بالزواج 1978، ولأن "أمل" كان كثير التنقل والترحال فقد اتخذ مقرًا دائما بمقهى "ريش"، وإذا بالصحفية "عبلة الرويني" زوجة الشاعر الذي لا يملك مسكنا، ولا يملك مالا يعدّ به السكن تقبل أن تعيش معه في غرفة بفندق، وتنتقل مع زوجها من فندق لآخر، ومن غرفة مفروشة لأخرى.

ويستمر أمل دنقل يصارع الواقع العربي بإنتاج شعري مميز فيكتب: "لا تصالح"، رافضا فيها كل أصناف المساومات، متخذا من الأسطورة رمزا كما عودنا من ذي قبل، ولكن أمل دنقل كُتب عليه صراع الواقع العربي الذي ما برح يكتب فيه حتى واجه بنفس قوية وإرادة عالية صراعه مع المرض، ودخل أمل المستشفى للعلاج، وكان لا يملك مالا للعلاج الباهظ الذي يحتاجه في مرضه.

وبدأت حملة لعون الشاعر من قبل الأصدقاء والمعجبين، وكان أولهم "يوسف إدريس" -أديب مصري- الذي طالب الدولة بعلاج أمل على نفقتها.

وطلب أمل من أصدقائه التوقف عن حملة المساعدة. كان أمل لا يريد أن ينشغل أحد بمرضه، وظل أمل دنقل يكتب الشعر في مرقده بالمستشفى على علب الثقاب وهوامش الجرائد.. ولم يهمل الشعر لحظة حتى آخر أيامه، حتى إنه يتم ديوانا كاملا باسم: "أوراق الغرفة 8".

يموت الألم في أمل دنقل مع صعود روحه لبارئها، لكنه يترك تاريخا مضيئا بالشعر وآرائه السياسية التي كانت تصدر عنه بروح القادر ونفس الحر دون أن ينجرف إلى تيار معين يفسد عليه انتماءه للشعر.. ودون أن يترك حدثا بلا قول وخطر، بل وسخرية موجهة.


صورةصورة صورة
صورةصورةصورةصورةصورة
عذرا الى النادي العريق ابثه زفرات وجد قد ثوى بفؤادي
ياويح قلب وزعت أشواقه بين الحبيب وبين هذا النادي

مجدي خاشقجي

العودة إلى “المقالات والشعر العامِّي”

الموجودون الآن

المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 56 زائراً