مرسل: 09-16-2001 02:33 PM
<center><FONT size='4'><FONT face='Arial'><FONT COLOR='indigo'>
ولد نيتشه في رويكن في مقاطعة ساكسوني عام 1844 وكان والده قسا بروتستانتيا، وترينا الوثائق التي طبعت في الايام الاخيره ان نيتشه كان في طفولته متدينا جدا، وانه فكر في اثناء فترة مراهقته ان يدخل الدير، وسنحاول ان نبين ان كل ما قام به في حياته - لتجريد كل القيم من قيمها - انما كان بسبب الدوافع الدينية التي دفعته الى ذلك. كما ان هجومه الاخير على المسيحية انبعث من شعوره بان المسيحية ليست متدينة بما يكفي، الا انه لم يكن مثل كيركفارد الذي فعل الشيء ذاته، ذلك لانه لم يدافع عن فكرة المسيحية. لقد ذهب نيتشه في كرهه لها الى حد انه فضح اخطاءها وقال ان هذه الاخطاء جوهرية فيها، ولذلك فانها، اي المسيحية، تستحق النبذ شكلا ومضمونا. غير ان نيتشه بشر بآرائه هذه بحماس النبي، ولا يمكن ان يكون النبي انسانا غير متدين. لقد صرح نيتشه ان المسيحيين عموما غشاشون من الناحية العقلية، منحطون من الناحية الخلقية، وان ذلك راجع الى ما يعتقده الفرد المسيحي. ويقدم نيتشه نظاما آخر في الايمان، وعلينا ان نختبرهذا النظام عندما يحين الوقت. الا ان الشيء المهم الآن هو انه بدأ مسيحيا شديد الحماسه، ذلك لانه كتب حين كان في الحادية والعشرين من عمره، منكرا وجود الله انكارا شديدا، كتب الى صديقه فون كيرزدور يقول:
" اذا كانت المسيحية تعني الاعتقاد بشخص أو حادثة تاريخيه، فانها لا تفيدني بشيء، اما اذا كانت تعني بالحاجة الى الخلاص ، فلن استطيع ان اثق بها .. "
كان رفاقه يطلقون عليه اسم " القس الصغير "، الا ان مفهومه للدين كان مطاطيا دائما، ويروى عنه انه بنى هو وشقيقته في احد الايام مذبحا على بقعه كان قد بنى عليها في زمن ما مذبح وثني لتضحيات، وثم طفق يدور هو وشقيقته حول المذبح وسط الدخان المتصاعد.
وفي الرابعة عشرة من عمره ارسل نيتشه الى مدرسة فورتا الشهيره وهناك تعلم ان كل انسان قوي وبطل الا ان القصور الذاتي " الاستمرارية الذاتية" هو الذي يجعله متوسطا معتدلا، وقد أثر ذلك في نفسه أشد التأثر، كما تعلم "الاعتماد على النفس"، و "روح الله الشاملة للكون"، الضبط الذاتي وعدم الاكتراث للذهة والألم اللذين لم يفارقاه حتى النهاية، وقد حدث مرة ان بعض رفاقه كانوا يتناقشون بشأن مرسيوس سكايفولا
((في الأساطير اليونانية، رجل حكم عليه بالحرق إلا انه أشعل إحدى يديه ليظهر عدم اكتراثه للحكم، فعفي عنه من أجل شجاعته، وقد دعي بهذا الاسم الذي يعني "الأيسر" نسبة لفقدانه يده اليمنى في تلك الحادثة))
وإذا بنيتشه يضع على راحة يده كومة من عيدان الثقاب المشتعله ليثبت للمتناقشين ان ذلك شيء يمكن ان يفعله الانسان. وبينما كانت تعاليم لوثر تحشى في ذهنه، كانت تأثيرات جديدة أخرى تأخذ طريقها الى أعماقه .. واشترى نيتشه نسخة من موسيقى فاغنر وحفظها عن ظهر قلب، وشارك في تأسيس جمعيةمن المفكرين دعيت " جرمانيا " وكتب مقالات عديده لمجلة هذه الجمعية، ومن بينها مقالة "القدر والتاريخ" التي قال فيها: " ستحدث اضطرابات واسعة في المستقبل، حالما يدرك الناس ان المسيحية لا تستند الا على الفرضيات .. لقد حاولت ان أنكر كل شيء .. "
وفي هذه الفترة تحولت النزعة الدينية الموجودة في أعماقه "كما يقول هو" الى :"رغبة في الحقيقه مهما كلف الأمر، وجنون كذلك الذي يبيديه الشباب في حبهم للحق والصدق". ونستطيع ان نفهم من اقواله هذه انه وجد نفسه قريبا جدا من حالة وليم جيمس التي تتصف بالرعب الخلقي، والنفي التام، والشعور بما يشبه شعور من ينظر الى أعماق هوة سحيقه. وهنا نحتاج الى اقتطاف بعض العبارات التي نقلها جيمس عن الفيلسوف الفرنسي جوفري لتدلنا دلالة كبيرة على ما كان يجري في ذهن نيتشه في تلك المرحله، ونجد أن جوفري يوضح هنا الطريقه التي يستطيع العقل الباحث بواسطتها ان يستأصل كل الذكريات والانفعالات التي تلوح عديمة الاساس حتى يصبح فراغا هائلا يفزع الروح الانسانية. يقول جوفروي:
" لن انسى ما حييت تلك الليلة من ليالي ايلول التي تمزق فيها القناع الذي كان يفصل بيني وبين عدم ثقتي. انني ما زلت اسمع خطواتي في تلك الغرفة الضيقة العارية التي كنت معتادا على التمشي فيها بعد ان يكون الناس قد ناموا .. لقد تتبعت افكاري بلهفة وهي تهبط طبقة طبقة لتوطد ادراكي مبددة كل الضلالات التي كانت قبل ذلك تمنعني من رؤيتها، وموضحة نفسها شيئا فشيئا.
لقد تعلقت بتلك المعتقدات بلا جدوى تعلق الملاح بحطام سفيتنه الغارقة، وكنت خائفا من الفراغ المجهول الذي كنت احس بأنني سأطفو فيه بين لحظة واخرى. لقد رجعت بتلك المشاعر الى طفولتي، وعائلتي ، وبلادي: وكل تلك الاشياء عزيزة علي، الا ان تيار الفكر كان اقوى منها جميعا فاطرني الى تركها كلها ثم بدأ يزداد صعوبة كلما اقتربنا من النهاية التي لم يتوقف ذلك التيار الا وقد أوصلني اليها. وعلمت بعد انه لم يبق في اعماق ذهني شيء قط، وكانت تلك اللحظة مخيفة مفزعة، ولم االقيت بجسمي المتعب عىل فراشي في الفجر، شعرت بحياتي الساقبة الباسمة المليئة تلتهب فجأة ، وبحياتي الجديدة تبدأ، كئيبة لا بشر فيها، فلم يبق لي ان اعيش وحيدا في المستقبل، وحيدا مع فكري القاتل الذي نفاني اليها، هذا الفكر الذي ميل الان الى صب اللعنات عليه، وكانت الايام الاولى التي تبعث ذلك اشد ايامي كآبة"
ليست مثل هذه التجربة غريبة على المفكرين، لقد جرب نيتشه هذه الحالة ايضا، وتدلنا بعض كتبه على ذلك دلالة غامضة، يتحدث فيها عن "الألم .. الذي يضطرنا نحن الفلاسفة الى الهبوط الى اعماقنا مجردين انفسنا من كل تلك الطبيعة الخيرة التي كنا من قبل قد اسلمناها انسانيتنا. انني اشك في ان مثل هذا الالم يستطيع ان يوصلنا الى أحسن مما نحن عليه الآن، الا انني مع ذلك احس بأنه يزيدنا عمقا" وقد اعتاد نيتشه على الوحده واعتبرها جزءا من مصير العبقري، وقد اقنعه بذلك بطله شوبنهاور في النهاية الا انه لم يثر ضد مصير الوحده هذا.
قرأ نيتشه أعمال شوبنهاور في جامعة لايبزك في عام 1865، وكان شوبنهاور قد قال لاحد اصدقائه وهو لم يبلغ العشرين بعد:" الحياة محزنة جدا، ولهذا قررت ان انفقها بالتأمل فيها" ولدينا وصف لحالة نيتشه حين قرأت أعمال هذا "الفيلسوف الكئيب" لاول مرة:
" ان الامزجة المريضة والمضايقات ذات الطابع الشخصي تتصف بمزة عامة لذي الشباب الذين يتوفر فيهم شيء من السوداوية، كنت في ذلك الوقت شديد القلق كئيبا بسبب بعض التجارب المؤلمة، خائبا تعسا، لا امل لدي ولا معتقدات جوهرية، وكنت اشعر بشيء من الراحة حين الجأ الى غرفتي وأغلق علي بابها. وفي ذات يوم مررت بدكان رون للكتب المستعملة فوجدت هذا الكتاب معروضا بين الكتب، فالتقطته وقلبت صفحاته، وشعرت بقوة خفية تهمس لي: خذ هذا الكتاب معك، ففعلت، وعدت الى البيت واستلقيت على المقعد الطويل وتركت تلك العبقرية الغلابة الكئيبة تأخذ طريقها الي. لقد وجدت هنا، في هذا الانكار والنفي والتقاعس التي يحفل بها كل سطر، مرآة رأيت فيها لعالم والحياة وروحي أنا غارقة في عظمة مخيفه، وشعرت بأن عين الفن المفتوحة الثابتة تحملق في، ووجدت هنا أيضا المرض والشقاء ، والنبذ والاستقرار، والفردوس والجحيم. لقد شعرت بالحاجة الى ان اعرف نفسي، الى ان أقضم نفسي قضما، تلح علي الحاحا شديدا .. تبقى بعد ذلك لصفحات مذكراتي التي كتبتها في تلك الايام، تلك الصفحات السوداوية القلقة المتطلعة الى الاعالي بيأس شديد، طامحة الى اعادة بناء جوهر الانسان في شكل جديد، ولم يقتصر الامر على روحي وانما كان جسدي ايضا يعاني مما فرضه علي ذلك، اذ انني قررت ان اذهب الى الفراش في الثانية بعد منتصف الليل، وانهض في السادسة صباحا، واستمر ذلك اربعة عشر يوما احسست فيها بانهاك عصبي كبير "
لقد رأينا اذن، ان اليقظة الذهنية تكون دائما مصحوبة بالالم الجسدي. الا ان تغير طريقه نيتشه في النظر الى نفسه تعتبر أهم من حالة لورنس بمراحل. لقد كان شقيا مكتئبا يعشر بشعور السجين، السجين في ذهنه وجسده، ولذلك فان حماسة الاول في دراسة الفلسفة الاغريقية لم يتح له المرآة التي يرى فيها وجهه هو، الامر الذي فعلته قراءته لفلسفة شوبنهاور، لانها اكدت على ما كان يعشر به نحو طبيعة العالم ومكانه فيه. لقد وهبه شوبنهاور انفصاله عن نفسه، ذلك الانفصال الذي يعتبر الخطوة الاولى نحو المعرفة الذاتية.
هنالك تجربتان في حياة نيتشه تعتبران مفتاح شخصيته كما تعتبر الفترة التي مد فيها فان وخ يده الى لهب الشمعة مفتاحاة لشخصيته خلالها، وسنلجأ في ذلك الى اقتطاف شيء عن هاتي التجربتين بالرغم من وجود سنوات عديدة بينهما. اما الاولى فتخبرنا بها رسالته الى فون كيرزدورف في عام 1865:
" بالأمس كانت هنالك عاصفة عنيفة تهدد بالهبوب ، فاسرعت الى تل قريب يدعى لوتش، وجدت في اعلاه كوخا صغيرا، ورجلا يذبح عنزتين صغيرتين، في حين كان ابنه يتفرج على ما كان يجري، وفي تلك الاثناء انقضت العاصفة علينا بالرعد والمطر، فشعرت بشعور لا يوصف من القوة والحيوية .... ان البرق والعصف عالمان مختلفان، قوى حرة، لا خلق يقيدها، الارادة النقية التي لا ترتكها الاضطرابات الذهنية - يا للسعادة، يا للحرية"
تلوح هذه التجربة بسيطة جدا، الا ان تأثيرها على افكاره كان بعيدا جدا، كان متوقعا ان يكدره منظر الدم، اما الان فقد امتزجت غبطته بسبب العاصفة مع رائحة الدم ووميض السكين، والصبي المأخوذ بالمتطلع، وكانت النتيجة ادراكه البدي للإراده الحرة من معاضل عقله وخبرته. كانت تلك البداهة اطلاقا له م قيد " طبيعته التي يحيرها فكره" التي كانت مصدر المتاعب بالنسبة له.
أما التجربة الثانية فقد حدثت بعد مضي سنواتعديدة على التجربة الاولى، وكان ذلك خلال الحرب الفرنسية - البروسية، حين كان نيتشه جنديا صحيا في احدى فرق الاسعاف، وقد روى ذلك لشقيقته حين سألته يوما عن اصل فكرة ارادة القوة.
كان نيتشه قد قضى اسابيع طويله معالجا الجرحى في ساحات المعارك حتى جعلت مناظر الدم والاعضاء المتقفنة رعبه يصل الى حد تخدر الاحساس به، وفي ذات يوم دخل نيتشه احدى المدن الصغيره قرب ستراسبورك بعد نهار حافل قضاه بين الجرحى وكان يسير على قدميه وحيدا بلا رفيق. وفي تلك الاثناء سمع وقع حوافر جياد، فابتعد عن الطريق ووقف قرب لجدار منتظرا مرور الفرقة. ومرت الفرقة بفرسانها ومشاتها، وكانت فرقته القديمة. وبينما كان يراقب الجنود وهم يمرون امامه في طريقهم الى ساحة المعركةوربما الى الموت باغتته الفكرة واقتنع بأ، "اقوى وأسمى ارادة في الحياة لا تتمثل فقي الكفاح التافه من اجل الحياة، وانما في ارادة الحرب، ارادة السيطرة ... "
علينا ان نتفحص هاتين التجربتين بعناية وبلا تحامل، واننا لنجد فيهما شيئا من "ميزات التصوف"، وقد كان نيتشه سجين "طبيعته التي تحيرها أفكاره"، في حين تشير هاتان التجربتان الى غبطة بالحياة، ونجد ذلك لدى بليك في قوله: الحيويه هي الغبطة الخالدة. ان العبارات "قوى حرة لا خلق يقيدها" و "الارادة الحرة" يمكن ان تعتبر أساس فلفة نيتشه، وهي ليست غير ذكريات تلميذ معتل الصحة رأى رؤيا تمثل الحصة الكاملة، فتحرر من حدوده الجسدية ومن سخافة الشخصية والفكر. كان تلك أعمق معارف نيتشه، وقد بينها في الصفحات الاولى من كتبه " مولد المأساة" الذي ككتبه حي كان استاذا شابا في جامعة بازل.
"الذهول السعيد الذي ينبثق من اعماق الانسان، اي من اعماق الطبيعة، لحظة ذوبان الشخصية الفردية وانحلالها، والذي يجعلنا نحصل على شيء من الادراك
.
.
.
.
- الكاتب الانجليزي: كولين ويلسن -
</FONT c></FONT f></FONT s></center>
ولد نيتشه في رويكن في مقاطعة ساكسوني عام 1844 وكان والده قسا بروتستانتيا، وترينا الوثائق التي طبعت في الايام الاخيره ان نيتشه كان في طفولته متدينا جدا، وانه فكر في اثناء فترة مراهقته ان يدخل الدير، وسنحاول ان نبين ان كل ما قام به في حياته - لتجريد كل القيم من قيمها - انما كان بسبب الدوافع الدينية التي دفعته الى ذلك. كما ان هجومه الاخير على المسيحية انبعث من شعوره بان المسيحية ليست متدينة بما يكفي، الا انه لم يكن مثل كيركفارد الذي فعل الشيء ذاته، ذلك لانه لم يدافع عن فكرة المسيحية. لقد ذهب نيتشه في كرهه لها الى حد انه فضح اخطاءها وقال ان هذه الاخطاء جوهرية فيها، ولذلك فانها، اي المسيحية، تستحق النبذ شكلا ومضمونا. غير ان نيتشه بشر بآرائه هذه بحماس النبي، ولا يمكن ان يكون النبي انسانا غير متدين. لقد صرح نيتشه ان المسيحيين عموما غشاشون من الناحية العقلية، منحطون من الناحية الخلقية، وان ذلك راجع الى ما يعتقده الفرد المسيحي. ويقدم نيتشه نظاما آخر في الايمان، وعلينا ان نختبرهذا النظام عندما يحين الوقت. الا ان الشيء المهم الآن هو انه بدأ مسيحيا شديد الحماسه، ذلك لانه كتب حين كان في الحادية والعشرين من عمره، منكرا وجود الله انكارا شديدا، كتب الى صديقه فون كيرزدور يقول:
" اذا كانت المسيحية تعني الاعتقاد بشخص أو حادثة تاريخيه، فانها لا تفيدني بشيء، اما اذا كانت تعني بالحاجة الى الخلاص ، فلن استطيع ان اثق بها .. "
كان رفاقه يطلقون عليه اسم " القس الصغير "، الا ان مفهومه للدين كان مطاطيا دائما، ويروى عنه انه بنى هو وشقيقته في احد الايام مذبحا على بقعه كان قد بنى عليها في زمن ما مذبح وثني لتضحيات، وثم طفق يدور هو وشقيقته حول المذبح وسط الدخان المتصاعد.
وفي الرابعة عشرة من عمره ارسل نيتشه الى مدرسة فورتا الشهيره وهناك تعلم ان كل انسان قوي وبطل الا ان القصور الذاتي " الاستمرارية الذاتية" هو الذي يجعله متوسطا معتدلا، وقد أثر ذلك في نفسه أشد التأثر، كما تعلم "الاعتماد على النفس"، و "روح الله الشاملة للكون"، الضبط الذاتي وعدم الاكتراث للذهة والألم اللذين لم يفارقاه حتى النهاية، وقد حدث مرة ان بعض رفاقه كانوا يتناقشون بشأن مرسيوس سكايفولا
((في الأساطير اليونانية، رجل حكم عليه بالحرق إلا انه أشعل إحدى يديه ليظهر عدم اكتراثه للحكم، فعفي عنه من أجل شجاعته، وقد دعي بهذا الاسم الذي يعني "الأيسر" نسبة لفقدانه يده اليمنى في تلك الحادثة))
وإذا بنيتشه يضع على راحة يده كومة من عيدان الثقاب المشتعله ليثبت للمتناقشين ان ذلك شيء يمكن ان يفعله الانسان. وبينما كانت تعاليم لوثر تحشى في ذهنه، كانت تأثيرات جديدة أخرى تأخذ طريقها الى أعماقه .. واشترى نيتشه نسخة من موسيقى فاغنر وحفظها عن ظهر قلب، وشارك في تأسيس جمعيةمن المفكرين دعيت " جرمانيا " وكتب مقالات عديده لمجلة هذه الجمعية، ومن بينها مقالة "القدر والتاريخ" التي قال فيها: " ستحدث اضطرابات واسعة في المستقبل، حالما يدرك الناس ان المسيحية لا تستند الا على الفرضيات .. لقد حاولت ان أنكر كل شيء .. "
وفي هذه الفترة تحولت النزعة الدينية الموجودة في أعماقه "كما يقول هو" الى :"رغبة في الحقيقه مهما كلف الأمر، وجنون كذلك الذي يبيديه الشباب في حبهم للحق والصدق". ونستطيع ان نفهم من اقواله هذه انه وجد نفسه قريبا جدا من حالة وليم جيمس التي تتصف بالرعب الخلقي، والنفي التام، والشعور بما يشبه شعور من ينظر الى أعماق هوة سحيقه. وهنا نحتاج الى اقتطاف بعض العبارات التي نقلها جيمس عن الفيلسوف الفرنسي جوفري لتدلنا دلالة كبيرة على ما كان يجري في ذهن نيتشه في تلك المرحله، ونجد أن جوفري يوضح هنا الطريقه التي يستطيع العقل الباحث بواسطتها ان يستأصل كل الذكريات والانفعالات التي تلوح عديمة الاساس حتى يصبح فراغا هائلا يفزع الروح الانسانية. يقول جوفروي:
" لن انسى ما حييت تلك الليلة من ليالي ايلول التي تمزق فيها القناع الذي كان يفصل بيني وبين عدم ثقتي. انني ما زلت اسمع خطواتي في تلك الغرفة الضيقة العارية التي كنت معتادا على التمشي فيها بعد ان يكون الناس قد ناموا .. لقد تتبعت افكاري بلهفة وهي تهبط طبقة طبقة لتوطد ادراكي مبددة كل الضلالات التي كانت قبل ذلك تمنعني من رؤيتها، وموضحة نفسها شيئا فشيئا.
لقد تعلقت بتلك المعتقدات بلا جدوى تعلق الملاح بحطام سفيتنه الغارقة، وكنت خائفا من الفراغ المجهول الذي كنت احس بأنني سأطفو فيه بين لحظة واخرى. لقد رجعت بتلك المشاعر الى طفولتي، وعائلتي ، وبلادي: وكل تلك الاشياء عزيزة علي، الا ان تيار الفكر كان اقوى منها جميعا فاطرني الى تركها كلها ثم بدأ يزداد صعوبة كلما اقتربنا من النهاية التي لم يتوقف ذلك التيار الا وقد أوصلني اليها. وعلمت بعد انه لم يبق في اعماق ذهني شيء قط، وكانت تلك اللحظة مخيفة مفزعة، ولم االقيت بجسمي المتعب عىل فراشي في الفجر، شعرت بحياتي الساقبة الباسمة المليئة تلتهب فجأة ، وبحياتي الجديدة تبدأ، كئيبة لا بشر فيها، فلم يبق لي ان اعيش وحيدا في المستقبل، وحيدا مع فكري القاتل الذي نفاني اليها، هذا الفكر الذي ميل الان الى صب اللعنات عليه، وكانت الايام الاولى التي تبعث ذلك اشد ايامي كآبة"
ليست مثل هذه التجربة غريبة على المفكرين، لقد جرب نيتشه هذه الحالة ايضا، وتدلنا بعض كتبه على ذلك دلالة غامضة، يتحدث فيها عن "الألم .. الذي يضطرنا نحن الفلاسفة الى الهبوط الى اعماقنا مجردين انفسنا من كل تلك الطبيعة الخيرة التي كنا من قبل قد اسلمناها انسانيتنا. انني اشك في ان مثل هذا الالم يستطيع ان يوصلنا الى أحسن مما نحن عليه الآن، الا انني مع ذلك احس بأنه يزيدنا عمقا" وقد اعتاد نيتشه على الوحده واعتبرها جزءا من مصير العبقري، وقد اقنعه بذلك بطله شوبنهاور في النهاية الا انه لم يثر ضد مصير الوحده هذا.
قرأ نيتشه أعمال شوبنهاور في جامعة لايبزك في عام 1865، وكان شوبنهاور قد قال لاحد اصدقائه وهو لم يبلغ العشرين بعد:" الحياة محزنة جدا، ولهذا قررت ان انفقها بالتأمل فيها" ولدينا وصف لحالة نيتشه حين قرأت أعمال هذا "الفيلسوف الكئيب" لاول مرة:
" ان الامزجة المريضة والمضايقات ذات الطابع الشخصي تتصف بمزة عامة لذي الشباب الذين يتوفر فيهم شيء من السوداوية، كنت في ذلك الوقت شديد القلق كئيبا بسبب بعض التجارب المؤلمة، خائبا تعسا، لا امل لدي ولا معتقدات جوهرية، وكنت اشعر بشيء من الراحة حين الجأ الى غرفتي وأغلق علي بابها. وفي ذات يوم مررت بدكان رون للكتب المستعملة فوجدت هذا الكتاب معروضا بين الكتب، فالتقطته وقلبت صفحاته، وشعرت بقوة خفية تهمس لي: خذ هذا الكتاب معك، ففعلت، وعدت الى البيت واستلقيت على المقعد الطويل وتركت تلك العبقرية الغلابة الكئيبة تأخذ طريقها الي. لقد وجدت هنا، في هذا الانكار والنفي والتقاعس التي يحفل بها كل سطر، مرآة رأيت فيها لعالم والحياة وروحي أنا غارقة في عظمة مخيفه، وشعرت بأن عين الفن المفتوحة الثابتة تحملق في، ووجدت هنا أيضا المرض والشقاء ، والنبذ والاستقرار، والفردوس والجحيم. لقد شعرت بالحاجة الى ان اعرف نفسي، الى ان أقضم نفسي قضما، تلح علي الحاحا شديدا .. تبقى بعد ذلك لصفحات مذكراتي التي كتبتها في تلك الايام، تلك الصفحات السوداوية القلقة المتطلعة الى الاعالي بيأس شديد، طامحة الى اعادة بناء جوهر الانسان في شكل جديد، ولم يقتصر الامر على روحي وانما كان جسدي ايضا يعاني مما فرضه علي ذلك، اذ انني قررت ان اذهب الى الفراش في الثانية بعد منتصف الليل، وانهض في السادسة صباحا، واستمر ذلك اربعة عشر يوما احسست فيها بانهاك عصبي كبير "
لقد رأينا اذن، ان اليقظة الذهنية تكون دائما مصحوبة بالالم الجسدي. الا ان تغير طريقه نيتشه في النظر الى نفسه تعتبر أهم من حالة لورنس بمراحل. لقد كان شقيا مكتئبا يعشر بشعور السجين، السجين في ذهنه وجسده، ولذلك فان حماسة الاول في دراسة الفلسفة الاغريقية لم يتح له المرآة التي يرى فيها وجهه هو، الامر الذي فعلته قراءته لفلسفة شوبنهاور، لانها اكدت على ما كان يعشر به نحو طبيعة العالم ومكانه فيه. لقد وهبه شوبنهاور انفصاله عن نفسه، ذلك الانفصال الذي يعتبر الخطوة الاولى نحو المعرفة الذاتية.
هنالك تجربتان في حياة نيتشه تعتبران مفتاح شخصيته كما تعتبر الفترة التي مد فيها فان وخ يده الى لهب الشمعة مفتاحاة لشخصيته خلالها، وسنلجأ في ذلك الى اقتطاف شيء عن هاتي التجربتين بالرغم من وجود سنوات عديدة بينهما. اما الاولى فتخبرنا بها رسالته الى فون كيرزدورف في عام 1865:
" بالأمس كانت هنالك عاصفة عنيفة تهدد بالهبوب ، فاسرعت الى تل قريب يدعى لوتش، وجدت في اعلاه كوخا صغيرا، ورجلا يذبح عنزتين صغيرتين، في حين كان ابنه يتفرج على ما كان يجري، وفي تلك الاثناء انقضت العاصفة علينا بالرعد والمطر، فشعرت بشعور لا يوصف من القوة والحيوية .... ان البرق والعصف عالمان مختلفان، قوى حرة، لا خلق يقيدها، الارادة النقية التي لا ترتكها الاضطرابات الذهنية - يا للسعادة، يا للحرية"
تلوح هذه التجربة بسيطة جدا، الا ان تأثيرها على افكاره كان بعيدا جدا، كان متوقعا ان يكدره منظر الدم، اما الان فقد امتزجت غبطته بسبب العاصفة مع رائحة الدم ووميض السكين، والصبي المأخوذ بالمتطلع، وكانت النتيجة ادراكه البدي للإراده الحرة من معاضل عقله وخبرته. كانت تلك البداهة اطلاقا له م قيد " طبيعته التي يحيرها فكره" التي كانت مصدر المتاعب بالنسبة له.
أما التجربة الثانية فقد حدثت بعد مضي سنواتعديدة على التجربة الاولى، وكان ذلك خلال الحرب الفرنسية - البروسية، حين كان نيتشه جنديا صحيا في احدى فرق الاسعاف، وقد روى ذلك لشقيقته حين سألته يوما عن اصل فكرة ارادة القوة.
كان نيتشه قد قضى اسابيع طويله معالجا الجرحى في ساحات المعارك حتى جعلت مناظر الدم والاعضاء المتقفنة رعبه يصل الى حد تخدر الاحساس به، وفي ذات يوم دخل نيتشه احدى المدن الصغيره قرب ستراسبورك بعد نهار حافل قضاه بين الجرحى وكان يسير على قدميه وحيدا بلا رفيق. وفي تلك الاثناء سمع وقع حوافر جياد، فابتعد عن الطريق ووقف قرب لجدار منتظرا مرور الفرقة. ومرت الفرقة بفرسانها ومشاتها، وكانت فرقته القديمة. وبينما كان يراقب الجنود وهم يمرون امامه في طريقهم الى ساحة المعركةوربما الى الموت باغتته الفكرة واقتنع بأ، "اقوى وأسمى ارادة في الحياة لا تتمثل فقي الكفاح التافه من اجل الحياة، وانما في ارادة الحرب، ارادة السيطرة ... "
علينا ان نتفحص هاتين التجربتين بعناية وبلا تحامل، واننا لنجد فيهما شيئا من "ميزات التصوف"، وقد كان نيتشه سجين "طبيعته التي تحيرها أفكاره"، في حين تشير هاتان التجربتان الى غبطة بالحياة، ونجد ذلك لدى بليك في قوله: الحيويه هي الغبطة الخالدة. ان العبارات "قوى حرة لا خلق يقيدها" و "الارادة الحرة" يمكن ان تعتبر أساس فلفة نيتشه، وهي ليست غير ذكريات تلميذ معتل الصحة رأى رؤيا تمثل الحصة الكاملة، فتحرر من حدوده الجسدية ومن سخافة الشخصية والفكر. كان تلك أعمق معارف نيتشه، وقد بينها في الصفحات الاولى من كتبه " مولد المأساة" الذي ككتبه حي كان استاذا شابا في جامعة بازل.
"الذهول السعيد الذي ينبثق من اعماق الانسان، اي من اعماق الطبيعة، لحظة ذوبان الشخصية الفردية وانحلالها، والذي يجعلنا نحصل على شيء من الادراك
.
.
.
.
- الكاتب الانجليزي: كولين ويلسن -
</FONT c></FONT f></FONT s></center>