منـــــازل الشعـــــر
(31) علم العروض
يحيى توفيق حسن
جريدة الجزيرة، العدد:10150
جاء في التوشيح الوافي والترشيح الشافي في شرح التأليف الكافي في علمي العروض والقوافي لابن حجر العسقلاني عن الحسين بن يزيد انه قال: سألت الخليل عن علم العروض فقلت: هل عرفت له أصلاً؟ قال: نعم، مررت بالمدينة حاجاً فبينما أنا في بعض مسالكها إذ نظرت لشيخ على باب دار وهو يعلم غلاماً وهو يقول له:
نعم لا، نعم لالا، نعم لا، نعم للا
نعم لا، نعم لالا، نعم لا، نعم للا
فدنوت منه وسلمت عليه وقلت له أيها الشيخ ما الذي تقوله لهذا الصبي؟ فقال هذا علم يتوارثه هؤلاء عن سلفهم وهو عندهم يسمى التنعيم، فقلت: لم سموه بذلك؟ قال: لقولهم نعم نعم قال الخليل فقضيت الحج ثم رجعت فأحكمته .
وفي بغية المستفيد من العروض الجديد للأستاذ إبراهيم علي أبو الخشب ما نصه: فيما يروى عن الخليل نفسه أنه كان بالصحراء فرأى رجلاً قد أجلس ابنه بين يديه وأخذ يردد على سمعه نعم لا، نعم لا لا، نعم لا، نعم لا لا مرتين فسأله عن هذا فقال إنه التنغيم بالغين المعجمة نعلمه لصبياننا .
وهذا الوزن هو ميزان بحر الطويل، كما وصفه الخليل في عروض الشعر
فعولن، مفاعيلن، فعولن، مفاعيلن .
نعم لا، نعم لا لا، نعم لا، نعم لا لا
وأياً ما كان الأمر فإن الثابت هو أن الخليل ابن أحمد أراد أن يبتدع ويؤسس أوزاناً للشعر العربي خشية من تخبط الناس بعد اختلاط جنسيات أخرى غير عربية تماماً كما خشى أبو الأسود الدؤلي على النحو والصرف الذي لم يكن علماً بل كان فطرة لدى البدو الرحل يتوارثونه بطبعهم وفطرتهم في صحرائهم قبل أن تدخل عليهم عوامل التحضر والاختلاط بأجناس وملل شتى من الأعاجم الذين أثروا في العربية تأثيراً سلبياً أدى إلى ضياع كثير من أصولها وقواعدها الثابتة، لولا أن تداركها الإمام علي كرم الله وجهه فوضع علم النحو والصرف وسن للناس علماً يتبعونه إذا اختلفوا في أمر من أمور النحو والصرف,, فأراد الخليل أن يسن للناس علماً اقتبسه من أوزان أشعار العرب السائدة منذ عهد الجاهلية الأولى ليكون مرجعاً للناس اذا عرض لهم عارض أو اختلفوا في وزن بيت من الشعر بحيث يعرضونه على هذه الأوزان فما شذ عنها فهو دخيل لا علاقة له بأشعار العرب وموسيقى شعرهم ولهذا في الغالب سماها العروض بفتح العين وهي مؤنثة, وقد قيل كثير من التصورات والأفكار والآراء حول سبب هذه التسمية ولكن ما ذكرته هو أنسب وأقرب إلى المنطق في هذه التسمية, والتفعيلات في الأصل هي ثماني تفعيلات، فعولن، مفاعيلن، فاعلاتن، فاعلن، مستفعلن، متفاعلن، مفعولات, وقد أضاف إليها العروضيون فاع لاتن، مستسفع لن وهاتان التفعيلتان هما ذاتا التفعيلتين المذكورتين ضمن الثماني تفعيلات الأولى لولا أنهم أعادوا صياغة أسبابها وأوتادها فكل التفعيلات تتألف من أسباب وأوتاد وفواصل، فالسبب نوعان خفيف يتألف من حرفين الأول متحرك والثاني ساكن مثل من، كن، لو والسبب الثقيل وهو أيضاً حرفان ولكن متحركان مثل لك، بك وأما الاوتاد فهي ثلاثة حروف متحركان بعدهما ساكن مثل نعم، مضى، جرى وهو الوتد المجموع وهناك الوتد المفروق، وهو أيضاً ثلاثة حروف متحركان بينهما ساكن مثل قال، عيل، زيد والفاصلة أيضاً نوعان الصغرى وهي ثلاثة حروف متحركة يليها ساكن مثل ضربوا، أكلوا، رطباً، عنباً والفاصلة الكبرى هي أربعة حروف متحركة يليها حرف ساكن مثل نُزُلنا، مَلِكَنا وقد جمعها أهل العروض في هذه العبارة لم أر، على ظهر، جبلن، سمكتن .
وأجاز في هذه التفعيلات بعض التغييرات في حركات حروفها في أسبابها وأوتادها، سماها الزحاف والعلة , فالزحاف وهو يأتي عادة في حشو البيت تغيير حركة ثواني الأسباب التي تتألف منها أجزاء التفعيلة وقسَّمه إلى نوعين زحاف مفرد وزحاف مركب، فالزحاف المفرد ابتدع له أسماء لتمييزه وهي:
1 الأضمار: وهو إسكان ثاني التفعيلة اذا كان متحركاً وثاني السبب فيها ويدخل على متفاعلن فتصبح مستفعلن .
2 الخبن: حذف الثاني متى كان ساكناً وثاني سبب.
3 الطي: حذف رابع التفعيلة متى كان ساكناً وثاني سبب.
4 الوقص: حذف ثاني التفعيلة متى كان متحركاً وثاني سبب.
5 العصب: إسكان خامس التفعيلة متى كان متحركاً كما في مفاعلتن، فتسكن اللام فيها لأنها في الأصل متحركة.
6 القبض: حذف خامس التفعيلة متى كان ساكناً مثل فعولن تصبح فعول .
7 العقل: حذف خامس التفعيلة متى كان متحركاً وثاني سبب مثل مفاعلتن تصبح مفاعلن .
8 الكف: حذف سابع التفعيلة متى كان ساكناً وثاني سبب.
أما الزحاف المركب فهو:
1 الخبل: وهو جمع الخبن والطي في مستفعلن ومفعولات .
2 الخزل: وهو جمع الاضمار والطي في متفاعلن .
3 الشكل: وهو جمع الخبن والكف في فاعلاتن ومستفعلن .
4 النقص: وهو جمع العصب والكف في مفاعلتن .
وأما العلل فهي تغيير يحدث فقط في العروض وهو آخر تفعيلة من صدر البيت وفي الضرب وهو آخر تفعيلة من عجز البيت, وهو اذا دخل على الضرب في أول بيت في القصيدة وجب أن يدخل على كل أبيات القصيدة في الضرب فقط، والعلل تكون بالزيادة على عدد حروف التفعيلة أو بالنقصان من أصل حروفها,, فالعلل التي بالزيادة هي:
1 الترفيل: زيادة سبب خفيف على كل ما آخره وتد مجموع مثل:فاعلن فتصبح فاعلاتن .
2 التذييل: وهو زيادة حرف ساكن على التفعيلة التي تنتهي بوتد مجموع مثل مستفعلن فتصبح مستفعلان .
3 التسبيغ: زيادة حرف ساكن على ما ينتهي بسبب خفيف مثل فاعلاتن فتنقلب فاعلاتان .
وعلل النقص تسعة هي:
1 الحذف: هو إسقاط السبب الخفيف من آخر التفعيلة مثل مفاعيلن فتصبح مفاعي وتحول إلى فعولن.
2 القطف: إسقاط السبب الخفيف واسكان ما قبله مثل مفاعَلتُن فتصير مفاعل وتحول إلى فعولن.
3 القطع: حذف ساكن الوتد المجموع وتسكين ما قبله فاعلن تصبح فعلن ومتفاعلن تصبح فعلاتن ومستفعلن لكي تصبح مفعولن.
4 القصر: حذف ساكن السبب الخفيف وإسكان متحركه فاعلاتن تصبح فاعلات وفعولن تصبح فعول.
5 البتر: حذف سبب خفيف مع القطع في الوتد الذي قبله فعولن تصبح فع وفاعلاتن تصبح فعلُن .
6 الحذف: هو حذف وتد مجموع من آخر التفعيلة متفاعلن تصبح فَعِلُن .
7 الصلم: هو حذف وتد مفروق من آخر تفعيلة العروض أو الضرب، مفعولات تصبح مفعو وتحول إلى فعلن .
8 الوقف: إسكان آخر الوتد المفروق من آخر تفعيلة العروض أو الضرب مفعولات تصبح مفعولان .
9 الكسف: حذف آخر الوتد المفروق من آخر تفعيلة العروض أو الضرب مفعولات تصبح مفعولاً وتنقل إلى مفعولن .
وهذه هي مجموع الزحافات والعلل حسبما وردت في كتب العروض مجتمعة ،وهي كما ترى تصيب المبتدئ بالعلل وتهول له الأمر بدلاً من أن تسهل له معرفة الوزن اللهم إلا إذا كان شاعراً مطبوعاً فهو في الغالب لا يحتاج إلى كل هذه الأدوات إلا اذا اشكل عليه الأمر وقد يشكل عليه في حالة واحدة,, فهو برغم أذنه الواعية بموسيقى الشعر قد يخلط بين بحرين قريبين فيكون الصدر مثلاً من بحر المديد ثم يأتي العجز من بحر الرمل فالموسيقى متكاملة في شطري البيت وان اختلفت البحور ولكنها متقاربة التفعيلات فالمديد فاعلاتن فاعلن فاعلاتن والرمل فاعلاتن فاعلاتن فاعلاتن أي أن الفرق هو سبب خفيف في التفعيلة الوسطى واحتمال الخطأ نادر جداً ولكنه وارد، وقد يحدث ثم لا يلبث إذا أعاد الشاعر تلاوة البيت في سياق القصيدة فإنه يكتشفه.
ومع ان هذه الزحافات والعلل جائزة وهي مسموح بها وهي لا تعيب الشعر أو الشاعر إلا أن الاستغناء عنها أحكم للشاعر وأدل على قدرة ملكته وقوة طبعه على ان الزحاف في بحر الخفيف في مستفعلن مستحب وهو الخبن وهو حذف الثاني الساكن من التفعيلة فتصبح مفاعلن بدلاً من مستفعلن إلا أن الطي ممنوع منعاً باتاً فيها في بحر الخفيف,, ولقد يكون البيت مع استعمال الخبن في مستفعلن أخف على الأذن وأكثر تشبعاً بالجرس الموسيقي من استعمال التفعيلة كاملة وهذا بيت استعملت فيه التفعيلة كاملة مستفعلن من بحر الخفيف.
وذكرت الحمراء مرتع حبي
فبكت من ذكرى هواك عيوني
وفي نفس القصيدة استعملت مفاعلن المخبونة
كم شدا الطير في رباك وغنى
لحن ذكراك في فؤادي الحزين
وكما ترون وسوف تحسون ان البيت الأول فيه قليل من الثقل في اللسان والاذن بينما الثاني بزحافه أخف على الأذن وأكثر جرساً في موسيقاه، لهذا فإن بعض علماء العروض يفضلون عند ذكر التفعيلات في الخفيف اضافة الزحاف إلى مستفعلن لكي تصبح عروضه فاعلاتن مفاعلن فاعلاتن.
ومهما يكن فإن الزحاف يسهل مهمة الشاعر على أن تكراره كثيراً غير مستحب ويدل على عجز في ملكة الشاعر والأمر عائد إليه فإذا تعود أن يصوغ شعره بتفعيلة كاملة وساعده طبعه وقريحته وملكته فسوف يجد نفسه في ذلك على الدوام وتستوي له الأوزان وينطلق فيها بلا أي مشقة غير أن المشقة تحدث عندما يحس الشاعر المطبوع انه لم يقل شعراً لفترة طالت,, ويحس بالحنين ويدفعه ذلك إلى أن يقول شعراً دون أن يوجد هناك حدث أو انفعال بحدث عندها تصعب عليه القوافي وينقطع به ويسقط في يده,, ويضطر إلى أن يرص الحروف رصاً وبهذا يحكم الشاعر على نفسه بالاعدام كشاعر لأنه سيأتي بشعر لا روح فيه ولا حس ولا طعم ولا لون وما أكثر هؤلاء الذين تعودوا وعودوا أنفسهم على ذلك فماتوا كشعراء وهم لا يدرون أنهم ماتوا,, فالمعاناة هي الأساس والانفعال بتلك المعاناة هما روح الشعر والشعر في ذاته ينبغي أن يكون ردة فعل لكل ذلك حتى يكون فيه حياة وروح وحس وماء,, وما عدا ذلك فإنه نظم بارد ممل مهما اجتهد فيه الشاعر وزينه بالمفردات الرنانة.
وكما أن لحشو البيت أسسه فإن للقافية أيضاً نظاماً ثابتاً ينبغي الالتزام به وأول التزام يكون هو الالتزام بجعل الحركة الصوتية التي تأتي في آخر البيت متطابقة مع بقية حركات الأبيات التي تلي أول بيت فإذا قال مثلاً:
سمراء رقي للعليل الباكي
وترفقي بفتى مناه رضاك
فعليه أن يلتزم بهذا الحرف المكسور الكاف في الباكي وفي رضاك إلى آخر القصيدة وإن أورد القافية في قصيدة أخرى مرفوعة كقول أبي فراس:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبرُ
أما للهوى نهيٌ عليك ولا أمرُ
وجب عليه أن يواصل ذلك الحرف المرفوع ذاته الراء إلى آخر القصيدة، وهكذا إذا قيد القافية وأسكن حرف الروي فيها مثل:
وقل لبني عمنا الواجدين
بني عمنا,, بعض هذا الغضب
فحرف الباء الساكن في الغضب هو حرف الروي ويتبع الحرف الساكن في الروي الحرف المشدد الساكن مثل:
كم يحن المرء إن طال السفر
فإذا بعد النوى عاد استقر
فالراء في استقر مشددة في الأصل فإذا حركتها أصبحت حرفين الأول ساكن والثاني متحرك استقرَّ لكن إذا أسكنتها مع الروي الساكن في القصيدة السفر تعتبر حرفاً واحداً ساكناً وهو وارد ومسموح به في القافية فقط، فإذا اراد اتباعها بالهاء الساكنة مثلاً كانت القافية شجنُ مرفوعة وأراد اتباعها بالهاء الساكنة لتصبح شجنُه فينبغي ان يحرص على ان تكون حركة النون واحدة فلا يقول شجنَه ثم في بيت آخر يقول بدَنِه فذلك إقواء وهو عيب من عيوب القافية فإذا أراد ان يحرك حرف الهاء فيقول مثلا اشجانها أو اشجانُه فينبغي أيضا ان يحرص على ان تكون حركة النون واحدة في كل أبيات القصيدة لأن النون هي الروي في كل ذلك والهاء الساكنة التي بعدها هي حرف الوصل والحرف المتولد من حركة الهاء المتحركة هو الخروج أما اذا سبق الهاء حرف مد فعندها تصبح الهاء ذاتها هي حرف الروي القافية مثل:
اني علقت على الهدى
لمياء يقتلني لماها
فالهاء: في لماها روي والألف بعدها حرف وصل .
على ان هناك حروفاً أصلا لا تصلح ان تكون قافية روي وهي حروف المد الثلاث ا، و، ي لأنها في واقعها تشير الى حركة الحرف الذي قبلها مثل إماما فالألف الأخير هي اشباع لحركة الميم فهي ليست صالحة لأن تكون قافية لان الميم هي القافية وكذلك لو ان القافية كانت أمامي أو زعموا فالياء والواو اشباع لحرف الميم التي هي القافية، والثلاثة حروف هي حروف الوصل هنا وآخر حرف صحيح
في البيت هو حرف الروي مثلا:
أراك عصي الدمع شيمتك الصبر
آخر حرف ينطق فيها هو حرف الراء في الصبر ، وهو الروي وتنسب اليه القصيدة فيقال مثلا رائية أبي فراس أو رائية ابن أبي ربيعة.
فإذا اشبعنا حركة حرف الروي ان كانت مرفوعة أصبحت الصبرو أو منصوبة الصبرا أو مكسورة الصبري فإن الواو والألف والياء هذه هي ما تسمى حرف الوصل او اذا وصلنا حرف الروي بها ساكنة او متحركة فتصبح صبره او صبرها فالهاء الساكنة او المتحركة هنا هي حرف الوصل كما أسلفت وشرحت سابقا والراء هي القافية.
وهناك استثناء في حرف المد فمثلا حرف الألف المقصورة مثل هدى وكرى ومدى وشذى فهذه الألف يمكن ان تكون حرف الروي ومثلها الألف الممدودة التي تحذف الهمزة التي بعدها مثل وفاء وقضاء وعناء وذلك لأنها من أصل بنية الكلمة وليست دخيلة عليها فتقول مثلا:
رب، إني اليوم خصم لهم
جئت مظلوما وذا يوم القضا
نقضوا عهدي وقد أبرمته
وعرى الدين فما أبقوا عرى
فالألف في آخر قضا وعرى هي حرف الروي.
ويمكن للياء ان يكون حرف روي اذا كانت من اصل بنية الكلمة ومكسور ما قبلها مثل:
نروح ونغدو لحاجتنا
وحاجات من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته
وتبقى له حاجة ما بقي
وهناك الياء المتحركة مثل:
سرى لك طيف في دجى الليل باكيا
يذكرني عهد الهوى والتصابيا
وهذه ما أكثرها في شعر الأوائل والمتأخرين وكذلك الياء اذا أتبعتها بتاء التأنيث المربوطة مثل:
هذه الدنيا حياة فانية
إنما الجنة دوما باقية
فالياء في فانية وباقية هي حرف الروي وعليك ان تحرص عليها في كامل القصيدة,وكذلك الواو قد تصلح لحرف الروي اذا كانت من اصل بنية الكلمة وساكنة مضموم ما قبلها مثل يدعو يشكو يصفو والهاء الأصلية المتحرك ما قبلها مثل النقَه والشبَه يمكن ان تكون رويا وكما نوهت اذا سبق الهاء حرف مد أصبحت ايضا رويا للبيت, وتاء التأنيث مثل قامت نامت هامت او عمتي خالتي يمكن ان تكون حرف روي.
وكاف الخطاب مثل يصونك، يودك، يشدك، يجوز ان تكون رويا وقد يستحسن الا تكون حرف روي لأنها تكون أروع وأجمل لو اعتبرت وصلا والتزم الشاعر للروي بحرف قبلها في كل أبيات قصيدته مثل:
إن أخاك الحق من كان معك
ومن يضر نفسه لينفعك
ومن إذا ريب الزمان صدعك
شتت فيك نفسه ليجمعك
فالعين في هذين البيتين هي الروي وكذلك الميم المسبوقة بهاء مثل هم أو المسبوقة بالكاف مثل لكم، ويستحسن لو يسبقها مع كافها او هائها حرف يعتبر هو الروي مثل:
لبيكما لبيكما
ها أنذا لديكما
فالياء هنا هي الروي طالما ان الشاعر قد التزم بها في كل أبيات القصيدة اما اذا لم يلتزم فإن الميم تكون رويا سواء كانت مقيدة أو متحركة.
وهناك حرف مد قد يأتي قبل حرف الروي الذي هو آخر حرف في القصيدة مثل شعارا أو دورو أو سفيري فان حرف المد هذا الذي جاء قبل الراء يسمى الردف وهناك حرف مد يأتي قبل الحرف المتحرك الذي يسبق حرف الروي مثل زائل، مائل فالألف التي في زائل والألف التي بعد الميم في مائل تسمى التأسيس واللام هي حرف الروي وحركتها هي حرف الوصل، فإذا قلت مثلا شمائلا رسائلا ومعاملا فأنت ملزم ان تتقيد على ان توحد حرف التأسيس هذا حرف المد الألف فلا تقول مثلا مع شمائلا سموءلا أو مصهلا بل ينبغي ان تلتزم بحرف مد واحد لكامل القصيدة كتأسيس.
والحرف المتحرك الذي بين التأسيس والروي يسمى الدخيل هو في شمائلا الهمزة التي قبل اللام وقد اهتدى الخليل بن احمد الفراهيدي في مجمل بحثه الى خمسة عشر بحرا جزأ عليها أوزان الشعر العربي برمته وجاء بعده الأخفش ليضيف الى هذه البحور بحرا آخر هو المتدارك وهو فعلن ثماني مرات ومنها رائعته المعروفة:
يا ليل,, الصب متى غده
أقيام الساعة موعده
وهي القصيدة التي عارضها اكثر من مئة شاعر كان آخرهم شوقي في قصيدته:
مضناك جفاه مرقده
وبكاه ورحم عوده
وعلى هذه الستة عشر بحرا بني الشعر العربي كله وان كان بعض الشعراء قد حاولوا الشذوذ عن ذلك واستنباط أوزان جديدة كأبي العتاهية الا انه لم يبق ولم يثبت على مر الزمن الا هذه الأوزان الستة عشر وما شذ عنها فهو دخيل على الشعر العربي الأصيل.
أرأيتم يا أحبائي يؤثر إخواننا الحداثيون قصيدة النثر لأنها تنقذهم من كل هذه البروتوكولات التي يجب الالمام بها قبل الدخول الى عالم الشعر,, إنهم يريدون الانتماء الى الشعر ولكنهم لا يريدون ان يبذلوا أي جهد ولا ان ينصهروا في بوتقة الشعر الحقيقي وذلك لأنهم ليسوا شعراء مطبوعين فأرادوا عجزا اختصار الطريق بإلغاء العروض برمتها ومع ان هذه الأسس والقواعد قد يلم بها الأكاديميون فهي موجودة في كتب التراث ولكن الالمام بها لا يمكن أن يخلق شاعرا,, ان الشاعر الحق يولد بفطرته وطبعه شاعرا انها ملكة مركبة في ذات المرء منذ ولادته تتواءم وتتناسق مع فطرته وطباعه وذوقه وسماته,, وكما ذكرت في مقالاتي السابقة فإنها تتكيف مع بيئته فاذا نشأ في بيئة شعر أصبح شاعرا ،واذا نشأ في بيئة موسيقى أصبح موسيقارا نادرا مميزا أو اذا نشأ في بيئة نحت أصبح نحاتا عظيما واذا نشأ في بيئة فن أيا كان ذلك الفن فإنه يتقنه ويصل بملكته فيه الى أقصى حدود الاتقان والتفرد,,.
إن الحداثيين يريدون تغيير الامور وقلب الحقائق ونقض المسميات وخلط النثر بالشعر كل ذلك بهدف واحد وهو ان يقال عن نصوصهم النثرية انها شعر,, والسؤال لماذا,,؟ لماذا,,؟ لماذا؟
وما هو الهدف الذي يستفيد منه أدبنا الحديث,, من اجل ذلك قرروا محو التراث واتهامه بالجمود والتخلف ووصفوا الشعر الاصيل بالتقريرية والتكرار ونسوا او تناسوا ان التراث يحمل في طياته نثرا لا أروع ولا أجمل يتمثل في المقامات والخطب الرائعة، اما في العهد الحديث فهذا جبران خليل جبران ونثره اللؤلؤي الرائع ومع ذلك فلا جبران قال ولا احد من معاصريه قال :ان نثره ذاك يعتبر شعرا، انه العجز والرغبة في الوصول الى القمم بلا أصالة او ملكة او مقومات ان كل اهبل يريد ان يكون شاعرا ويسارع الى لضم المفردات لضما ويصدر الكتاب تلو الآخر للشاعر فلان ابن علان,, ولا شيء في الكتب الا مسخ وخلط لا قيمة له ولا هدف ولا معنى,, وعندما أدركوا ان نثرهم هذا الذي أطلقوا عليه مسمى قصيدة النثر عندما يحاولون ابراز معنى له يأتي باردا ومملا خرجوا أخيرا علينا بتفسيرات تقول :إن الهدف ينبغي ان يكون الناحية الجمالية في النص وليس معنى النص وقرروا انه لا داعي لأي معنى ولا داعي لأي هدف او مغزى ،وان أروع نص هو ذلك الذي يكتنفه الغموض من كل جانب فلا يدرك معناه ولا هدفه احد، وعندما وجدوا ان شعرهم هذا لم يلق أي استحسان بل وجد إعراضا من المتلقين اتهموا كل المتلقين حتى المثقفين منهم وحتى الشعراء بالجمود والتخلف,, كل هذه الدائرة الطويلة العريضة من المغالطات لكي يقنعونا بانهم شعراء,, حتى لو كانوا شعراء بلا شعر,, المهم انهم هم الشعراء ولا احد غيرهم ،اما هؤلاء الاغبياء المتخلفون الرجعيون شعراء الشعر العمودي على حد تعبيرهم وتسميتهم لشعراء الاصالة وشعراء التراث فإنهم في رأيهم لا شيء، لا شيء على الاطلاق لأنهم يرددون كلاما مكررا مطروقا عشرات المرات على مر العصور وشعرهم شعر تقريري ممل ولو عرفوا وليتهم يعرفون ان السر في جمال شعر الاصالة والتراث انه برغم كونه شعرا له أوزان محدودة فانه على مر السنين وعلى كثرة الشعراء لم ينضب معينه وراح الشعراء في كل عصر يسبحون في بحاره التي هي أشبه بالمحيطات ويغرفون منه على مر العصور دون ان يبلى او يموت بل راح يتجدد ويزداد حلاوة وطلاوة ولو أنصفوا لأدركوا ان الشعر مر بعصور تخلف في الأمة فتخلف معها ومر بعصور ازدهار فازدهر وطاب وأينع وانه مرت فترات تجديد للشعر في العصر العباسي ثم ضمر واضمحل في عهد حكم آل عثمان الذين سحقوا اللغة العربية حتى أصابها الضمور والتخلف ،ثم جاء عهد النهضة في القرن الماضي عندما ثار العرب على عبوديتهم واستعادوا أمجاد لغتهم فكانت المدارس الشعرية كمدرسة أبولو ومدرسة الديوان ومدرسة المهجر في الشام وعادت للشعر روعته واصالته وظل ملتزما بأوزانه وبحوره ولكن بصيغ جديدة وأساليب متجددة ورائعة, ثم ابتدأت عهود الاستعمار الغربي للعرب وبدأ الضعفاء في عروبتهم يتأثرون بالثقافة الغربية بما فيها من أخطاء وما فيها من عيوب وبدأ أساتذتهم الغربيون يوجهونهم الوجهة التي تخدم أهدافهم وتخدم الاستعمار وتفتت لغتهم لغة القرآن وهي الشيء الوحيد الذي يربطهم بعضهم ببعض, وبدأت حركة التجديد العاقل مع مدرسة أبولو فقرأنا رائعة الشابي عذبة أنت وقرأنا اطلال ناجي وغيرها وغيرها وقرأنا ثورة الشك لعبدالله الفيصل,, وامتدت حلقة التجديد حتى أصيبت بانتكاسة الحداثة,, وما فيها من ثورة على التراث ونقض لكل مقوماته وثوابته وتحير كثير من المثقفين واندمج السذج والعاجزون في التيار حتى لا يقال عنهم انهم متخلفون وضموا أصواتهم مع الجميع وبقي المؤمنون بتراثهم المحافظون عليه العارفون لجوهره وجماله ثابتين لا تزعزعهم كل الدعاوي ولا يحبطهم وصفهم بالتخلف والتقريرية والتكرار بل إن المعركة كانت حافزا لهم فبدأوا يراجعون حساباتهم وراحوا يجددون ويرتفعون بأساليبهم وينتقون مفرداتهم بكل دقة وحس ووظفوا إحساسهم الصادق للخروج من الأزمة بشعر قوي متين يحمل من أساليب التجديد وأصالة المعنى ورقة المشاعر وابتعدوا عن التقريرية والنظم الممل فظلوا ثابتين في الميدان لم تزعزعهم قوة الموج ولم تجرفهم رعونة التيار وعندما وصل الحداثيون الى طريق مسدود عادوا يتراجعون,, وبدأوا يعترفون بأخطائهم وبانهم كانوا ركاب موجة حتى إن بعضهم عندما رأى موجة الشعر العامي الدارج مرتفعة ركبها وراح ينادي بأصالة الشعر الشعبي وانه يجب ان تكون له المكانة وان يوضع في المقدمة.
إن هذه الأمة قد بلاها الله بأبنائها واذا لم يرعها الله بعين رحمته فسوف يضللها بنوها ويسقطون بها ومعها الى الحضيض ولا حول ولا قوة الا بالله.
وما أريد ان أضيفه هو انه عندما انكسرت شوكة العرب في المشرق العربي وأصبحوا محكومين بعد ان كانوا حاكمين تفكك الشعر وانزوى,, لكنه في ذات الوقت عندما ازدهرت دولة العرب وحضارتهم في المغرب الأندلس راح الشعراء هناك يبحثون عن وسيلة للتجديد خاصة وهم قريبون من دول الغرب فراحوا يحاولون تأثرا بالغرب إدخال بعض التعديلات على اوزان الشعرواستحدثوا أوزانا جديدة وانواعا جديدة من الشعر فكان هناك، الموشحات، والدوبيت، وقام حتى العوام والسوقة باستنباط أوزان باللغة العامية درجت على ألسنة العامة فكان هناك الزجل، والمواليا، والكان كان، وألقوما، كل هذه الأوزان سواء منها ما كان باللغة العربية الفصحى او ما كان باللغة العامية الدارجة كلها تبخرت واضمحلت ولم يبق منها شيء فيما عدا القليل القليل من الموشحات لأن الابداع كان فيها غالبا، وعندما نطالع كتب التراث في الأندلس نقرأ تلك الموشحات التي حفظها لنا تراث الأمة العربية بالمغرب والأندلس، ولكن للأسف لن يكون لها أي امتداد على الحاضر لأنها في حقيقتها ليست لها جذور راسخة في التراث العربي الأصيل,, ولهذا انقرضت واضمحلت وتلاشت, وبهذا انتهى البحث الذي استمر نشره في عدة مقالات وسوف أقوم بمشيئة الله بجمعه في كتاب لعله يكون ذا فائدة في وسط هذه الفوضى التي يمر بها أدبنا المعاصر,, والله من وراء القصد,.
عذرا الى النادي العريق ابثه زفرات وجد قد ثوى بفؤادي
ياويح قلب وزعت أشواقه بين الحبيب وبين هذا النادي
مجدي خاشقجي
- kindy girl
- بوح دائم
- مشاركات: 696
- اشترك في: 06-14-2002 02:59 PM
(32) الشباب والمشيب.. هذان الضدان المتلازمان ورأي الشعراء
د. رافدة عمر الحريرى
جريدة الجزيرة
العدد:10504 Monday 2nd July,2001 الأثنين ,ربيع الثاني 1422
جُبل الانسان على ان يمر بمراحل عمرية لكل مرحلة خصائصها وسماتها.. ولعل اهم تلك المراحل واكثرها خصبا وعطاء هي مرحلة الشباب حيث ينضج الفرد ويشق طريقه في الحياة.. والشباب هي تلك الفترة التي تقع بعد فترة البلوغ التي تتسم بالنشاط والحيوية.. وتدفع الفرد الى العطاء والترفع عن سفاسف الامور بالتصرف بتأنٍ وحكمة وذلك حسبما تمليه عليه تربيته ونشأته.. ومرحلة الشباب هي الفترة التي يدخل فيها الفرد معترك الحياة فتصقله التجارب ويتعلم من المواقف ومن سير السلف الصالح الكثير مما ينفعه في تسيير دفة الحياة واتخاذ القرارات التي تعود عليه وعلى مجتمعه بالنفع الكثير. ويتوقع من كل فرد استمرار العطاء والعمل المثمر خلال تلك الفترة التي لابد لها ان تنتهي لتخلف العمل الطيب والذكريات الحافلة بالعطاءات مما يدعوه الى الفخر بما قدمه لمجتمعه اولاً ولنفسه ثانياً.. ولعلنا نسمع ونقرأ الكثير من الشعر الذي يتباكى فيه الشعراء على فترة الشباب وكأنما نسمع او نقرأ الندم فيما بين السطور والكلمات فنتساءل.. ترى لماذا التباكي على الشباب؟ أليس من الاجدى الافتخار به وبحجم الانجازات التي احرزها في حينه؟
الشاعر يقول:
ذهب الشباب فما له من عودة
وأتى المشيب فأين منه المهرب؟
وهذا ابو ماضي ينصح صاحبه بالا يأسف على مضي الشباب بقوله:
قال الصبا ولى فقلت له ابتسم
لن يرجع الاسف الصبا المتصرما
اما ابو الحسن البصري.. فهو يقرن المشيب بالحزن اذ كان العامة في الاندلس يرتدون اللباس الابيض في مناسبات الحزن فيقول:
اذا كان البياض لباس حزن
بأندلس فذاك من الصواب
ألم ترني لبست بياض شيبي
لاني قد حزنت على شبابي
اذاً لماذا الاسف والتباكي على الشباب وايامه؟ ألم يكن الحجر الاساس الذي جنيت ثماره في سن الشيخوخة كالابناء الصالحين والنصيحة والعمل المثمر الذي دفع للمجتمع بخيرات كثيرة مما بعث السعادة والرضا في النفوس.. ان الشباب هو الخيط الاول في مد مسار العطاء والبناء فهو ليس الطيش واتباع الهوى وقضاء الوقت بسفاسف الامور.. والشاعر يقول:
ان الفراغ والشباب والجده
مفسدة للمرء اي مفسده
ولذلك وجب على كل شاب وشابه تذكر المثل القائل «الوقت كالسيف ان لم تقطعه قطعك» وتذكر قول الشاعر:
اتدري لماذا يصبح الديك صائحاً
يردد لحن النوح في غرة الفجر؟
ينادي لقد مرت من العمر ليلة
وها انت لا تشعر بذاك ولا تدري
نعم.. فجأة وبعد فوات الاوان نجد البعض ممن ضيعوا ايام شبابهم بالمتعة وضياع الوقت والتقاعس والاعتماد على الاهل ومصاحبة اصحاب السوء.. نجدهم قابعين في شيخوختهم يقطعهم الندم ويتمنون عودة الشباب لسببين احدهما للاستمتاع مرة اخرى وآخرهما لإصلاح ما افسد.. ولا يصلح العطار ما افسد الدهرفالشباب لن يعود والحياة طريق مرور ومن الاخيار الصالحين من قال «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً».
أما التمني بعودة الشباب فإنه هراء فالشاعر يقول:
ذهب الشباب فما له من عودة
وأتى المشيب فأين منه المهرب؟
وقد يغنينا هذا الدعم من التباكي على الماضي والتشاؤم من مقدم المشيب الذي ضاق احد الشعراء به ذرعاً فقال:
عيرتني بالشيب وهو وقار
ليتها عيرت بما هو عار
ان تكن شابت الذوائب مني
فالليالي تزينها الاقمار
اذاً هو يجد التعليل رغم ألمه وحزنه.. وهذا الآخر يؤكد ان الشيب مصير كل فرد فيقول:
تعيرني بالشيب وهو مصيرها
وإني وإياها الى غاية نجري
ولربما يقصد بالغاية الصلاح والتوبة والحكمة والموعظة وإفادة الآخرين من التجارب وتقديم النصح والمشورة.. ان الغاية هي بناء ركائز المجتمع وتكوين الاسرة الصالحة المتكافلة وفناء العمر بالعبادة والكلمة الطيبة والمعاملة الانسانية الراقية والزهد في أمور الدنيا.. انها الإسهام في بناء جيل مدرك مخلص في عمله مضطلع بكل المسؤوليات المناطة به من اجل الحفاظ على سلالة البشرية وبناء وحدة المواطنة الصالحة التي تعتز بوطنها وتعمل لإسعاده وتخلص لتربيته.
قال احد الشعراء متشائماً من ظهور الشيب في مفارقه.
حل المشيب بعارضي ومفارقي
بئس القرين أراه ليس مفارقي
رحل الشباب فقلت قف لي ساعة
حتى اودع.. قال انك لاحقي
فالشباب اذاً يبقى مع المرء لا يفارقه بل ينمو معه ويشيب، ويلاحق اعماله حتى آخر العمر.. قال الشاعر منصور النميري:
بان الشباب وفاتتني بلذته
صروف دهر وايام لها خدع
ما تنقضي حسرة مني ولا جزع
اذا ذكرت شبابا ليس يرتجع
ماكنت اوفي شبابي كنه قيمته
حتى انقضى مالت الدنيا له تبع
اذاً شاعرنا هذا يأسف على شبابه لأنه لم يوف حقه ولم يعمل ما ينبغي ان يعمله حتى اذا انقضى عهد الشباب تأسف وندم لأنه لم يقدم في دنياه ما يستحق حينما كان في قمة القوة والعنفوان، لم تقدم يداه ما كان يطمح ولعله استغل ما استكثرت عليه عيناه حينذاك.. ومن الذين ناحوا على ايام الشباب الشاعر المعروف ابو العتاهية اذ قال:
عريت من الشباب وكان غضا
كما يعرى من الورق القضيب
ونُحت على الشباب بدمع عيني
فما نفع البكاء ولا النحيب
فيا ليت الشباب يعود يوما
فأخبره بما فعل المشيب
فهذا الشاعر يود ان يقدم شكواه عند المشيب ويعرض للشباب عيوبه من ضعف ومعاناة.
وكما للشباب فترة معينة من الزمن تنتهي بالانسان الى التقرب من الكمال والرزانة والتروي وبعد النظر وتكسبه الخبرة والفطنة لاسيما اذا شارف على اربعينه اذ ان الحياة مدرسة.. فإن هناك من العوام من يغالط نفسه ويصر على ديمومة الشباب فيحاول التصابي ويتصرف بما لا يليق وعمره ومكانته في المجتمع كقول احدهم:
واذا مضى للمرء من اعوامه
خمسون وهو عن الصبا لم يجنح
عكفت عليه المخزيات وقلبه
قد أضحكتنا سيرة لا تبرح
واذا رأى ابليس غرة وجهه
حيا.. وقال فديت من لم يفلح
اذاً على الشباب اعادة النظر فيما يقدمونه وفيما يهدفون اليه من عمل مثمر يجعلهم في فخر واعتزاز دائمين عند حلول المشيب فالندم لا يمكن ان يرجع ايام الشباب وقال احدهم في هذا المجال:
شيئان لو بكت الدماء عليهما
عيناي حتى تأذنا بذهاب
لم تبلغ المعشار من حقيهما
فقد الشباب وفرقة الاحباب
هنا نلاحظ النظرة الانسانية تتجلى بوضوح.. فهو يخاف على فراق احبته ويود لو يقدم للشباب اكثر مما قدمه. ونعود لنسأل لماذا نتباكى على الشباب؟ ألأننا لم نوفه حقه من العطاء؟ فهذا الشاعر ابن المعتز يفضل العمى على الشيب ولعل ذلك امر مؤلم.. فهو يقول:
قالت وقد راعها مشيبي
كنت ابن عم فصرت عمّا
واستهزأت بي فقلت ايضا
قد كنت بنتا فصرت امّا
كفى ولا تكثري ملامي
ولا تزيدي العليل سمّا
من شاب ابصرنه الغواني
بعين من قد عمى وصما
لو قيل لي اختر عمى وشيباً
ايهما شئت؟ قلت اعمى
هذا هو عين التشاؤم وهذا هو الاعتراف بأن الشباب ليس الا لهوا ومتعة ومجوناً.. فلو قارنا هذه الابيات لابن المعتز مع شاعر آخر يفخر بشباب قلبه وروحه للاحظنا الفرق بين ما يفكر به الاثنان.. فالشاعر يقول:
عمري بروحي لا بعد سنيني
فلأ سخرن غدا من التسعين
عمري الى السبعين يجري مسرعا
والروح ثابتة على العشرين
كلاهما بشر.. ولكن كل ينظر الى الحياة بمنظار وضعه هو لنفسه.. ان اغلب الشعراء نظموا القريض تباكياً على الشباب مركزين على محبوباتهم او زوجاتهم متمردين على المشيب حرصاً على طلب واستحواذ الحب ليس الا.. وكأنما خلق الشباب للحب فقط لا للعمل الطيب وتكوين الاسرة وتنشئة الابناء تنشئة سليمة..
فقد قال الشاعر حبيب الطائي:
نظرت الي بعين من لم يعدل
لما تمكن حبها من مقتلي
لما رأت وضح المشيب بلمتي
صدت صدود مجانب متحمل
فجعلت اطلب وصلها بتلطف
والشيب يغمزها بألا تفعلي
فهل يعني هذا ان الحب والاخلاص ينتهيان ان من قبل الطرف الآخر بمجرد قدوم المشيب؟ فإن كان هكذا فلا بارك الله حب مثله.
وفي هذا المضمار قال ايضاً:
صدت امامة لما جئت زائرها
عني بمطروفة انسانها غرقُ
وراعها الشيب في رأسي فقلت لها
كذاك يصفر بعد الخضرة الورق
وفي موقع آخر قيل:
ماذا تريدين من جهلي وقد غبرت
سنو شبابي وهذا الشيب قد وخطا
أرقع الشعرة البيضاء ملتقطا
فيصبح الشيب للسوداء ملتقطا
وسوف لاشك يعييني فأتركه
فطالما اعمل المقراض والمشطا
يُعاب على بعض ما قيل من الشعر العربي القديم انه اتهم المرأة بالهجر والصد ونكران الجميل عند بلوغ الرجل سن المشيب او الكبر.. ولعلهم هنا يتحدثون عن المرأة الخليلة لا عن الزوجة التي عرفت بإخلاصها وحبها وحنوها واعتزازها بزوجها الذي اوصى سبحانه كليهما في محكم كتابه الكريم فقال «هن لباس لكم وأنتم لباس لهن» وحاشا لله ان تكون الزوجة بتلك السلوكيات من الهجر والصد والاستخفاف. قال محمد الوراق متأسفاً على المشيب:
لا تطلبنْ أثرا بعين
فالشيب احدى الميتين
ابدى مقابح كل شين
ومحا محاسن كل زين
والمشيب كأمر مسلم به لا يمكن ان يعيد الانسان الى الوراء.
لكل داء دواء يستطب به
الا المشيب فقد اعيا الاطباء
ومن طريف ما ذكر من قصص العرب حول المشيب ان احدهم كان له زوجتان الاولى تدعى حانه وهي الكبرى والثانية تدعى مانه وهي الصغرى، فكان عند زيارته لحانة يسمع منها الكثير عن وقار الشيب وجماله وتعيب عليه وجود الشعر الاسود بين بياض لحيته فتجعل منه خاضعاً لطلبها في نتف الشعر الاسود المتبقي في لحيته مدعية ان بياض الشعر وقار وهيبة.. وعندما يحين موعد زيارته لزوجته الصغرى مانة.. تبدأ بالحديث عن شبابه وتعيب عليه وجود الشعر الابيض في لحيته مدعية انه يعطيه اكثر من عمره ويظهره هرماً وهو ما زال شاباً بزعمها.. فيستسلم لقولها وتبدأ في نتف الشيب من لحيته.. وهكذا وجد نفسه فجأة بدون لحيه.. فقال القول المأثور متمرداً شاكياً «بين حانة ومانه ضاعت لحانا».
في موضوع بعنوان «وقفات مع المشيب» بقلم الاستاذ حمد بن خليفة ابو شهاب نشره في مجلة الصدى .. كتب عن المشيب ابياتاً وجدنا ذكر جزء منها لعلاقتها بهذا المقال فهو يقول:
تولى يا ابنة العم الشباب
فلم يغن القريض ولا الخضاب
مضى عهد الصبا وأتى زمان
له في كل جانحة مصاب
فنرجو الله مغفرة وعفواً
وستراً يوم ينكشف الحجاب
بيوم ليس ينفع فيه مال
سوى عمل بموجبه نثاب
فإن خيرا تلقاك الثواب
وان شرا تولاك العقاب
ولعلي اختم مقالي هذا بأبيات من قصيدة نظمتها بعنوان «ظلم المشيب»:
تبدت كالعروسة في زحام
فوا أسفي على تلك العروس
تثير الحزن ان حدقت فيها
واذرف وابل الدمع الحبيس
فلي قلب فتي يشع حباً
ألا رحماك يا شيب الرؤوس
فحبي وافر وسماي صحو
ونفسي كللت قمم النفوس
فمن يا نفس فيك أشد وجعا
مشيب الرأس؟ ام قلبي .. فقيسي
نسأل الله حسن الخاتمة والعمل الصالح النافع والاخلاص في القول والعمل والانتاج المثمر المقترن بنظافة الضمير ونسأله ان يسبغ على شبابنا نعمة الخير والصلاح واستغلال الوقت للعطاء كل على قدر طاقته وقدرته «ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به» هنا سيستقبل كل فرد مشيبه برضا وسعادة واطمئنان .. ولنذكر قوله تعالى «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون»
عذرا الى النادي العريق ابثه زفرات وجد قد ثوى بفؤادي
ياويح قلب وزعت أشواقه بين الحبيب وبين هذا النادي
مجدي خاشقجي
(33) أحمد فضل شبلول - أصوات شعرية مقتحمة
بقلم: فاروق شوشة
لم يكن أحمد فضل شبلول ـ في يوم من الأيام ـ مجرد واحد من أصوات الاسكندرية الشعرية المقتحمة, وإنما كان ـ بالاضافة الي ذلك ـ واحدا من أبرز الدارسين والباحثين ـ في جيله ـ لواقعها الأدبي والثقافي, قبل أن يتجاوز هذه الدائرة الجغرافية الضيقة, لتصبح اهتماماته وشواغله باتساع العالم العربي كله.
من هنا فإن إبداع أحمد فضل شبلول في مجموعاته الشعرية: مسافر إلي الله(1980) ويضيع البحر(1985) والطائر والشباك المفتوح(1998) وتغريد الطائر الآلي(1999) والمجموعة المشتركة' عصفوران في البحر يحترقان(1986) والشعر الذي كتبه للأطفال في مجموعتيه: أشجار الشارع أخواتي(1994) وحديث الشمس والقمر(1997) ـ يوازي هذا الابداع الشعري ويجاوره دراساته الأدبية والنقدية عن أصوات من الشعر المعاصر وقضايا الحداثة في الشعر والقصة القصيرة وجماليات النص الشعري للأطفال وأدباء الانترنت وأدباء المستقبل ومن أوراق الدكتور هدارة وأصوات سعودية في القصة القصيرة ونظرات في شعر غازي القصيبي وأدب الأطفال في الوطن العربي بالاضافة إلي جهوده في المعجمية العربية التي تمثلت ـ حتي الآن ـ في إصدار معجم الدهر ومعجم شعراء الطفولة في الوطن العربي خلال القرن العشرين ومعجم أوائل الأشياء المبسط. وفي ختام القائمة يجيء كتابه: بيريه الحكيم يتحدث وهو تبسيط لبعض أعمال توفيق الحكيم للأطفال.
هذا الانجاز الابداعي والبحثي الذي حققه أحمد فضل شبلول في عقدين متتابعين من الزمان ـ إذا اعتبرنا عام1980 بداية الانطلاق الحقيقية لصوته مع صدور مجموعته الشعرية الأولي ـ يكشف عن مدي الجهد والجلد والدأب والمعاناة في مسيرته, وعن كدحه المستمر في دوائر متداخلة من الانشغال الابداعي والبحثي, والعودة من هذا الكدح بصيد وفير يفوق بكثير ماحققه أي من أبناء جيله ـ في الاسكندرية أو في غيرها ـ خلال هذه الحقبة من الزمان.
كما أنه إنجاز يكشف عن الملمح الأساسي في شخصية أحمد فضل شبلول الأدبية, وهو التداخل والتفاعل بين عالم البحث والدراسة بما يمنحه من وعي وصحو ويقظة, وولع بالمعرفة والتفسير والوصول إلي الاجابات, وعالم الابداع بما يتطلبه من احتشاد وعكوف وغيبوبة ووجد فني منصهر في حميا اللحظة الشعرية. هذا الوعي الكاشف وهذا الولع بالمعرفة سيؤديان به في المرحلة الراهنة من إبداعه الشعري لي أن يصبح ـ كما سماه الدكتور السعيد الورقي ـ شاعر الرؤيا الحضارية الذي قدم في ديوانيه الأولين شعرا له عمق الفكر وبساطة التوصيل, مصحوبا ـ إلي حد ما ـ ببعض الابتكارات في الصياغة التي جاءت نتيجة امتزاج الشاعر لديه بالكون, وسعيه إلي أن يكون خالق رموزه وصوره, ونتيجة لاتحاد التجربة الروحية والميتافيزيقية والكيانية والمادية ـ وهكذا عرفنا شبلول شاعرا يحدث أثرا بلا ضوضاء ـ ويتابع شبلول الطائر وجدانيته الحسية في ديوانه الجديد تغريد الآلي ولكن من خلال مفردات كونية جديدة تنهل من علوم الكمبيوتر والطبيعة والكيمياء والفضاء وسائر العلوم المادية الأخري, إلي جانب الطبيعة والانسان, فكأنه بهذا يقدم الطبيعة إزاء المعرفة, والفن في مقابل المادة التكنولوجية.
هذه السطور التي نقلتها من الدراسة الكاشفة للدكتور السعيد الورقي ـ أكثر النقاد الجامعيين في الاسكندرية متابعة لإنجاز أحمد فضل شبلول ووعيا بما يثيره من قضايا واهتمامات, هذه السطور تؤكد بدورها جدلية الوعي والابداع عند شاعرنا, وتعاظم الدور المعرفي لديه, وعناد الرغبة المستميتة في المغامرة من أجل الكشف عن وقع تكنولوجيا العصر وآلياته علي الوجدان الانساني, وتوسيع أقطار الفضاء الشعري ليصبح فضاء كونيا, تملؤه المعرفة الإلكترونية, ويمزقه التناقض بين الكائنين الانساني والآلي, وتثريه ذات شعرية مغايرة, تحاول أن تقبض علي ماتبقي من وهج الغنائية, وأن تتسع ـ في الوقت نفسه لثورة الحداثة, والوعي بالعالم الجديد الذي تتسيده المعرفة العلمية والحضارة المادية.
بينما يتناول الناقد والباحث الجامعي الدكتور حسين علي محمد الظاهرة نفسها في تحولات أحمد فضل شبلول الشعرية, واصفا ما قام به في ديوانه تغريد الطائر الآلي بأنه يؤنسن الآلة ويجعلها تتجاوب وتحس وتشعر, وأنه يعي مايفعله وعيا شعريا. ويستشهد بما قاله الشاعر في مقاله عن الشعر والمنجز الآلي والإلكتروني: إن الاتجاه الشعري في عصر التكنولوجيا والفضاء يتميز عن اتجاه الشعر السابق في وصف المخترعات الحديثة, الذي كان يتناول الظاهرة من الخارج, ولا يقترب منها ولا يرصد وقعها علي المشاعر الانسانية فمجرد وصف غواصة أو سيارة أو طائرة من الخارج ليس له هدف سوي التعريف بالمنجز وشكله الخارجي وكيفية استفادة الانسان منه. وهنا تبرز الذهنية وتتجلي عن مثل هذا الوصف, الذهنية التي تعني التخطيط المسبق للعمل الفني وتوجيه مساره وفقا لهذا التخطيط, الذهنية التي تتمثل في انعدام التلقائية والصدق وعدم الكشف الحقيقي عن هموم الانسان وتطلعاته ورصد مشاعره والتعبير عن انفعالاته.
أما الاتجاه الشعري الجديد ـ الذي يمثله هو في تعامله شعريا مع المنجز الآلي والإلكتروني ـ فإنه يدخل الي قلب المنجز, ويحاول ان يسبر أغواره ويرصد مشاعر الانسان وانفعالاته تجاهه وكيفية تعامله معه, وهل يتقبله وجدانه باعتباره واقعا حياتيا يتعايش معه, أم يرفضه ويقاومه. وهل هذا المنجز سيحط من قيمة الانسان أم سيعلي من انسانيته؟ هذا ما يقوله أحمد فضل شبلول في مقال له يضمه كتابه: أدباء الإنترنت: أدباء المستقبل كاشفا عن الاساس النظري الذي قامت عليه قصائد أحدث دواوينه ورؤياه الشعرية كما يجسدها هذا الديوان, الذي سيظل يغري النقاد والباحثين بالتأمل والتحليل والكشف عن حجم الشعرية فيه وحجم التوفيق بين المادي والانساني في تغلب كل منهما علي الآخر ـ كما لاحظ الدكتور الورقي ـ وتردد القصيدة بين هذا وذاك.
يقول أحمد فضل شبلول في واحدة من أجمل قصائد ديوانه تغريب الطائر الآلي وهي بعنوان جراي.
والجراي هي الوحدة العالمية الحديثة لقياس الجرع الاشعاعية:
كانت نهرا من عسل وصفاء
ينبوعا من رقة
وصفاء
تنجب من دون مشقة
وتغني للبحر وللنورس
للأطفال المحرومين,
وللأطفال السعداء
وأنا
يختمر الاشعاع بكفي
تسقط مني حنجرتي
تتليف أفكاري, أوردتي
ويهاجر أنفي
تتأين تفاحة حبي
تتكلس أزهار الأرحام!
***
ذات مساء
والأحلام تداعب ثغر الأيام
أكلت من تفاحة قلبي
شربت من سحر الأفكار
من ساعتها..
كفت عن كل غناء
سقطت في بئر العقم الأبدي
وفي أوحال الطفرات الجينية
إشعاع,
أورام,
أزمان منغولية
كل جراي
جبل من سم فوق الرئتين
قنبلة من نيترون
وفضاءات من كربون
كل جزيء
يخترق جدار البشرية
ويحولها لخلية
سرطانية
فكفاكم تشعيعا للأمخاخ
وللأعضاء
كفاكم تفتيتا لمشاعرنا
وكفاكم تفليقا للذرات
فأنا أمشي أحمل نعشي
وخلايا الأموات!
عندما قدر لأحمد فضل شبلول أن يغيب عن الاسكندرية, وعن مصر كلها سنوات طويلة ـ من أجمل سنوات العمر الجميل ـ قضاها في السعودية وهو يعمل في مؤسسات النشر والصحافة ـ يقرأ ويكتب ويؤلف ويبحث ويعمل في المعاجم ويشارك في الموسوعات ـ استطاع أن يكون لنفسه رصيدا معرفيا وزادا علميا يقتحم به العصر, ويتابع آفاق المستقبل, ولم تستطع الغربة القاسية ـ بكل ما تسببه من معاناة إنسانية وكشف عن النوازع السيئة والشريرة في نفوس بعض الناس ـ وحتي الأساتذة ـ الذين رأوا في نزوع شبلول الحداثي والمعرفي مروقا وجنوحا وخروجا علي التقاليد والمعتقدات, فأغروا به وظاهروا عليه, تقربا وولاء لأولي الأمر. وكان شبلول يصارحني بهمومه وأحزانه كلما لقيته ـ خلال هذه السنوات الطويلة من الاغتراب, في القاهرة, أو في الرياض ـ من خلال المشاركة في مهرجان الجنادرية ـ كان قلبه ينزف, وهو يعرض لحال الجالية المصرية ـ شأنها في كل مكان من العالم العربي ـ وعندما يتفرغ بعض ابنائها لملاحقة البعض الآخر من الناجحين, يدسون لهم ويكيدون, وينفسون عليهم تفوقهم وتألقهم, خاصة من يظن أنهم في موقع الأساتذة الكبار الذين ينبغي أن يكونوا القدوة والصفوة والمثال. وأغلب الظن أنهم الآن ـ وقد انقشعت الغمة وانهمرت السنون وصار كل في طريق ـ نادمون علي ماحاولوا القيام به ضد شبلول, مناقضا لوعيهم وقيمهم ومسئوليتهم.
وأشهد أني لم أعرف واحدا أخلص ـ طوال سنوات اغترابه وابتعاده عن الوطن ـ لأصدقائه واخوانه كما أخلص أحمد فضل شبلول. لا ينشر خبر أو تكتب كلمة أو مقال أو دراسة أو حتي رأي في تحقيق أدبي إلا ويسارع شبلول ـ في محبة حقيقية غامرة وحب للخير يسري في دمه ـ إلي تجميع هذا كله ـ وإرساله إلي من يعنيه ويخصه من أصدقائه وصحابه ورفاقه, وكأنه عينهم اليقظة المتابعة, وسفيرهم الثقافي والأدبي حيث هو, وساعدته طبيعته البحثية والدراسية علي القيام بهذا الدور, في يسر وطواعية, دون كلل أو ملل وعلي مدار السنوات المتطاولة.
ولم تغب الاسكندرية ـ محبوبته الكبري ـ عن وجدانه طوال سنوات المنفي والاغتراب ـ كانت دائما تشرق بين سطوره وتسطع ملء كلماته, يغني لها, ويهتف عند لقائها, محتضنا بحرها ورمالها وطيورها في شحنة وجدانية وجودية عارمة, وهو يقول:
الرمال تودع أحزانها
وتجفف ذراتها
الطيور تحلق فوق الشواطيء
عشاقك الأقدمون يجيئون من كل فج عميق
***
القوارب تسبح بين يديك
البحار تراقص ألوانها
وتدلل أمواجها
الشباك تداعب أسماكها
فاهدئي يانوارس
إن الطريق إليك مضييء
***
دائما تشرقين
فأنت الزمان الذي لا يدور إلي شمس
وأنت الجمال الذي لم يقف
عند نهر الحقيقة
وسواك, مساحيق من عنفوان
دائما تخلصين لعشاق هذي البحار
الذين سقتهم دموع الرمال
قناطير ملح وهم
ثم عادوا ـ فرادي ـ كمثل الحجار
إنهم قادمون:
السماء تغني لنا
والطيور تحط علي صدرنا
إنهم قادمون:
فافتحي صدرك الآن للعابرين
الذين يجيئوننا تائبين
فأنت الزمان الذي لا يدور
وأنت الجمال الذي لم يقف
عند نهر الحقيقة!
ولقد عاد شبلول ـ بعد طول اغتراب ـ إلي محبوبته الاسكندرية, ليقوم بدوره المحوري في حركتها الأدبية والثقافية, مزودا بالمزيد من الخبرة والوعي والنضج, ومستشرفا ما حلم به دائما وراهن عليه.
عذرا الى النادي العريق ابثه زفرات وجد قد ثوى بفؤادي
ياويح قلب وزعت أشواقه بين الحبيب وبين هذا النادي
مجدي خاشقجي
(34) الجواهري: صراع القديم والجديد في شعره
الجواهري وعمود الشعر:
إذا كان البحتري كان يقول عن نفسه في البَيْنُونة بينه وبين أبي تمام: "أبو تمام أغوص على المعاني وأنا أَقْوَمُ بعمود الشعر منه" وكان القدماء أطلقوا القول المشهور: "أبو تمام والمتنبي حكيمان والشاعر البحتري" فأننا يمكن أنَّ نقول أن الجواهري، جمع بين الحكمة والشعر، وفي إطار المذهب القائل آنذاك: أن الشعر من الشعور، أو لأنَّ الشعر تمثالُ الشعور، ومرآةُ النفس، وصورةُ الصور)- كما قال الشيخ محمد حسن آل كاشف الغطاء في شعر الجواهري.
وهذا يعني، أيضاً، وبالرغم من المفهوم السائد عند أشياخ ابن خلدون، أن الشاعر من يتّبع "أساليب الشعر عند العرب" أي مَنْ يقوم بعمود الشعر- حسب توصيف المرزوقي في مقدمته على (شرح الحماسة) - أي اتباع تقاليد الشعر عند العرب التي تعني في جملة ما تعنيه، أَلاّ يتجاوز الشاعرُ الاستعمالات اللغوية المُعتدّ بها عند شعراء الجاهلية وصدر الإسلام. أي الابتعاد عن الغموضِ والغوصِ في الأَعماق ..؟..، بحثاً عن الجواهر وأبكار المعاني، وانتهاج طريقة العرب في تأليف الأشعار.
أقول، بالرغم من هذا.. فإنّ أبا تمام والمتنبي، وحفيدهما، شعريّاً، الجواهري، يُعَدُّون من أهل (الحداثة) -كلٌ بالقياس إلى زمنه، وبالقياس إلى مفهوم القادمة في الشعر. (عمود الشعر)- بالرغم من أنَّ التحديث أو الحداثة هذه (مُحافظةٌ) على شكل الأشكال- إن جاز القول- أي الشكل الخارجي- الإطاري- التقليدي للقصيدة: (البيتَ ذا الشطرين والوزن والقافية الموُحَّدة). أي أن حداثتهم، حداثة (جوّانية) -مُمثَّلَةً في خلخلة البنية الداخلية للشعر من خلال استحداث المعاني واستدخال ثقافة العصر، والتعبير عن ذلك بالاستعارات البعيدة، والتجنيس والمطابقة والموازاة والصور غير المألوفة.. وغير ذلك مما لم يأْلَفْهُ نظام القريض قبلهم.
وفي هذا الاعتبار، يمكن أن نقول: أَنَّ الجواهري شاعرٌ مُؤْتَلِفٌ ومُخْتَلِفٌ في الوقت نفسه. أو أَنَّ هناك "شِدَّة اختلاف في شدّة ائتلاف" على حدّ تعبير الجرجاني/
فهو مختلف، أولاً، في اتجاهين:
الأول: بالقياس إلى الشعر التقليدي في زمنه، والذي وصفه الشيخ باقر الشبيبي بأّنّه، في أوزانه وقوافيه، أُقل من الجبال وأوعر من الصخور، بينما شعر الجواهري/ والشعر مصدره الشعور الحيّ -كما قال- أَعلى من هذا القصيد.. إنّه قصائد تهزُّ الأرواح وتُثير النفوس، وحسبها أن تكون مَعْلَماً يُمْلي عليك فلسفة الحب ومعنى الوطنية ودقّة الوصف.
إنّ شاعرية الجواهري- وكما قال الشاعر علي الشرقي- مُتَّجِهةٌ إلى الجمال: جمال الجمال، وجمال الوطن، وجمال الحرية. وإنَّه لوصَّافٌ بارع.
ثانياً: والجواهري مُختَلِفٌ بالقياس إلى شعر الحداثة بعد الاختراق الذي أحدثه السيّاب والبياتي ونازك وأدونيس... من الرواد في بنية القصيدة العربية وشكلها البَصَري.
لكنّ الجواهري، مؤْتَلِفٌ في إِطار الحداثة على نهج أبي تمام والمتنبي، في أن يكون الشعر مُمثِّلاً في جوهره لروح العصر. في موضوعاته وبالصيغ التعبيرية الملائمة. أي أنه الشعرُ النَّمام عن الشعور، قال:
يا شِعْرُ نُمَّ على الشعور فكم وكم
نَمَّتْ على زُمَرِ العواطفِ أَحْرُفُ
لقد ظلّ الجواهري شديد التمسك بالصيغة الكلاسيكية التي تتمثّل في (عمود الشعر) -ولم يخرج عن ذلك إلاّ في محاولات محدودة سنأتي على ذكرها- لكنه من جهة أُخرى راح يُنوّع الأساليب داخل الأسلوب الواحد.
الجواهري: أساليب في أُسلوب:
ونعني بهذا، أن القولَ القائل بأَنَّ العرب لم تعرف سوى ضرب واحد من أساليب الشعر، القصيدة (داخل إطار الشكل التقليدي) يغفل حقيقةً جوهرية، هي تنوُّعُ الأساليب داخل الأسلوب الواحد /الشكل الظاهر/ بحسب مسالك الشعراء في طُرق الشعر وبحسب تصعيد النفوس.
وبمعنى آخر، وحسب حازم القرطاجني، أَنْ يوائم الشاعرُ بين الموضوع والأسلوب الذي يُعبِّر فيه عن الموضوع. فالأسلوب في المعاني: (صورةٌ وهَيْأَة يحصل عن كيفية الاستمرار في أوصاف جهة من جهات غرض القول وكيفيّة الأطّراد من أوصاف جهةٍ إلى جهةٍ..) وهكذا تتنوّع: (أساليب الشعر بحسب مسالك الشعراء في كل طريقة من طُرق الشعر، وبحسب تصعيد النفوس فيها إلى حُزونة الخشونة أو تصويبها إلى سهولة الرِقَّة أو سلوكها مذهباً وسطاً... الخ)
وإذا رجعنا إلى الجواهري فإننا نجده، وبالرغم من التزامه بـ (عمود الشعر) بتقنياته الموروثة المعروفة- مع تنويعات سْلكية -كما قلنا سنأتي عليها- كان يُنوّع أُسلوبه أو أساليبه بحسب الموضوعات والبواعث الداعية لقول الشعر: فهو مرَّة يشتدُّ ويَعْنُف، ومرَّة يَرِقُّ ويَعْذُب، وثالثة يتواسط بين العنف والرقة، ورابعة يسخر ويتهكّم، وخامسة تجده الحكيم المفكر.. الخ. وعلى سبيل المثال:
أولاً: من الأسلوب المبنيّ على العنف والشدّة، قصيدته في تأبين الشهيد عدنان المالكي:
خَلَّفْتُ غاشيةَ الخنوع ورائي
وأَتيتُ أقبسُ جمرةَ الشهداءِ
وقصيدته أو قصائدهُ: دم الشهيد، يومَ الشهيد، وأخي جعفر. وكلّها من قصائد ..؟.. كانون 1948. ومن أخي جعفر. قوله:
أَتعلمُ أَمْ أنتَ لا تعلمُ
بأنَّ جراحَ الضحايا فَمُ
فَمٌ ليس كالمُدَّعي قولةً
وليس كآخر يستفهمُ
يصيح على المُدْقعينَ الجياعَ
أريقوا دماءَكم تُطْعَمُوا
ثانياً: ومن الأسلوب المبنيّ على السخرية والتهكم. قصيدته (طرطرا) وهي على النمط الساخر والوزن من القصيدة الدُّبدبيّة المشهورة في العهد العباسيّ. ومنها:
تقدَّمي تأخَّري
إي طرطرا تطرطري
تهوَّدي تنصَّري
تشيَّعي تسنَّني
تهاتري بالعُنْصِر
تكرَّدي تعرَّبي
وهكذا قصيدة (تنويمة الجياع):
نامي جياع الشعب نامي
حَرَسَتْكِ آلهة الطعامِ
نامي فإن لم تشبعي
من يقظةٍ فمن المنامِ
نامي على زُبْدِ الوعودِ
يُدافُ في عسل الكلامِ
ومثل ذلك قصيدته: (أطبق دجى) المشهورة.
ثالثاً: ومن الأسلوب المبنيّ على الرِقَّة والليونة، قصيدة (سلمى على المسرح)؛ ومنها:
العبي فالهوى لَعِبْ
وابعثي هِزَّةَ الطَرَبْ
مثِّلي دَوْرَكِ الجميل
على شُرْعةِ الأدبْ
أحسني نُقْلَةً وإِنْ
تَعِبَتْ هذه الرُكَبْ
رابعاً: ومن الأُسلوب المبنيّ على التواسط بين الشدّة والليونة، قصيدة (أُم عوف):
يا أُمَّ عوفٍ عَجيباتٌ ليالينا
يُدْنينَ أَهواءَنا القصوى ويُقصينا
في كلِّ يومٍ بلا وعيٍ ولا سببٍ
يُنْزِلْنَ ناساً على حُكْمٍ ويُعلينا
خامساً: ومن الأسلوب المبنيّ على الفِكر والقلق الوجودي، قصيدته في ذكرى الرصافي (1959).
لُغْزُ الحياةِ وحيرةُ الأَلبابِ
أَنْ يستحيلَ الفِكْرُ محض ترابِ
أَنْ يصبحَ القلبُ الذكيُّ مَفازةً
جرداءَ حتى من خُفوقِ سرابِ
فيمَ التحايلُ بالخلودِ، ومُلْهَمٌ
لحفيرةٍ، ومُفكِّرٌ لتبابِ
سادساً: ومن الأسلوب المبنيّ على السرد القصصي: (رباعيات- 1960) مثل (بغداد في الصباح) (قلت وقال..) (حرامي بغداد..) وقصيدة (أفروديت..) (1946) بعد قراءته قصةً للكاتب الفرنسي بيير لويس نقلها إلى العربية محمد الصاوي محمد. منها:
وكانت من الرقَّةِ..
ثُمَّ نادتْ "جالا"
من بنات "الهنودِ"
كالماءِ إذْ يَهُزُّ الخيالا
تعرفُ ما يُرضي الغواني
وما يَزينُ الجمالا!
مَنْ أتى أَمس..؟
خبّريني..!
ألا تدرينَ..؟
كلاّ.. فلستُ أُحصي الرجالا!
... ... ... الخ.
سابعاً: الأسلوب المبنيّ على الأوزان ذات الأيقاع السريع والقوافي ذات الجرس الموسيقي الأنيس. مثل قصيدته: (خَبَت للشعر أنفاس) (1954):
خَبَتْ للشعر أَنفاسُ
أَمْ اشتطَّ بكَ اليأسُ؟
أم الحيُّ، وقد أَغفيْتَ،
إبلاسٌ وإِخراسُ؟
كأَنْ لم يَعترِفْ ناساً
فهل أنتَ به الناس؟
ومثل قصيدته (زوربا) (1969) المستوحاة من رواية (زوربا) وموسيقاها، وحيث يُرتّب الشاعرُ الأبياتَ، ترتيباً مُوقَّعاً على إيقاع الموسيقى. هكذا:
وارتَمَتْ من شفقٍ دامٍ
على الأرضِ جراحٌ..
وجراحْ
وتهاوتْ فوقه..
من مِزْقِ الغيمِ..
صبيَّاتٌ ملاحْ
و"الكراكي" عُصَبٌ دُكْنٌ
تشابكْنَ جناحاً...
وجناحْ.
ثامناً: وعلى رأي رئيف خوري الذي يرى أن الشعر الحديث (الحُرّ) ليس أكثر من توزيع بيت الشعر التقليدي على عِدّة أسطر، يكتب الجواهري قصيدة (الشيخ والغابة) (1959) مُتحسّراً على ذهاب الشباب، ومتمنياً لو رجع الشيخ إلى صباه! منها:
" ورأى الشيخُ ظِلالَ الغابةِ الدكناء..
أشباحاً تلوحُ.
بعضها يَعْصِرُ بعضاً..
فتمنّى لو يروحُ.
ثمَّ غامتْ صُورٌ..
ردَّتْهُ كالهِرَّةِ..
أسيانَ شجيَّا!
آهِ.. لو كان فتيَّ
آهِ.. لو ردَّت إليه..
آهِ.. ممّا فات شيَّا!"
تاسعاً: لكنّ الجواهري في قصائد مثل (باريس) ومجموعة قصائد (أنيتا) (1948) وهي أربعة (شهرزاد، ذكريات، فراق، وداع، يستفيد من نظام بعض الشعر المهجري والموشحات، حيث يتم توزيع المقاطع والقوافي في نظام مُطَّرد. ومن قصيدة (شهرزاد) وهو (أجمل المراقص الفنية في باريس) هذا المقطع:
"إنّ وجهَ الدُّجى (أَنيْتَا) تجلَّى
عن صباحٍ من مُقلتيكِ أَطلاّ
وكأنّ النجومَ أَلْقَيْنَ ظِلاّ
في غديرٍ مُرَقْرَقٍ ضَحْضَاحِ
بين عينيكِ نُهْبَةً للرياحِ
وغياضُ المروجِ أَهدتكِ طَلاَّ
إنَّ هذا الطيرَ البليلَ الجناحِ
المُدوّي على متونِ الرياحِ
والذي أَزعجَ الدُّجى بصياحِ
عَبَّ في الليل من "ثُغورِ" الأَلقاحِ
رشفةً مجَّ عِطْرَها وتولَّى
حيثُ هذا الرأس الجميلُ تدلَّى
والفِراشُ الذي به يتملَّى
وبحيثُ ارتدَّتْ هَباءً نثيرا
تملأُ النفسَ والفضاءَ عبيرا
خِصلاتٌ من شَعْركِ الذهبيِّ
كنتِ فيه الثريَّ أيَّ ثِريِّ."
عاشراً: والجواهري باعتباره حافظ (عمود الشعر) لا يجد حرجاً في أن يستأنس بصور وألفاظ هي من استخدامات القدماء. مثلا قصيدته (في الليل) (1921):
وليلٍ دجوجيِّ الحواشي سَعرْتُهُ
بنارِ الأَسى بين الجوانح فاسْتَعَرْ
نشرتُ به الآمالَ وهي هواجسٌ
بعقْدِ الثريّا لو غدا مِثْلَها انتثرْ
وردَّدَ لي همسُ الطبيعة نغمةً
من الشعر ما كانت سوى خاطر خَطَرْ
أو تضمينه شيئاً من الشعر القديم- الوقوف على الأَطلال- كما نجد ذلك في قصيدةٍ يُضمِّنُ فيها مطلع قصيدةٍ للبيد:
“بَلِينا وما تَبْلى النجومُ" الرواكدُ
رسومٌ عَفَتْ منها الفَلا والمحامدُ
أحد عشر: لكنَّ الجواهري في الوقت نفسه، لا ينسى أن يأخذ نصيبه من عصره، فيكتب فيما سُمِّيَ أيام ذاك بـ (الأدب المكشوف): قصيدة (بديعة) (1932) وهي راقصة في مرقص "..؟.. عزاوي". وقصيدة (عريانة) (1932). ومن الأخيرة:
أنتِ تدرينَ أَنّني ذو لُبانَهْ
الهوى يستثيرُ فيَّ المَجانَهْ
وقوافيَّ مثل حُسْنكِ لمَّا
تَتَعرَّينَ حُسرَّةٌ عُريانَهْ
وإذا الحبُّ ثار فيَّ فلا تَمْـ
ـنَعُ أيُّ احتشامةٍ ثَوَرانَهْ
ولابد أن نقول أخيراً. أَنّ هذا التصنيف لأساليب الشعر داخل الأسلوب الواحد، لا يعني بأيّ حال، أن كلّ قصيدة بتمامها تدخل في إطار الصِنْف. فغالباً ما نجد القصيدة الواحدة تجمع بين أكثر من لغة وأسلوب.. ذاك أن حياة الجواهري -كما هو معروف- تقلّبت بين: القسوة والمرارة، الحُبّ والعذوبة، الرحيل والإقامة، الجدّ والسخرية.. وبتعبير موجز، إنّنا نجد في شعر الجواهري تواشجاً قوياً بين حالات النفس في الغضب والرضا، الزمان والمكان، الحلّ والترحال، الشباب وفقدان الشباب، وبين اللفظ والمعنى أو ما أَطلق عليه حازم القرطاجني(إحكام التأليف)، وبين المرئي والمسموع، والفكرة، والصورة. ذاك أن الجواهري، وكان قال فيما يراه (قصيدة عصماء):
أنا لا أرى العصماءَ غَيْرَ عقيدةٍ
مُنْسَابةٍ في فكرةٍ عصماءِ
ومن الأمثلة على التواشج بين الزمان والمكان، في الوطن
أو الغُربة، هذه الأبيات من قصيدته (خلّي ركابِك) - براغ 1973:
خلّي ركابكِ عالقاً بركابي
قصَرُ الطريق بُطبل في أَتعابي
سأَضُمُّ في قبري لتُؤْنسَ وحشتي
رَعْشَ الشفاهِ، ورجفةَ الأَهدابِ
قَسماً بعينيكِ اللتين استودعا
سِرَّ الحياةِ، وحيرةَ الأَلبابِ
نحن السبايا "أربعٌ" في غربةٍ:
أنا، والهوى، ويدي، وكأسُ شرابي
قد كنتُ أُصْعَقُ في حضوركِ دهشةً
فتصوّريني مِنْكِ رَهْنَ غيابِ
ومن ذلك قصيدته (1969):
أَرِحْ ركابَكَ من أَيْنٍ ومن عَثَر
كفاك جيلان محمولاً على خَطَرِ
وبين المرئي والمسموع، قصيدته (يا دجلة الخير):
يا دجلة الخير، يا أطيافَ ساحرةٍ
يا خمر خابيةٍ في ظل عرجونِ
يا سكتة الموت، يا إعصار زوبعةٍ
يا خنجر الغدر، يا أغصان زيتون
حيث يتعانق الأصوات والصور المرئية لتؤثّث ظاهرة معنوية عاطفية ذات دلالات اجتماعية -وسياسية إلى حدّ ما..
وأخيراً هذا التلاحم بين الفكرة والصورة في قصيدة (لبنان- 1932) وبين الإحساس بالكهولة والشعور بالزوال -الموت:
أرجعي ما استطعت لي من شبابي
يا سهولاً تدثّرت بالهضابِ
غسلَ البحر أَخمَصيْها، ورشّتْ
عبقاتُ الندى جباهَ الروابي
وقوله:
لبتَ السماءَ الأرضَ، لبتَ مدارها
للعبقريّ به مكانُ شِهابِ
أنا أبغضُ الموتَ اللئيم وطيفَهُ
بُغْضي طيوفَ مخاتل نصّابِ
يَهَبُ الردى شيخوختي ويقيتُها
بكهولتي، ويقيتُها بشبابي
ذئبٌ ترصّدني وفوق نيوبهِ
دَم إخوتي وأَقاربي وصحابي
عذرا الى النادي العريق ابثه زفرات وجد قد ثوى بفؤادي
ياويح قلب وزعت أشواقه بين الحبيب وبين هذا النادي
مجدي خاشقجي
(35) مطر في جنازة السياب
البيان
الأحد22 شوال 1422هـ 6 يناير2002 -العدد 104
بقلم: كامل عبدالله
كان يوما بعيدا لكن الذاكرة لاتزال تحتفظ بشيء من ملامحه ، حين وقعت عيناي على ملحق ادبي اصدرته صحيفة «الجمهورية» العراقية استذكارا منها لبدر شاكر السياب يومها لم اكن اعرف بدرا ولا كنت أعرف مكانته في ساحة الشعر العربي المعاصر ، حملت تلك الصحيفة التي خصصت ـ على ما اتذكر ـ ثماني صفحات نصفية تابلويد الى والدي ـ رحمه الله ـ مستفسرا عن ذلك الناحل الذي تطفح من عينيه ملامح الأسى الشفيف وصورته على غلاف ذلك العدد من الجريدة.
منذ ذلك الحين بدأت علاقتي بالسياب ، انسانا وشعرا، وقُدِّر لي ان اعرف بعد ذاك ان صحيفة أسرتنا «الحرية» التي كانت ايام الخمسينيات والستينيات صوت الحركة القومية العربية في العراق ضمَّت بين أركانها «السياب» واحدا من ابرز العاملين فيها، يوم كان مطاردا مفصولا من الوظيفة الحكومية، ويوم ان كان يبحث عن فرصة للعيش بعيدا عن أعين رجال الأمن وهم يطاردون الشاعر الكبير، ولعلها كانت مفارقة كبيرة باعثة على الأسى والضحك أن يكون بدر شاكر السياب مطاردا حتى من قبل رفاقه الذين يشاطرونه الانتماء السياسي لكنهم لا يشاطرونه حسه الوطني ورؤيته الثاقبة .
واليوم يستذكر شعراء العراق وادباء العربية المجتمعون في مهرجان المربد الشعري الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب حيث مر يوم الرابع والعشرين من الشهر الحالي الذكرى السابعة والثلاثين لوفاته.
لقد كانت رحلة شاقة محزنة هي حياة السياب لم يعرف فيها الفرح ولا مرة واحدة حسبما اسر الى احد اصدقائه القدماء .
تربع السياب على عرش الشعر الحر في العراق واكد الشاعر من خلالها ان حركة الشعر الحر اكثر من مجرد اصطلاح وعروض، اذ كتب في عام 1954 قائلاً: ان الشعر الحر اكثر من اختلاف عدد التفعيلات المتشابهة بين بيت شعر واخر، انه بناء فني جديد واتجاه جاء ليسحق الميوعة الرومانسية وادب الابراج العاجية وجمود الكلاسيكية.
كان السياب في مقدمة الشعراء العرب الذين خاضوا غمار مغامرة تجاوزت نظام الاوزان والقافية الواحدة في الشعر العربي القديم واسهموا في ولادة الشعر الحر الذي تحرر من قيود القافية والوزن.
ولد السياب عام 1926 في قرية جيكور جنوب محافظة البصرة التي تعد اشهر قرية في الادب العربي الحديث إذ تغنى بها الشاعر وبجدولها الصغير بويب المتفرع من شط العرب ووصفها بانها جنة ذات نخيل، وما زال بيت الشاعر السياب هناك قد اكلت العديد من اجزائه السنون كما مازال شباك غرفته الطينية في القرية يطل على النهر الصغير الخالد الذي قال عنه انه الدانوب في نظره.
كانت طفولته سعيدة يحب مراقبة السفن والمراكب وهي تصعد الى البصرة او تنحدر الى الخليج العربي وتركت حكايات جدته انطباعات عميقة الاثر في نفسه جسَّدها شعراً فيما بعد .
اتم الشاعر دراسته في مدرسة المحمودية في قضاء ابي الخصيب المعروفة بشناشيلها ذات النوافذ الزجاجية الملونة والمزينة بالخشب المحفور بالزخارف العربية وكانت هذه الشناشيل المنتشرة في بيوت اثرياء البصرة وبغداد موضوع قصيدته شناشيل ابنة الجلبي التي خص بها محبوبته ابنة احد اثرياء البصرة وانهى دراسته الثانوية في ثانوية البصرة للبنين وكان من الطلاب البارزين فيها وتعد قصيدته غريب على الخليج التي كتبها من اقدم قصائده المخطوطة وفيها عبر عن اساه العميق لضياع احلام حبه، وليس كثيرا ان يطلق على هذه القصيدة تسمية القصيدة الوثيقة لدقة ما يصور فيها الشاعر خلجات نفسه وأحلامها .
التحق شاعرنا بدار المعلمين العالية في بغداد ودرس فيها اللغة الانجليزية وبرز من خلال النشاطات والمجالس الادبية التي كانت تقام في بغداد وفي دار المعلمين العالية بدأت شهرة السياب تزداد وكانت قصائده تتداول بين الطلاب.
وتأثر السياب بالادب الاوروبي، وكان بودلير اول شاعر غربي يتعرف على شعره من خلال ديوانه ازهار الشر وكان الشعراء الانكليز الرومانسيون من امثال كيت وبايرون وودرورث من مصادرة المهمة الاخرى.
وبينما يؤرخ النقاد للشاعر الانجليزي اليوت من محتوى قصيدته الطويلة ذات الايقاع والاجراس الخزائنية الارض اليباب فإن المؤرخين يتحدثون عن السياب رابطين قدرة الشاعر وتاريخه وحياته بقصيدة المومس العمياء التي يقال انها قصة مومس عمياء كانت تسكن احد احياء بغداد القديمة ابان الأربعينيات من القرن الماضي.
عمل السياب بعد تخرجه مدرساً في عدد من مدارس العراق منها ثانوية الاعظمية ثم موظفاً في مصلحة الموانيء العراقية بعنوان رئيس ملاحظين لكنه جوبه مرات عديدة بالفصل لمواقفه الوطنية، وهنا تكون اتجاهه السياسي واصبح للشعر وقع الصاعقة في الكثير من الاوساط وداهمه رجال الامن اكثر من مرة وكان يمرق بجسمه الناحل الى السجون ليخرج منها مكبلاً بالاحزان والمخاوف والاشعار ايضاً.
وقد لاحقته لعنة المرض الذي الم به اضافة الى لعنة الاضطهاد وتعرض للحرمان الدائم والالم حيث ظل اواخر حياته متنقلاً من مستشفى الى اخرى داخل العراق وخارجه الى ان اختطفه الموت في الرابع والعشرين من ديسمبر عام 1964.
وعلى الرغم من ان حياة الشاعر العراقي الكبير بدر شاكر السياب لم تمتد طويلاً، إذ انها لم تتواصل سوى لثمان وثلاثين عاما الا انه خلف ثروة شعرية احدثت انعطافاً كبيراً في مسار القصيدة العربية المعاصرة وتمثلت بالدواوين والاثار الادبية منها ازهار ذابلة الذي كان محط مشاكسة للعديد من النقاد حيث قال بعضهم انه ارخ للشعر الحديث في العراق بينما قال اخرون ان نازك الملائكة سبقته الى ذلك في قصائد مبكرة لها، اضافة الى دواوينه الشعرية الأخرى اساطير انشودة المطر، المعبد الغريق، شناشيل ابنة الجلبي منزل الاقنان اقبال، قيثارة الريح، اعاصير والبواكير.
كتبت عنه مدينته البصرة في صحيفتها الاسبوعية قائلة: لقد مرت الاحداث كثيرة في حياة الشاعر فتراه يعين في دائرة ما فيفصل منها ثم يلغى قرار الفصل فيعود الى الوظيفة ويسافر ويعود ليودع في السجن ثم يطلق سراحه ليسافر وهكذا ..رحلة عجيبة اسطورية لا تكاد تشبهها رحلة لشاعر في عصرنا الحديث .
عاش ايامه الاخيرة غريباً مريضاً معوزاً تخلى عنه اصدقاؤه الا صديقا واحدا هو الشاعر والصحفي علي السبتي .
بعد ان يئس الاطباء في البصرة وبغداد ولندن وباريس وروما وبيروت من شفائه يعود نصف حي الى البصرة لعله يجد في المطر والنخل والماء ورائحة جيكور شفاء لمرضه، غير ان الدهر ما انفك يلعب مع الشاعر الحزين لعبته الشهيرة، لعبة الحياة والموت او لعبة الموت والموت،
فيسافر الى الكويت حيث يكون الشاعر علي السبتي بانتظاره ليدخل المستشفى ثم ليخرج منه يائساً من الشفاء غير يائس من الشعر، فيطبع ديوانه شناشيل ابنة الجلبي وحين يوهم نفسه بقليل من الصحة يكتب لصديقه الاستاذ عبد المنعم الجادر رسالة يحن فيها ويشتاق الى بغداد يرغب ان يجلس على دجلة ساعة او يمشي ولو بعكازين أحمقين في شارع ابي نواس، يشرب الشاي في مقهى الكسرة، لكن الشاعر يحلم دائماً فالموت يتوعده ويتربص به، الموت الذي افزع القديسين والجبابرة معاً، كان بانتظار الشاعر،
ففي 24 يناير1964، حين كانت السماء تلم باطرافها مسودة بسحب قاتمة وثقيلة، توقفت سيارة نوع مرسيدس ملطخة إطاراتها بطين لا يزال رطبا، وقطرات من مطر على زجاجتها الامامية يقودها علي السبتي، عليها صندوق يضم جثمان الشاعر قرب مسجد في البصرة القديمة ثم تكمل سيرها الموحش نحو مقبرة سيد التابعين الحسن البصري في الزبير... لم يكن الموكب مهيباً، ولم يحمل الشاعر على عربة مدفع فهو لم يكن زعيماً في فصيل لفرسان يوماً ما، ولم يكن ابداً غير شاعر تفخر الانسانية به، اعطى عمره القصير كتاباً ليظل به خالداً ابداً .
لم يتبع الجنازة سوى ستة رجال غير ان المطر ما انفك يرافق الشاعر حتى ووري التراب لكن المشيعين جميعاً كانوا يرددون :
في كل قطرة من المطر
حمراء او صفراء من اجنة الزهر
وكل دمعة من الجياع والعراة
وكل قطرة تراق من دم العبيد
هي ابتسام في انتظار مبسم جديد .
عذرا الى النادي العريق ابثه زفرات وجد قد ثوى بفؤادي
ياويح قلب وزعت أشواقه بين الحبيب وبين هذا النادي
مجدي خاشقجي
(37) الزهد في الحياة (ابوالعلاء المعري)
ابو العلاء المعري كان قد وجد الراحة العظمى في الوحدة ، يشكو العزلة ويرضى بالابتعاد عن الوجع ويقارع صروف الدهر ويرضى بالناس زادا لحياة وسمت بالاعتزال والاغتراب، في حالة اختار هو لذاته ان تكون قرينة للبؤس والطبائع الموحشة .
الطهارة في التباعد والاقصاء حالة مارستها النفس منذ القدم وبالاعتزال ارتبط مفهوم النسك والرهبة وابو العلاء المعري شعر بالاغتراب بصورة تظهر في عدة مواضع تبرزها ابيات شعر عدة منها قوله :
اراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عن الخبز الينيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي
وكون النفس في الجسد الخبيث
هذه عزلة لم تكن ميسورة كما شاء صاحبها فالتف حوله الطلاب واشتغل بالتعليم والتأليف فنحا باختياره نحو العزلة وكان يلقى زواره نادرا لكنهم اقتحموا عليه عزلته فشغلوا به على كره فيه ..
ايا كانت مشهدية ابي العلاء الا انه يظل صاحب الابداع المعتزل، قانعا باليسير غير راغب في اية زيادة على رزقه وفي هذا يقول :
خفف الوطء ما اظن اديم
الارض الا من هذه الاجساد
رب لحد قد صار لحدا مرارا
ضاحك من تزاحم الاضداد
وهنا القصيدة تنم عن موقف فكري مبكر عند ابي العلاء وما سيؤول اليه فكره في شيخوخته، هذا الموقف من الكون الذي يتعامل معه الشاعر لكنه كون مليء بالشعور بالاغتراب.
هنا لم تكن القصيدة رثاء لصديق بقدر ما هي رثاء للانسانية، يتجاوز به الجزئي المحدود الى الكلي اللامتناهي ويبدأ بالمعاناة الفردية ليشمل المعاناة الكبرى، وابو العلاء يرفض الحياة لانها في حقيقتها تؤول الى الصفر فيبدأ برصد اللاجدوى في كل الاشياء،وبايراد المتناقضات مثل: وغير مجد .. نوح باك، ترنم شادي، حتى تساوى لديه المبشر بمولود مع صوت النعي وتساوى الحزن مع الفرح فصوت الحمامة قد يكون مبكيا عند قوم لكنه عند اخرين مبهج.
لكن ايا كان الموقف فابو العلاء عايش لحظة الاغتراب التي ظلت ملازمته لشعره وبقيت في لزومياته، فانصرف عن الدنيا وملذاتها وتذوق العزلة ما امكن له ليشعر باللذة والامان، وقهر دوافع الجنس بارادة وعزيمة نادرة، فامتلك ناصية المجد والوقار والكبرياء وانتصر العقل :
تخير فاما وحدة مثل ميتة
واما جليس في الحياة منافق
غير انه يعد الابتعاد جزءا من الطهارة لقوله:
طهارة مثلي في التباعد عنكم
وقربكم يجني همومي وادناسي
وقد عاب الناس ابا العلاء على تقشفه وعزلته، فلم يسكت على اللوم بل راح يرد عليه وبصورة خاصة على داعي الدعاة الفاطمي المؤيد في الدين ابي عمران بن هبة بن موسى الشيرازي ومما جاء في رده عليه : >وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور <.
العزلة والابتعاد والشعور بالنفي كان لها ما يؤسس لها باعتبارها تعبر عن حالة معينة ومثلما اعتزل ابو ذر الناس في ربذته، تنحى السياسة جانبا وحال لسانه قول ابي العلاء:
ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا
تجاهلت حتى ظُنّ اني جاهل
ابو العلاء قاوم كل حالات التردي وكانت ابهى قصائده تلك التي رثا بها ابا حمزة الفقيه الحنفي فقال :
غير مجد في ملتي واعتقادي
نوح باك ولا ترنم شادي
وشبيه صوت النعي اذ قيس
بصوت البشير في كل نادي
ابكت تلكم الحمامة ام غنت
على فرع غصنها المياد
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب
فأين القبور من عهد عاد
لكن خوف ابي العلاء ظل من الموت الذي عبر عنه الشاعر رايلكه بقوله ان في مشيئتنا دائما ما ينطق باننا في طريقنا الى الرحيل، وربما كان عدم البقاء هو المعنى الاوحد لهذا الوجود.
وابو العلاء خاف الموت بدافع الفطرة فعبر عن زهده الاكيد بالحياة ثم ركن اليه بفكره المتأمل فاذا به المخلص من المعاناة والآلام بقوله :
يريحك من عيشة مرة
ومال اضيع ومال ملك
ومن يكن يوم الوغى باسلا
فالموت في جملته ابسل
عذرا الى النادي العريق ابثه زفرات وجد قد ثوى بفؤادي
ياويح قلب وزعت أشواقه بين الحبيب وبين هذا النادي
مجدي خاشقجي
(38) هارون رشيد: اكتفي بأن يكون شعري صورة حقيقية عن مأساة ومعاناة الشعب الفلسطيني
حوار: عبدالرحيم عبدالواحد
عاصر الشاعر هارون هاشم رشيد محنة الاحتلال ومعاناة الغربة وشاهد بأم عينيه عسكر الجيش البريطاني قبل الاسرائيلي يهدمون المنازل ويقتلون الاطفال والنساء والشيوخ حتى اصبحت تلك المشاهد هي الصورة اليومية لحياة المواطن الفلسطيني. ومن رحم هذه المحن اطلق هارون هاشم رشيد عهده في النضال حتى آخر بيت شعر، ولا يزال على ما عاهد عليه، فتغنى بالشهداء وتفاخر بالمعتقلين الشرفاء، ووقف مع المقاتلين من أجل استرجاع الحقوق الفلسطينية من الاحتلال الاسرائيلي.
تمخضت رحلته الشعرية طوال نصف قرن عن اكثر من 40 مطبوعة بين نثر وقصيدة ونقد ادبي، حيث كان عبارة عن مرصاد لحالات العذاب والمرارة التي يعيشها الشعب الفلسطيني وليس أدل على ذلك من مجموعته الشعرية «مع الغرباء» في عام 1954 نقطة تحول مهمة في نوعية الشعر الفلسطيني وخاصة انه اول الشعراء الذين استطاعوا وصف حياة الاغتراب للمواطن الفلسطيني في الداخل والمهجر. وشاءت الاقدار ان يعيش عذابات هذا الشعب، واطلقت عليه الالقاب الكثيرة منها: شاعر النكبة وشاعر العودة، بل واكثر من ذلك فقد استخدمت كلماته واشعاره في اكثر من 150 اغنية لفنانين ومطربين كبار منهم على سبيل المثال لا الحصر: كارم محمود، فايدة كامل، فيروز، محمد فوزي، محمد قنديل. «بيان الثقافة» التقى هارون رشيد في حوار عام حول تجربته الابداعية واليومية.
ـ كيف ترى الصورة الحقيقية للشاعر في اطار الافواج المتلاحقة من دواوين الشعر الذي يوصف بالهابط؟
ـ تعتبر المفاهيم الشعرية المختلفة هي الاقدر في عالم الادب والفكر على الابداع والتعبير والتحديث والمواكبة والمسايرة، ولكن في اطار الحفاظ على الثوابت الشعرية الصحيحة اضافة الى الرؤيا الشعرية الصادقة بعيدا عن النفاق والمصلحية التي تغلب بل يجب على الشاعر ان يكون في قلب الحدث ويتعايش مع ما يريد التعبير عنه من صور شعرية.
ـ يدور الحديث كثيرا في المجالس الثقافية والندوات الادبية عن ان الشعر العمودي بمفهومه العربي يعيش ازمة حقيقية هذه الأيام، فماذا ترون في ذلك؟
ـ إن الحديث عن تردي الشعر العمودي، بأنه يواجه ازمة واقعية ويمر بهاجس خطير، هذه النظرة غير صحيحة، بل ان هذا النوع من الشعر يلقى اقبالا كبيرا من المتلقي العربي في كل مكان، واورد مثالا على ذلك: منذ فترة دعيت الى المغرب للحضور والمشاركة في فعاليات المهرجان الدولي الثقافي بأمسية شعرية هناك، ولظروف طارئة تم تعديل اليوم المقرر للامسية، الا ان ذلك التغيير لم يمنع تواجد الجمهور الكبير المتذوق لمثل هذا النوع من الشعر ولاحظت الاقبال المنقطع النظير والاستجابة والتجاوب الجماهيري غير الطبيعيين، هذا الحدث في اعتقادي يشير الى مدى رغبة الجمهور في متابعة هذا النوع من الشعر، مما يلغي وجهات نظر من يقول بان الشعر العمودي بمفهومه العربي قد اصبح في ازمة. واكثر من ذلك والذي سعدت به عندما اكتشفت ان البعض من قصائدي مقررة في المراحل الابتدائية والاعدادية ضمن المنهاج التعليمي في المغرب وانني وبكل تواضع اكاد اكون معروفا، كما انا معروف في مدينتي غزة.
وانني على ثقة لا حدود لها ان الشاعر الصادق الذي يعتمد على القواعد والاسس العربية الاصيلة سيظل وسيخلد وسيبقى، بل واؤكد بأن من يعتقد ان الشعر في ازمة يكون قد جانبه الصواب الناجم عن اوهام لا اساس لها من الواقع والحقيقة. واقولها وبصدق انني الان ابحث عن بعض دواويني الشعرية التي نشرتها منذ فترة ليست بالقصيرة لسرعة نفادها من الاسواق بصورة غير عادية لا تتجاوز الأشهر القليلة، وهذا ما جعلني افكر في اعادة طبع الكثير من تلك الدواوين. وهذا يعني ايضاً بالدليل القاطع على ان الشعر الاصيل هو الذي يترقبه القاريء العربي اينما كان شرقا او غربا.
ـ ما مكانة الشاعر العربي في وطنه الكبير؟
ـ لا ابالغ القول ان الشاعر في الوطن العربي مازال نجما تحيط به الاضواء ويلتقي حوله المعجبون والمحبون مادام مقيما على اصالته وامانته والتزامه الادبي وامكانية التعبير الصادق عن الانسان، اما اذا اهتزت الصورة وخرج عن الاطر والدائرة ذات الحجم الطبيعي لأعماله، اي اذا تناقض مع ذلك فلا يجد له سامعا ولا قارئاً وفي الوقت نفسه فليس كل شعر لا يقرأ.
وما زلت اذكر انني اوائل السبعينيات اقمت ندوة شعرية بمدينة ابوظبي في الهواء الطلق وفي اشد ايام الصيف حرارة وكانت الساحة المخصصة لذلك الحفل قد امتلأت بالمستمعين داخلا وخارجا بحضور خليفة احمد السويدي مستشار صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الامارات، كما وتشاء الاقدار بعد ذلك وتحديدا خلال الثمانينيات وخلال تواجدي في تونس ان توجه لي الدعوة الى ابوظبي مرة اخرى من قبل نجل خليفة احمد السويدي، «محمد» فأقمت اجمل ليالي العمر، بحضور عشاق ومحبي الشعر العربي.
ـ لقد وصف الشاعر الفلسطيني عز الدين المناصرة، الشاعر ابي سلمى بـ «زيتونة فلسطين» و«شاعر المقاومة».. فماذا عنك؟
ـ اولا واخيرا انا مواطن فلسطيني لا اختلف عن اي شخص اخر، وانا للجميع بدون فئات او تنظيمات انما شاءت الاقدار والظروف ان اعيش عذابات هذا الشعب فأخذت من مراحله مسميات مختلفة: شاعر النكبة، شاعر العودة بعد نشر ديواني «عودة الغرباء»، وقد اطلق هذه التسمية صالح الاشقر، اما وصف شاعر الثورة فصدر بعد عملي «الارض والدم» واطلقها الشهيد خليل الوزير عام 1967.
ويكفيني ان أكون متواصلا مع الشعب الفلسطيني الذي عاش مأساة ومعاناة حقيقية واستطاع قدر امكانياته ان يعبر عن تلك العذابات، ولا اريد اكثر من ذلك. كما انني كأي مواطن فلسطيني لاجئا وعائدا وثائرا ولكن الشيء الذي اعتز به واسعد له واتمنى دائما ان يتحقق عن قريب هو ان اكون شاعر العودة الذي يتطلع الى الوطن واركانه وتاريخه وشعبه. ودعني استحضر بعض أبيات من الشعر لتعبر عن كوامن نفسي ومشاعري تجاه تلك الامنية:
شاعر العودة قد كنت
وما زلت اليها انتسب
وهي اعلى ما حملت من الرتب
ـ كيف ترى أبعاد ما يقال في الاوساط الادبية والثقافية حول مفهوم الحداثة في الشعر العربي؟
ـ انني اقول دائما ان الاديب او الشاعر او الكاتب المبدع عليه ان يبدع بالطريقة التي يشاء ولكن ومن باب ان لكل شيء ضوابطه واصوله واذا ما اختل ذلك فيفسد العمل الادبي، ومثال ذلك السلم الموسيقي وكذلك الشعر، فقد كتبت شعر التفعيلة في عدد من القصائد ولكن بصورة اكثر من المسرحيات، وقليل ما كتبت في الشعر التخيلي لان المسرح يستجيب اكثر ولان التفعيلة اطوع للحوار تخرج من الرتابة التي يتطلبها في المسرح ولكنه يستغنيها في الحوار لانه لربما يبعده عن تسلسل الحوار. واقصد من ذلك ان لكل عمل ما يناسبه وبما يتوافق مع قواعده واسسه، فاذا ما تم اداء العمل الشعري او الادبي بصورة جديدة مع الالتزام بقواعده واسسه، فلا مانع من ذلك، واذا كان يقصد بهذا النوع الحداثة، فأهلا بالحداثة على هذه الصورة.
ـ وماذا عن تجربتك الشعرية في مجال النثر؟
ـ ان الشعر شعر والنثر نثر الذي لم احاوله ولا اعتزم خوض هذه التجربة، فقد تعجبني قصيدة نثرية لشاعر ما، ولكنني شخصيا لا اعتبره في عداد الشعر بل والذي يقوم به او يؤديه لا يمكن ان اسميه شاعرا، وساحتنا العربية مليئة بالشعر والشعراء ما انزل الله بهم من سلطان.
ـ يقول احد الشعراء العرب البارزين ان الاستسلام لرغبات القاريء يجعل من الشاعر مجرد ناقل وببغاء لا اكثر ولا اقل.. ماذا تقول في ذلك؟
ـ في الحقيقة، استطيع القول انه وحتى هذه اللحظة لم يستطيع ان يشد انتباه ومشاعر واهتمام الجمهور غير الشعر والشاعر الامين المعبر بمقوماته، علاوة على الوزن والتفعيلة وصدق التعبير وقيمة المعنى ورقة التخيل وبلاغة القول، وفي اطار ذلك كله يستطيع ان تجذب القاريء والمستمتع. فالشاعر ليس ببغاء يسرد فقط بل انه يشكل مع الجمهور تجاوب مركب ومزدوج، واذا كان الشاعر غير صادق لفنه او شعره او ادبه، فلا يستطيع اقناع القراء او المستمعين بجودة الاداء الحقيقي على المدى الطويل.
ـ كيف ترى الشعر العمودي؟
ـ انا ضد الشعر العمودي وضد نشر الشعر الذي لا يقرأ ولا يفهم والسبب ان هذا الشعر الذي كان في زمن ما يوضع في مكانه الصحيح الا وهو افتتاحيات الصحف على صدر الصفحات الاولى في الصحافة القديمة اما اليوم فحدث ولا حرج والكل يعلم ما يجري بين سطور صفحات صحفنا اليومية وفي كافة المجالات.
وفي الماضي كانت القصيدة من ضمن الاسباب الرئيسية لزيادة المبيعات اليومية للصحف، اما الان فالمضمون يغلب عليه طابع الزركشة والمظهر اكثر من الجوهر، والمتوفر شيء اخر يسمى شعرا وما هو بالشعر لا يفهمه، لا كاتبه ولا قارئه ولا ناشره.
ـ من يعجبك من الشعراء؟
ـ في الحقيقة، هناك قائمة كبيرة من هؤلاء ومن الصعب ذكرهم في هذا المجال ولكن تستحضرني الذاكرة الان منهم الشاعر محمد مهدي الجواهري، عمر ابو ريشة، نزار قباني الذي يعتبر ظاهرة لن تتكرر حيث انه يعبر عن الواقع بصدق وببساطة مما اوصله الى قلوب الجماهير والقراء والمهتمين بالمجال الادبي بصورة رائعة.
ـ كيف ترى واقع الشعر الفلسطيني حاليا؟
ـ كان الشعر الفلسطيني عبر مساره الطويل في العشرينيات والثلاثينيات يمثل ضمير الشعب وسيظل كذلك ولن يتخلى الشعر عن الشعب الفلسطيني واعتقد انه التي يمر بها سياسيا واقتصاديا اجتماعيا وباختصار رغم السنوات العجاف التي يعيشها. فالشعر هو المتحدث والمبشر للواقع والآمال الفلسطينية.
ـ اذكر انك انشدت عدة ابيات من الشعر رثاء جيفارا غزة ـ محمد محمود الاسود الذي استشهد مع زميليه كامل العمصي وعبد الهادي الحايك، اثارت والهبت مشاعر المواطنين الفلسطينيين قبل حرب اكتوبر عام 1937.
ـ فعلا حدث ذلك بعد استشهادهما في 8 مارس 1973، وكان رد فعلي عنيفا ومؤثرا حيث قلت:
عندما سموك جيفارا وشاووك انتصارا
كم تجشمت دروب الهول فجرت المسار
كم تساميت على الجرح تعاليت افتخارا
ايها الفارس يابن الشمس حلم العذارى
يا طويل الباع في البذل اندفاعا لا يبارى
انت من غزة.. في غزة زلزلت الجدارا
انت من غزة كم شرفتنا دارا فدارا
انت يا حارسها الساهر اعجزت السهارى
ما الذي نحكيه عنك اليوم عزا وافتخارا
فجيوش الغزو كم افزعتها ليلا.. نهارا
ـ الشاعر هارون هاشم رشيد، مختفي عن الساحة الشعرية تحديدا.. لماذا؟ وكيف تجمع بين الشعر والسياسة والصحافة؟
ـ لا اخفيك سرا انني بعيد الى حد ما عن النشاط الشعري مقارنة بنشاطي المعهود خلال السنوات الماضية. ولكن حقية الامر ان حياتي موزعة الان بين الشعر والصحافة والسياسة، وللاسف فان اقل جهودي ابذلها في مجال الشعر والادب بسبب انشغالي في 3 وظائف رسمية، الاولى كمندوب مناوب لدى الجامعة العربية عن فلسطين، مندوب دائم للمنظمة في المنظمة العربية للعلوم والثقافة، ومدير تحرير مجلة شئون عربية، اضافة الى الكتابة الشعرية التي تحتاج لأجواء خاصة بعيدا عن التشنج والتوتر والمعاناة بصورها الفكري والمادي.
ـ المعروف انك تطلق ضمن أعمالك الادبية ظاهرة الديوان الواحد وفي الموضع الواحد، فكيف يكون ذلك؟
ـ يمكن القول في هذا المجال ان الدواوين الشعرية الواحدة تستطيع ان تؤرخ لمراحل النضال الفلسطيني احداثا ورموزا فتجد لكل حدث مكانة اما تعبيرا عن الواقع او استشرافا لات. فقد كنت اول المبشرين لاندلاع ثورة 1948 وحدوث النكبة وتفجر غضب الشارع الفلسطيني الذي ازاح خيمة اللاجئين ووعاء المساعدات ومعونات الامم المتحدة ومن ثم ايطلق الثورة ضد الكيان اليهودي. ومما قلت من توقعات في ذلك الوقت:
أخي والخيمة هم الليل سوف نطالع الفجر
ومهما هدم الفقر غدا سنحطم الفقر
أخي والخيمة السوداء قد امست لها قبرا
غدا سنحيلها روضا ونبني فوقها قصرا
غدا يوم انطلاق الشعب
يوم الوفية الكبرى
سنمضي مليء عين الشمس
تحدو ركبها الحرة
ونطلع في الغد الآتي نجوما حرة زهرة
فلسطين التي ذهبت سترجع مرة اخرى
ـ ماذا عن اخر اعمالك الشعرية؟
ـ حرصت تماما في ظل ظروف ومعاناة الشعب الفلسطيني ان احافظ على شيئين اساسيين هما ثوابت هذا الشعب التي امثلها وادافع عنها واستشهد في سبيلها الشهداء، فاخترت رموز الشهداء الذين كتبت عنهم عبر السنوات الطويلة ابتداء من مصطفى حافظ وانتهاء بابي جهاد وابو اياد ورامي عياش وهادي نصر الله وغيرهم الكثير من ابطال هذا النضال، فكتبت ديواني.
قصائد للشهداء «طيور الجنة»، اما الديوان الثاني فهو «قصائد للسجناء والمبعدين»، وهم حراس هذه الثوابت وعيونها الساهرة وهم الاسرى والسجناء فقدمت نماذج حية واسماء منهم ورموزا منهم نساء ورجالا واطفالا وشيوخا، وهما صادران عن دار الشروق بالقاهرة عام 1998. وقد غنى اشعاري وقصائدي العديد من الفنانين منهم كارم محمود، فايدة كامل، فيروز محمد فوزي، محمد قنديل وغيرهم حيث بلغ عدد الاغنيات التي كانت من كلماتي اكثر من 150 اغنية.
ـ ما افضل اعمالك المنشورة حتى الان؟
ـ نشر اول ديوان لي عام 1954 تحت اسم «مع الغرباء» في القاهرة، ديوان عودة الغرباء عام 1956 في بيروت، ديوان «غزة وخط النار» عام 1957 في بيروت، ديوان «الثورات» عام 1958 في بيروت، ديوان «حتى يعود شعبنا» عام 1966 عن دار الاداب في بيروت، «سفينة الغضب» عام 1968 في الكويت، ديوان «فدائيون» عام 1969 في عمان بالاردن، ديوان «مزامير الارض والدم» عام 1970 في بيروت، رواية «سنوات العذاب» عام 1970 في القاهرة.
اما اول مسرحية شعرية «السؤال» الكتاب الذهبي عام 1971.
ثم مسرحية «سقوط بارليف» عام 1974 وقد قدمت على المسرح القومي بالقاهرة، ديوان شعري عام 1977 «الرجوع» في بيروت، ديوان شعري «مفكرة عاشق» قصائد الى القدس ـ 1980 عن دار السيراز في تونس، المجموعة الكاملة عام 1981 عن دار العودة في بيروت، «يوميات الصمود والحزن» عام 1983 عن دار السيراز في تونس، «النقش في الظلام» عام 1984 عن دار الكرمل ـ عمان.
«غزة ـ غزة» صدر عن المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم عام 1988، «ثورة الحجارة» صدر في تونس عام 1988، ديوانين عن دار الشروف بالقاهرة عام 1998: الاول «وردة على جبين القدس» و«قصائد للسجناء والمبعدين»، والثاني: قصائد للشهداء «طيور الجنة».
سيرة ذاتية
ـ مواليد 1927
ـ عمل في التدريس منذ 1948 ـ 1954
ـ استلم العمل في صوت العرب 1954 حتى عام 1962
ـ تحرير معظم صحف غزة ـ العودة وبصراحة
ـ التحق بالمنظمة عام 1964 ـ 1965 كمسئول اعلامي في قطاع غزة
ـ مسئول مكتب المنظمة في القاهرة 1967
ـ بدأ العمل مع جامعة الدول العربية وتمثيل فلسطين كمندوب دائم مناوب لدى الجامعة.
ـ عمل مع جامعة الدول العربية ومندوب دائم للمنظمة في المنظمة العربية للعلوم والثقافة عام 1979
ـ 1979 مدير تحرير شئون عربية
ـ 1979 الان مندوب مناوب لدى الجامعة العربية
عذرا الى النادي العريق ابثه زفرات وجد قد ثوى بفؤادي
ياويح قلب وزعت أشواقه بين الحبيب وبين هذا النادي
مجدي خاشقجي
(39) حوار تليفزيوني نادر عمره 20 سنة
هكذا تحدث الخليلي...
حين أذيع هذا الحوار التليفزيوني في منطقة الخليج، قبل نحو عشرين سنة، كانت له اصداء واسعة طيبة، كان أشبه بكشف عظيم، في نظر عامة الناس والمثقفين في المنطقة، فقد قدم موهبة كبيرة فذة، ذات عطاء وافر بديع، لكن لم يكن قد نشر أو عرف طريقه الى القراء.
ومع أن سنين طويلة قد مرت منذ إجراء الحوار وإذاعته، ومع انة قد اعقبته حوارات أخرى معه، فان حوارنا هذا - بخاصة - يظل ذا قيمة متميزة، لا لانه اول حوار شامل اجري معه في المنطقة فحسب، وانما ايضا انه حوار اردناه وثيقة ذاتية، وشهادة موثوقا بها من الرجل عن نفسه: حياته وأفكاره وفنه، ولذلك فان السنين لم تزده الا قيمة وأهمية وصدقا في التعبير عن الانسان النبيل، والشاعر الكبير، الشيخ عبد الله ابن علي الخليلي، الذي فقدنا برحيله رجلا كان جماعا لكل ما يساق في الادبيات من فضائل ومناقب أهل عمان: العلم والادب، واللغة، وكرم الخلق، وسماحة الفكر، ورقة العاطفة.
- اسمح لنا بان نبدأ الحوار عن المكان الذي نلتقي في ظلاله الخضراء، سمائل التي اشتهرت كمهد للثقافة والعلوم الاسلامية.
- (سمائل) يبدأ تاريخها المضئ بالاسلام منذ عهد مازن بن غضوبة الطائي. كان من أهلها، وقد وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، فأسلم، وعاد الى قومه بشيرا بالاسلام. وهو يعد من جملة الصحابة رضوان الله عليهم. ومن ذلك اليوم انتشر الاسلام وانتشرت الثقافة العربية الاسلامية في سمائل، بل في ربوع عمان كلها، بفضل مسيرة مازن بن غضوبة، الذي كان النواة الاولي لمبدأ الثقافة الاسلامية العربية في عمان.
- كيف كانت الحياة الثقافية في (سمائل) في الفترة التي ولدت ونشأت فيها؟
- أنا ولدت عام 1922، في مهد عمي الامام الخليلي رحمه الله، وكان هو مرجع الفتيا والامام. وكنت أنا من بعض تلامذته، ألازمه ليل نهار، فأخذت عنه مبادئ العلوم، وليتني اخذت الكثير، فأنا لم أخذ إلا البعض القليل منه. ثم درست على الشيخ حمد بن عبيد الخليلي، أحد العلماء البارزين في هذا البلد، ثم درست على الاستاذ حمدان بن خميس استاذ العربية، وأخذت اقرأ للادباء والعلماء والحمد لله.
- كيف كانت الدراسة في تلك الفترة ؟ أكانت في كتاتيب أم في المساجد ام غير ذلك ؟
- كنا نبدأ الدراسة بقراءة كتاب الله في الكتاتيب، وكان يدرس لي القرآن المرحوم زاهر بن مسعود الرحبي، وكان من أجود القراء والمقرئين. اما مبادئ العلوم العربية الاخري فقد اخذناها عن شيوخ المساجد، فكنا ندرس في المساجد، كما كانت الدراسة في الأزهر قديما، أي في حلقات، فحلقة فيها الادب، واخرى فيها الفقه، وثالثة فيها الحديث او التفسير وهكذا. وقد كنت ممن يميلون الى الادب ويهوون العربية، ففاتني ما هو خير منها.
- نعرف ان الاسرة كانت اسرة علماء وفقهاء، فهل كان فيهم من يعطي اهتماما واضحا للادب، كقرض الشعر مثلا؟
- نعم، كان جدي الوالد الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي، رضى الله عنه، وهو مرجع الفتيا ومرجع العلماء في ذلك الزمان حتى توفى في عام 1287 الهجري (1870 الميلادي)، كان يقول الشعر، وخير ما كان شعره في التصوف. ومن ذلك قوله في (السموطية):
ويا رب، لطفا، من لعبد مؤمل
بسيط لسان بالدعاء مريد
ويقصر منه الفول ذكر ذنوبه
وقبح الخطايا فهو أي بليد
ويفضي حياء هيبة ومخافة
لعزك اجلالا بكل شهود
فجد بمتاب عن مقر مصرح
بذنب وتقصير وطول صدود
فقير لما أسديت من كل نعمة
شكور لما أوليت غير جود
دعاك ولا يرجو سواك لفقره
وأنت الذي تدعى لكل شديد
وما ظن يوما ان يخيب آمل
بباب كريم في غناه حميد
وجودك اذ عز الشفيع وسيلتي
وجودك اذ عز البريد بريدي
واني لوقاف ببابك سائل
لفضلك راج منك نجح وعودي)
- لا شك في ان هذا الجو العلمي والادبي قد حفز موهبتك الشعرية، فكيف بدأت تفصح عنها؟
- كما سبق ان تفضلت، فان (سمائل) بلد الموهبة، فالحقيقة ان جوها الشاعري يوحي بالشعر. وقد بدأت الشعر بتوجيه اسئلة الى مشايخ العلم وكانوا يجيبون عنها.
- هذا يعني انك دخلت الى الشعر من باب العلم.
- هذا صحيح. واذكر انني بدأت الشعر في ولاية (بدية) حيث كنت في صحبة عمي الامام الخليلي. وكان زملائي الطلاب قد بدأوا قصيدة يذكرون فيها رحلة الامام من نزوى الى بدية، ثم عودته الى نزوى. فكتبت عدة ابيات لا اذكر منها سوى هذا البيت في وصف الناقة:
(تحركها بالاريحية همة
فتعدو بنا كالرائح المتحلب)
واراد اديب كبير تشجيعي، فأخذ الابيات الى الامام، وقال عنها انها أبيات جيدة. لكنني تركت الشعر فترة طويلة حتى عدت اليه بالقصيدة الرائية التي اذكر فيها سيرة الامام الخليلي، وفيها اقول:
(لقد صنت نفسي عن مظنة سيئ
وجشمتها ما لو تجلى لحيرا
فقمت ولى من نير العقل صاحب
وعدت وعيني ما تعاين قيصرا
أروم بنفسي همة لا يرومها
عداي ولو كانوا على الموت اصبرا
وأكرمها أن لا يدنس عرضها
وألزمها ما لا يلذ به الكرى
اليك فما من أنعم بي أعدها
فلم احصها الا من الله فانظرا
لك الحمد ان اكرمتني ورحمتني
الهي والا عدت من ذاك اصغرا)
- اذن بدأت رحلة العطاء الادبي. قبل ان نتتبعها معك، دعنا نتعرف الى قراءاتك الادبية في فترة الطلب تلك.
- بعد القراءة على الشيوخ في المساجد، عولت على الكتاب، فقرأت في الكتب والدواوين كثيرا، قرأت مثلا دواوين امرئ القيس، والنابغة الذبياني، والاعشي، من الطبقة الاولي. ثم قرأت للمخضرمين مثل شعر حسان بن ثابت والخنساء. ومن المولدين قرأت جريرا، والفرزدق، والاخطل، والحطيئة. وفي العهد العباسي قرأت المتنبي وابا تمام والبحتري. اما في الفترة الاخيرة فقد قرأت النبهاني الشاعر العماني، وابا مسلم. ومن شعر الاخوان العرب قرأت شوقي وحافظ ابراهيم والبارودي، ونزار قباني وعمر ابو ريشة، وايليا ابو ماضي. وكنت اخذ من كل شيء أحسنه.
- أظن بعد هذه القراءة الواسعة، يحق لنا ان نسألك عن رأيك في حال الشعر العربي في العصر الحديث.
- لا يسوغ لنا ان نسمى شعرا الا ذلك الشعر العربي الذي يرتكز على القافية ويرتكز على الوزن الذي هو عمود الشعر، ويرتكز على التفعيلة التي لا تتغير منذ بدء القصيدة الى نهايتها. والشعر العربي بهذا المفهوم هو الشعر العربي منذ بدأ حتى الآن. اما المجددون المحدثون فقد جددوا في المعاني، كشوقي مثلا الذي جدد في الوصفيات والاجتماعيات، وحافظ الذي تجد له شعرا بديعا في القوميات والاجتماعيات، والبارودي في حماسياته، وهكذا تجد لكل شاعر حسنة.
- ونزار قباني؟
- نزار قباني يجيد اذا قال في القوميات، ويجيد اذا وصف، على الرغم من انه يقال احيانا - كما قال طه حسين -: (انه دخل في كم المرأة)، لكني أنا لا أهتم بهذا، فأنا عندي ان نزار شاعر مجيد، وشعره في منتهى الجودة، وانه خلاق تجده يبتكر معاني واساليب ما جاء بها غيره.
- فماذا تقول في الشعر الحديث، الحر؟
- أنا سئلت عن هذا الشعر قبل اليوم وقلت فيه رأيا، فقلت: انه اذا كان هذا الشعر يلتزم بالتفعيلة، تقصر ام تطول، ويلتزم بالقافية، تقرب او تبعد، أي له تواقيع الشعر وموسيقاه، فهو شعر. أما اذا كان لا يلتزم بالتفعيلة، ولا يلتزم بالقافية، فقد خرج من الشعر وصار نثرا فنيا.
- في ظل هذا الرأي، وهو بلا شك يدل على تفتح وسعة صدر للتجديد، هل كتبت الشعر الحديث؟
- نعم، قلت هذا الشعر، ولعل الظروف هي التي لا تسمح لي بأكثر مما قلته، وهو ثلاث ملاحم طوال: الأولى بعنوان (الملك ووزيره) ولا اذكر منها الا الشيء اليسير. والثانية (كرامة الفاروق) وتدور بين الفاروق وعمرو بن العاص. والثالثة بين الوليد بن يزيد بن عبدالملك الذي كان ملكا فظيعا، وابن عمه يزيد بن الوليد بن عبدالملك، واذكر منها قولي:
(الله.. كيف أعمل؟
والدهر بحر غاضب مضطرب؟
مضطرب الامواج ليس يرحم ؟
ليس يهمل ؟
هذا يزيد. مارد،
الي كرا مقبل،
كجمل ماج به المرار،
بئس المأكل.
يهيب بالناس الى قتالنا،
لا يستحي، لا ينكل،
الله.. كيف أعمل ؟
الله.. قد اضعتها،
شغلت عن ايامها،
الخمر.. بئس المنهل،
اضاعني حزني، فماذا أعمل؟
وعشت في غيبوبة أعلل،
أعلل المنى..
هيهات، لا تعلل..)
- المعروف ان شعر التفعيلة هذا قد استفيد به في الشعر المسرحي. فهل قرأت شيئا من ذلك؟
- قرأت مسرحية (مأساة الخلاج) لصلاح عبد الصبور، لكني مع الاسف لم اطلع على غيوما.
- ما رأيك فيها؟
- فيما يتعلق بالمسرح لا استطيع الجواب، لانني غير ملم بفن المسرح ولم ادرسه ولم اعرف شيئا منه. لكني اعرف فن الشعر، وقد أعجبت بالمسرحية كهدف وغاية، أما الكلمة الشعرية فيها فتختلف عن الشعر العمودي، اللهم الا تفعيلة يلحظها الانسان من بعيد، وقافية تقرب او تبعد.
انني قرأت (رباعيات الخيام) وأعجبت بها اكثر، لان فيها الفن الشعري. اما المسرحية، فقد كانت لي حافزا على كتابة الشعر الحر حتى قلته. وقبلها لم أقل هذا الشعر قط.
- حديث المسرحية يفضي بنا الى القصة. فهل كتبت القصة ؟
- نعم، كتبت القصة النثرية. كتبتها وأنا في الهند. واظن انه لم يسبقني احد الى كتابة القصة في عمان، فأنا أول من كتبها منا. ولا اعرف اديبا كتب القصة او كتب مقامة سوى واحد من العمانيين في زنجبار. ولقد كتبت القصة والمقامة، بل قصدت ان اكتب قصة بلغة المسرحيات، أي بالكلام المتداول العامي.
- لعل عينك كانت على التليفزيون وأنت تكتب هذه القصص ؟
- لا، لم افعل ولم اقدم شيئا للتليفزيون سوى المقابلات التي تطلب مني. لكن لا مانع عندي من استفادة التليفزيون بها.
- وما رأيك فيما يقدمه التليفزيون من برامج ؟
- أعجب ببعضها، واستاء من بعضها. فاستاء مثلا حين أجد من يلقي القصة أو القصيدة بلا المام باللغة العربية، ويصل استيائي الى حد ترك القاعة. وتعجبني التمثيلية اذا كانت فيها روح البطولة، أو كانت تعالج قضية اجتماعية تهم الناس. اما اذا كانت فيها خلاعة او اسفاف في الحوار، فهذه لا اتقبلها، وربما يتقبلها آخرون ممن يضحكون ويقهقهون.
- نعود الى الشعر، ونسأل عن المعاني التي طرقتها في شعرك؟
- أنا طرقت كل المجالات تقريبا، فقلت في القوميات، وفي الشعر القصصي، وفي الغزل، وفي الفخر، وفي الحماسة، والوصفيات، والاجتماعيات والاخوانيات، والرثاء، وقلت في الموشحات.
- هل نقتطف شيئا من موشحاتك؟
- من ذلك اقول في موشح:
مغرمين التقيا فاجتمعا
في ظلال الآس
فنيا شوقا وذابا جزعا
خيفة الحراس
نسيا دهرهما فاندفعا
تحت حكم الكاس
يملآن الجام
أيها الساقي على تلك الظلال
دون اشفاق
أدر الكأس على لحن الجمال
بين عشاق
ان خمر الحب للصب حلال
أيها الساقي
على وحي الغرام
- هذا شعر غنائي جدير بان يلحن ويغنى.
- أنا لم أعن بذلك، لكن لا مانع عندي منه. وأنا احيانا اسمع الغناء. لكن للعلماء رأيا فيه، ونحن أولى بأن نقف مع رأي العلماء، وان كان بعض العلماء يبيحونه بشروط.
- وماذ عن قومياتك ووطنياتك ؟
- أنا قلت في كل القضايا العربية، فمثلا قلت في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956:
(غامري الاخطار يا مصر فلن
يدرك الأوطار من لم يغر
واركبي الاهوال حتى تركبي
صهوة العز بقلب حذر
اخوتي يا أهل مصر، ليتني
معكم كنت غداة النذر
علني اشرككم في موقف
بيراع او حسام ذكر
وأنادي العزم في تاريخكم:
قاحم الاعداء قفز بالظفر)
- هل نقتطف مثلا آخر من قومياتك؟
- قلت في الجزائر على سبيل المثال:
(جزائر الحرة، لا تجزعي
من مطبق الباب على قفله
فان يكن اوصده برهة
عليك حتى صرت في غله
جثا على صدرك في ظلمه
وامتص شريانك في دغله
فإنك المارد شق الدجى
منطلقا كالبرق في وبله
صاعقة أرسلها بالقضا
على العدى جبريل في رسله)
- الحق، ان موقفك ووعيك القومي، منذ عهد مبكر جدا، بكل اكبار واجلال.
- الشاعر بطبيعته حساس، يحس بالألم كما يحس كما يحس بالسرور. وحساسيته هذه تدفعه الى النظر الى اخيه وان غاب عنه. والشاعر لا يمكن له ان ينسى قوميته، أو يغفل عن اخوانه في شرق البلاد وغربها.
- هذا بطبيعة الحال هو الشاعر الملتزم بهموم أمته ووطنه، لا الشعراء الذين يهيمون في اودية ذواتهم.
- هذا يذكرنا بقول الله عز وجل: (والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون. وأنهم يقولون ما لا يفعلون. الا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا، وانتصروا من بعد ما ظلموا).
وقد سئلت عن هذا المعنى، وكان رأيي ان الشاعر ما جاء ذمه في الكتاب العظيم الا لصفات كان يتصف بها الشاعر القديم، فهو كان يتصف بالهجاء، وهو يمدح مستحق المدح وغير مستحقه، ويمدح مستحقه بما ليس فيه. ثم انه كان يتشبب ويتغزل بالبنات والنساء واعراض الناس وكرائمهم. لذلك ورد ذمه في الكتاب العزيز، واستثنى الذين تساموا عن هذه الصفات.
- يبقى ان نتمنى سعة انتشار فنك الجميل الملتزم على امتداد الوطن العربي كله.
- نرجو في المستقبل ما هو افضل، فلقد عشنا قديما فترة ركود وعزلة طويلة، وانتهت حين قام جلالة السلطان بالنهضة المباركة، وانفتحت الابواب لنرى الناس ويرانا الناس، ونشطت حركة النشر وبخاصة نشر التراث.
عذرا الى النادي العريق ابثه زفرات وجد قد ثوى بفؤادي
ياويح قلب وزعت أشواقه بين الحبيب وبين هذا النادي
مجدي خاشقجي
(40) قيامة الإباء.. وانفجار اللوعة - ابوفراس الحمداني
هل تخلق اللوعة الراعفة حين تمتد تحت جلد إنسان الشاعر.. الشاعر؟
وهل تمنح الإمارة.. متوارثة عن كابر.. خلود الذكر لمجرد الوراثة؟ وهل يمكن لأي إنسان أن يكون الفارس.. الفارس على ظهور الخيل في ميدان القتال؟
وكيف تجتمع قسوة السيف، حين يهوي طاعناً.. ورقة القافية فوق شفاه عاشقة؟
يتخلّق الشعر، كائناً ضوئياً في القلوب التي أتعبتها اللوعة.. والاشتياق والحنين.. ويطرح أسئلته أمام بوابات الأبدية.. تنغلق على الرد أو حتى همس الجواب..
لا يسمع الشاعر غير الصدى.. موجعاً.. مرهفاً.. حاداً كنصل السكين.. ينزرع فوق قوافي الانتظار..
منذ أن تاه أبو الشعر وملكه الضال.. في قفار المجد، باحثاً عن حلم سراب ضاع فوق حبات الرمال في صحراء لا تنفتح إلا على الغموض ـ والموت، والشعر يبحث عن وريث لذاك المجد، إرتدى عباءة السم وانطوى تحت التراب.. وحمل الشعر قلق البحث عن وريث لهذا المجد.. وحمل الشعراء، كل على حسب امكاناته، هاجس التطلع إلى هذه الوراثة المحال..
لم تجتمع لإنسان شاعرية اللغة، وفروسية الميدان، وامارة المجد المؤثل، وسلطة الحاكم في تاريخ الشعر العربي لغير أبي فراس الحمداني، وإن سبقه في تاريخ الجاهلية العربية الملك الضليل امرؤ القيس.
ولا تذكر في مجلس، الدولة الحمدانية إلا وذكر ثالوثها الشهير، سيف الدولة حاكماً ممدوحاً، والمتنبي شاعراً مادحاً، وأبو فراس مفاخراً..
وكأن أمجاد الدولة الحمدانية التي صنعتها سيوف رجالها، لا تكون مؤثرة إلا بذكر الشعر مقترناً بالفروسية..
ولكن المفارقة المؤثرة في هذا الذكر أن الدولة الحمدانية قد ذهبت مثل غيرها، وأصبحت تاريخاً يذكر لماماً، وكتب الخلود لما بين دفتي الديوان..
حين تفتح الديوان، أو هو يفتح أشرعته، وتبحر معه إلى بحور النفس ومديات الوجدان، تعثر على عدة خصائص لرفيق الرحلة الذي يقود خطاك:
الخاصية الأولى:
انك أينما تطلعت ترى وجه الشاعر ـ الفارس مفاخراً بنفسه ونسبه:
أنا الحارث المختار من نسل حارث
إذا لم يسد في القوم إلا الأخايرُ
فجدي الذي لمّ العشيرة جوده
وقد طار فيها بالتفرق طائـر
تحمل قتلاها وساق دياتها
حمول لما جدّت عليه الجرائـر
ودمائه لولاه جدّت دماؤهم
موارد موت مالهنّ مصادر
ومنا الذي خاف الإمام وجيشه
ولا جود إلا أن تضيف العسكر
وجدّي الذي انتاش الديار واهلها
وللـدهـر ناب فيهـم وأظافـر
تلك النفس التي تمتلئ إباءاً وشموخاً يليق بها، وتليق به..
إذا ما العز أصبح في مكأن
سموت له وإن بعد المزار
مقامي حيث لا أهـوى قليل
ونومي عند من أقلـي غـرار
أبت لي همتي وغرار سيفي
وعزمي والمطية والقفار
ونفس لا تجاورها الدنايـا
وعِرض لا يرف عليه عار
ذلك النسب الرفيع، والكرم النابع من نبل السجايا، والروح المتوثبة المنطلقة من كل قيد، هو الفخر بالذات التي هي محور الشعر في الديوان..
وأنت حين تطالع فخره في عمود الشعر، أو شعره في الفخر، لا فرق، تجده متين البناء، كأنه ينحت المفردة بإزميل، فخم العبارة..
الخاصية الثانية:
تلك الخلجات الوجدانية التي رسمها الشاعر الفارس، وهو منكب على نفسه باحثاً فيها عن الأجمل والأحلى، فجاءت تلك الخلجات صادقة في التعبير، عفوية في الطرح، عذبة الوضوح، لا تجد فيها أن الشاعر يقسر نفسه على قول ما لا يوافق قناعاته..وكأنك تسمع الصوت وترى اوتار حنجرته تردد ما تسمع.. فهو صادق حدّ الوجع في التعبير عن نفسه وعن تجربته وعن انفعالاته..
من ذلك ما نقرأه له راثياً ومؤبناً لأمه حين وصله نبأ موتها وهو في الأسر:
وغاب حبيب قلبك عن مكانٍ
ملائكة السماء به حضورُ
بأيّ دعاء داعيةً أوقـّى
بأي ضياء وجه أستنير
بمن يُستدفـع القــدر الموفى
بمن يُستفتح الأمر العسيـر
نُسلّى عنك إنا عن قليل
إلى ما صرت في الأخرى نصير
تلك الأم نجد صورتها في قصيدة أخرى يخاطب فيها سيف الدولة حين رد أمه وهي جاءت تتوسل لافتدائه من الأسر:
بأي عـذرٍ رددت والهةً
عليك دون الورى مُعوّلها
جاءتك تمتاح ودّ واحدها
ينتظر الناس كيف تُقفِلها
وقد امتازت الفترة التي قضاها في الاسر بصقل شاعريته المطبوعة وتعد قصائده في تلك الفترة من ارق واعذب شعره الوجداني..
كيف لا؟ وقد قضى في قيود الاسر والبعد عن الأوطان والأحبة سبع سنين كما يذكر الرواة.. وقد سميت قصائده في تلك الفترة بـ(الروميات) نسبة إلى مكان اسره الذي كان تابعاً للروم..
ومن أرق شعره في الاسر وهو يسمع هديل حمامة على شجرة قرب موضع سجنه في القسطنطينية.. قال:
أقول وقد ناحت بقربي حمامة
أيا جارتا لو تشعرين بحالي
معاذ الهوى ما ذقت طارقة النوى
ولا خطـرت منك الهموم ببال
أتحمل مخزون الفؤاد قوادم
على غصن نائي المحلـة عال؟
أيا جارتا، ما أنصف الدهر بيننا
تعالي أقاسمك الهموم تعالي
أيضحك مأسور وتبكي طليقـة
ويسكت محزون ويندب سال؟
لقد كنت أولى منك بالدمع مقلة
ولكن دمعي في الحوادث غالِ
والحمامة الحمدانية أشهر حمامة طارت في سماء الشعر العربي..
خاصية أخرى:
أهل البيت (ع) في شعره:
إن جاز لنا تسميتها هكذا، نلمسها في شعر أبي فراس، وهي حبه لاهل البيت(ع) حيث تدفق شعره القليل فيهم ينابيع عذبة تدخل قلب السامع أو القارئ منذ مطلعها دون استئذان..
ففي ابيات سبعة يرسم صورة مكثفة لأئمة أهل البيت(ع) راجياً أن تكون تلك الأبيات نجاة وخلاصاً له من يوم الحساب.. وفيها إضاءة رائعة لأوصافهم النقية الطاهرة الزكية. يقول فيها.
لست أرجو النجاة من كل ما أخشاه
إلا بأحمد وعلي
وببنت الرسول فاطمـــة الطهـر
وسبطيه والإمام علي
والتقي النقي باقر علـم الله
فينا محمد بن علي
وابنه جعفر وموسى ومولانا
عليّ أكرم به من عليّ
وأبي جعفر سميّ رسـول الله
ثم إبنه الزكي عليّ
وابنه العسكري والقائم المظهـر
حقي محمد بن علي
بهم أرتجي بلوغ الأماني
يوم عرضي على الإله العلي
وقصيدته الأخرى المعروفة بالشافية ذات السبعة والخمسين بيتاً، وكان السبب في نظمها، هو تطاول العباسيين على علي وابنائه( فقد نظم شاعرهم عبد الله بن المعتز أبياتاً ينتقص فيها علياً وابناءه ويفتخر بالعباسيين منها قوله:
أبى الله إلا ما ترون فما لكم
غضابى على الاقدار يا آل طالب
كما بلغه أيضاً شعر ابن سكرة العباسي الذي يتطاول هو الآخر في النيل من أبناء الرسول (ومدح العباسيين بقصيدته والتي منها قوله:
بني عليّ دعوا مقالتكم
لا ينقص الدر وضع من وضعه
فأثارت تلك الأبيات فيه خاصية الإيمان بالإسلام والولاء لآل البيت.. ولا نعرف درجة المعاناة التي تحكمت به قبل الكتابة وخلالها، لكننا بعد قراءة هذا النص الدافئ لا نشك في تلك المعاناة التي صدرت عنها هذه القصيدة ذات التفرد والخصوصية والتي نظمها شاعرنا معتمداً البحر والقافية والروي التي اعتمدها الفرزدق في نظم قصيدته الشهيرة والتي يقول فيها رداً على تساؤل الخليفة الأموي:
وليس قولك: من هذا بضائره
العرب تعرف من أنكرت والعجم
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرف والحلّ والحرم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهلهُ
في جدّه أنبياء الله قد ختموا
وأبو فراس لم يكتف بنظم قصيدته الشافية، وإنما باشر القاءها بنفسه، واتخذ لالقائها المعسكر مكاناً، كي تكون أمام الجيش، وأن يشهر خمسمائة سيف حين القائها امعاناً في التحدي.. يقول أبو فراس:
الحق مهتضمٌ والدين مختـرم
وفيء آل رسول الله مقتسـم
يا للرجال أما لله منتصف
من الطغاة؟ أما للدين منتقم
بنو علي رعايا في ديارهـم
والأمر تملكه النسوان والخدم
وصُيّرت بينهم شورى كأنهم
لا يعرفون ولاة الحق أيّهم
ثم إدّعاها بنو العباس إرثهم
وما لهم قَدَمٌ فيها ولا قِدَم
ويصف أهل البيت(ع) وهذا الوصف نجد نقيضه في نفس الأبيات عند خصومهم..
ما في ديارهم للخمر معتصرٌ
ولا بيوتهم للسوء معتصم
ولا تبيت لهم خنثى تنادمهم
ولا يرى لهم قردٌ له حشم
الركن والبيت والاستار منازلهم
وزمزم والصفا والحجر والحرم
صلّى اله عليهم أينما ذكروا
لانهم للورى كهف ومعتصم
وكانت وفاة شاعرنا سنة 357هـ بعد ان عاش حياة حافلة بالدفاع عن الدولة الحمدانية.. وبعد ان حقق شهرة واسعة في الادب والفضل والكمال والشجاعة والفصاحة والحلاوة وعذوبة الشعر..
وقال أصحاب صناعة الشعر بان ابن عباد قال: بدأ الشعر بملك وختم بملك يعني (امرؤ القيس، وأبا فراس)...
عذرا الى النادي العريق ابثه زفرات وجد قد ثوى بفؤادي
ياويح قلب وزعت أشواقه بين الحبيب وبين هذا النادي
مجدي خاشقجي
(41) حديث السياسة في الشعر العربي
د. رياض نعسان آغا
شغلتنا السياسة عن الادب ، وحرمتنا من النشوة بصفاء القصيدة ، والمتعة برقة الشعر نشرات الاخبار ، وما تحمل الحدثان في كل ثانية من مآس وفواجع؟!
فلنعد الى الشعر قليلا ، نروح فيه عن النفوس المتعبة ، ونتفيأ ظل القصيدة في واحة الابداع..
* ولكن السياسة تلاحقنا الى الشعر ، فإذا بنا نهرب منها اليها ، ولا نجد مستراحا من شجونها ، فحين نفتح ديوان الشعر العربي ، نرى السياسة مبثوثة في ثنايا القصيدة منذ ان بكى صاحب امرئ القيس (أقدم شعراء العربية) لما رأى الدرب دونه ، وادرك انهما يمضيان الى قيصر ، يستعينان به على قومهما ، وقد قتل القوم والد امرئ القيس واغتصبوا ملكه .. فلم يجد الملك الضليل غير قيصر يستعين به ، ولكن استعانته بالغريب لم تجلب له غير الاسى المر ، فصار ذا القروح، واقام حيث يقيم عسيب ..
* والسياسة محور شعر زهير بن ابي سلمى ، وهو اول من نعرف له شعرا هاما يستنكر الحروب ، من موقف انساني وعقلاني ، فهو يذكر القوم بما علموا من شرورها، وبما ذاقوا من بلائها (وما الحرب الا ما علمتم وذقتم) فهي الذميمة هي تضرم، وهي التي تعرك القوم (عرك الرحى)..
وزهير اول شاعر ضخم الحضور في ثقافتنا العربية ، يجسد دعوة الامة الى السلام ، وقد استنكر فتنة الاهل ونشر الحروب الداخلية ، ومجد العقلاء الحكماء الذين تداركوا عبسا وذبيان (بعد ما تفانوا ودقوا بينهم عطر منشم).
* والسياسة قتلت طرفة بن العبد ، حين افاق على الدنيا وهو فتى فوجد قرابته يستبيحون حقه ، فأنذرهم بقوله (أدوا الحقوق تفر لكم اعراضكم) ولكن القوم نبذوه ، وتحامته العشيرة كلها ، فسعى الى نصرة على قومه ، فجاءت عليه بالويل ، حين حمل بيده كتاب الامر بقتله لدوافع سياسية محضة.
* والسياسة جعلت عمرو بن كلثوم يجهل فوق جهل الجاهلين ، وينذر الملك بأن يورد الرايات بيضا ، ويصدرهن حمرا قد روينا ، وما ذاك الا مظهر من مظاهر صراع بين المثقف والسلطة ، ترجمة الرواة غضا من شأن امه ، حين استخدمتها ام عمرو بن هند. فأخذ الشاعر غرور الابداع وعنفوان القصيدة ، الى مهلك في استعراض ثورة شاعرية ظنها عسكرية حين قال :
ملأنا البر حتى ضاق عنا
وظهر البحر نملؤه سفينا
اذا بلغ الفطام لنا صبي
تخر له الجبابر ساجدينا
ونحن نرى كيف افسدت السياسة شاعرية عمرو وقد تبدت عذبة في مطالع وصفه خمر الاندرين..
* والسياسة روعت النابغة الذبياني ، وقد لاحقه (الارهاب) فلم يجد ملجأ من الملاحقة غير قصيدته ، حتى قال النقاد القدامى : (أشعر العرب النابغة اذا رهب) وقد دس له خصومه على قصيدته ، ما يثير غضب الملك (الزوج) وقد بدت زوجته متجردة في قصيدة النابغة ، حين (سقط النصيف ولم ترد اسقاطه ، فتناولته واتقتنا باليد) وما نحسب شاعرا بحجم النابغة رئيس لجنة التحكيم في عكاظ ، ينساق الى وصف تفاصيل جسد المتجردة على النحو الذي اشتهر ولكنها السياسة التي ارادت اقصاء ذبيان عن موقع ضخم عند النعمان ، وهي ذاتها التي قادت النابغة الى بني غسان ، ليجد في الشام الامن والاطمئنان..
* وقد لونت السياسة الشعر بألوانها المصطخبة ، التي يضيع فيها الصواب احيانا كما ضاع عن رؤية شاعر غزية حين قال :
وما أنا الا من غزية ان غوت ، غويت وان ترشد غزية ارشد ..
فالسياسة تكره التغريد خارج السرب ، حتى ولو كان المغرد صاحب حق قابضا على الجمر.
* وقد تجلت السياسة في اسمى مواقفها في حرب ذي قار حين انخرط الشعر في الجيش ، وقاد الحملة الاعلامية المركزة لمقابلة الخطر الخارجي ولتعبئة الجماهير .. وقد تقلد الشعر مهامه السياسية الرسمية في انضج صورة مع ظهور الاسلام ولا سيما حين دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان بن ثابت ان يؤيده الله بروح القدس.
ومع نضوج هذا الموقف الشعري السياسي الرسمي وضحت نظرية الالتزام في الشعر وهي نظرية سياسية تقتحم الشعر ، بزخم الفكر . . وقد وجدت منذ القديم من ينتقدها فقد قال القدامى : كان حسان في الجاهلية شاعرا فلما ادرك الاسلام لان؟
مع ان شاعرية حسان بلغت ذروة لا تطال في مدحه للرسول المصطفى عليه الصلاة والسلام ، وفي براعة التخلص من اشكالية هجائه لاعداء الرسول صلى الله عليه وسلم وهم اهل النبي الاقربون وقد منحته تلك البراعة ان يسله منهم كما تسل الشعرة من العجين.
* ولقد سيطر الشعر على ساحة الحوار وعلى مضامير الصراع حين ظهر الاسلام وكان بعض شعراء الخصم قد اغلظوا حتى غضب عليهم النبي صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا وعاقبهم عقابا عسيرا الا الذين اهتدوا كما اهتدى كعب بن زهير وقد جاء مذعنا لنصح اخيه (بجير) وقد انبأه بوعيد رسول الله (والعفو عند رسول الله مأمول) فأعلن التزامه ونال البردة التي رفعت شأن الشعر في الاسلام.
وحين انتهى الصراع بفتح مكة هدأ الشعر وغاب عن الساحة بضع سنين كانت مرحلة تدوين القرآن الكريم وجمع الاحاديث الشريفة فلما عادت حروب الردة عاد معها الشعر الى الساحة السياسية ليصول ويجول في ميادين القتال.
* ومع انطلاقة الفتوحات كان على الشعر ان يجند نفسه لتعبئة الشباب حتى اولئك الذين اخذهم الضلال بعيدا من امثال مالك بن الريب الذي قدم الامثولة حين قال :
ألم ترني بعت الضلالة بالهدى
وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا؟
وفي هذه القصيدة الوجدانية العذبة اجمل رثاء ذاتي في شعرنا العربي خرج فيه الشاعر عن الالتزام السياسي الذي سيطر على مطلع القصيدة الى فسحة الشاعرية المطلقة حين تذكر من يبكي عليه فلم يجد (سوى السيف والرمح الرديني باكيا) وتذكر النسوة اللواتي يبكين عليه بأطراف السمينة ولكنه ظل مشدودا الى كبرياء فكره السياسي فهو لا يريد ان يحفر قبره بالفؤوس وانما بأطراف الاسنة ، لانه عاش الحياة تحت اطرافها وهي الاجدر بأن تخط مضجعه ..
خذاني فجراني ببردي اليكما
فقد كنت قبل اليوم صعبا قياديا
وخطا بأطراف الاسنة مضجعي
وردا على عيني فضل ردائيا
ومع انتهاء مرحلة عثمان رضي الله عنه وابتلاء الامة بالفتنة الكبرى دخلت السياسة الى الشعر العربي من كل ابوابه ونوافذه .. فتمزقت اتجاهاته تمزق الامة وتفرقت شعابه وتنوعت مذاهبه وتعكرت مشاربه وبات الشعر الاموي وشعر الحجاز وشعر الاقاليم جميعا مرايا تعكس الصراعات السياسية المتناحرة..
ولم تكن (النقائض) بين جرير والفرزدق والاخطل ومن سار في احزابهم الا نوعا من الملهاة لصرف انظار الناس عن شعر المواقف ، حيث الطرماح بن حكيم والكميت والشريف الرضي وقطري بن الفجاءة وسواهم من كبار شعراء السياسة ..
وكانت القصيدة لدى هؤلاء تطرح موقفا من الحياة والموت .. فتجعل القصيدة في مواجهة الكون ، وجوهر هذه المواجهة عقائدي وسياسي يجعل الموت في مستوى الحياة واعذب مثال قول قطري:
أقول لها وقد طارت شعاعا
من الابطال ويحك لا تراعي
فإنك لو سألت بقاء يوم
على الأجل الذي لك لم تطاعي
فصبرا في مجال الموت صبرا
فما نيل الخلود بمستطاع
ولم تكن ظاهرة شعر النقائض رغم بعدها السياسي ملهاة عن شعر المواقف وحدها فكذلك كان شعر الغزل في الحجاز .. فهؤلاء الشباب الذين بقوا في مكة ويثرب وانحائهما هم ابناء الصحابة واحفادهم وسيكون لهم شأن لو دخلوا معترك الصراع على السلطة فكان الحل السياسي الهاءهم بمسلسلات عاطفية شعرية كمسلسل قيس ولبنى وقيس وليلى وجميل بثينة وكثير عزة وعفراء وعروة وسوى ذلك من اقاصيص ممتعة جميلة وضعها طه حسين في اطار نظرية الشك ونظر اليها على انها فن القص الغرامي عند العرب بعيدا عن التماس حقائق الحدث التاريخي لوفرة ما فيها من اختلاط فهذا الاصمعي يسأل رجلا من بني عامر عن قيس فيقول له الاعرابي : اي قيس تريد ؟ فيقول : المجنون ، فيقول الاعرابي : اي مجنون تريد فيقول الاصمعي : مجنون ليلى فيقول الاعرابي : اي ليلى تريد؟ فقد صار اسم ليلى في هذا القص رمزا للحبيبة حتى وهي حلم ووهم..
وتفسير هذه الظاهرة سياسي محض فضلا عن الهوامش الانسانية وسيشمل هذا التفسير ظاهرة الشعراء الغزليين المحققين واميرهم عمر بن ابي ربيعة..
ولقد كانت الحجاز في ذلك الوقت تشهد نضوج علوم التفسير والحديث حين نأى كثيرون من ابناء الصحابة الاجلاء عن الصراعات السياسية الى بناء الحضارة كما فعل الامام الباقر في مدرسته العلمية والفقهية التي اسست علم العصور اللاحقة وكان زين العابدين قد خطف البريق من الخليفة في الطواف حتى دهش الخليفة ذاته وسأل الفرزدق عن الرجل الوقور من هذا؟ فجاءه الجواب الشعري السياسي الضخم:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحل والحرم
ولم يكن خلفاء بني امية يمنعون هذا الحراك السياسي في بعده الشعري والعلمي فخالد بن يزيد وهو الاحق بالخلافة بعد ابيه لولا صغر سنه ينصرف عن حقه في الحكم الى الشعر والى العلوم ويهتم بالكيمياء ويؤسس مع الامام جعفر الصادق علم الكيمياء ويستقدم اساتذة جامعة الاسكندرية لتأسيس اول نهضة علمية منهجية عند العرب .. ثم يعشق خالد في الحجاز ابنة الخصوم ، رملة بنت ال الزبير .. وهذا العشق وما حوله من شاعرية عشق سياسي جلي ، يفسره شعر خالد بن يزيد.
* ولقد بلغ الشعر العربي ذروة نضجه السياسي مع نضوج الثقافة العربية ومع استواء تفاعلها مع حضارات الفرس والهند واليونان والرومان والسريان ومصر ، حين امتزجت كل تلك الحضارات في (عولمة) ثقافية ضخمة صاغتها الحضارة العربية الاسلامية وكان بيت الحكمة في بغداد مرجعية العصر على صعيد عالمي أممي وهذا النضج الحضاري الضخم كان البيئة التي انجبت شعراء على مستواها من وزن المتنبي والمعري فالأول فيلسوف الشعراء والثاني شاعر الفلاسفة.
وقد غرق شعر المتنبي في السياسة حتى قتلته بينما مضى ابو العلاء الى الكون العظيم ليقوم بجولة بين النعيم وبين الجحيم في رسالة الغفران وفي لزوم ما لا يلزم.
ولعل سر خلود ابي الطيب انه وازن بعبقريته الشعرية والفكرية بين اهتمامه بالذات واهتمامه بالكون العام.
ففي شعره مزيج عبقري من انعتاق الحكمة المطلقة واسار السياسة المغلقة والسر الاخر هو ذاك الوشاح من الغموض الذي حجب سره ولا يزال يحجبه .. فمن هذا الذي يقول :
انا ابن من بعضه يفوق
ابا الباحث والبعض نجل من نجله؟
وما هذا الهدف السياسي الضخم الذي يجل ويسمو عن التسمية:
يقولون لي انت في كل بلدة
وما تبتغي ؟ ما ابتغي جل ان يسمى؟
اهو الولاية من اجل شهوة السلطة كما قد يظن في قوله المنكسر لكافور:
ابا المسك هل في الكأس فضل اناله
فاني اغني منذ حين وتشرب؟
او في صراحة مطلبه من كافور:
وغير كثير ان يزورك راجل
فيرجع ملكا للعراقين واليا؟
ام هي ولاية اخرى ذات شأن جعلت سيف الدولة يصبر عليه قوله في مجلسه:
سيعلم الجمع ممن ضم مجلسنا
بأنني خير من تسعى به قدم؟
وسيف الدولة اولى بأن يعلم ابعاد هذا الهاجس السياسي الذي ورثه المتنبي عن رجل هو بالتأكيد ليس عبدان السقاء في الكوفة كما تقول المصادر فهو في الترجمة احمد بن الحسين ومن فرع وراء وشاح الغموض يطلع الهاجس السياسي في اول شعر قاله احمد وهو بعد فتى صغير :
اي محل ارتقي
اي عظيم اتقي؟
ورغم ان كل المصادر تجمع على ان بني ضبة هم قتلة المتنبي واننا بيتا من شعره قتله الا انني اشك في هذه الرواية شكلا وموضوعا فقد قتله شعره كله وهو عائد من غربة القلب واللسان .. وصاده اغتيال سياسي لاسباب اضخم من بني ضبة ومن امهم (الطرطبة) ولئن كان ابو الطيب قد خطف الاضواء والشهرة من كل شعراء العرب (حيا وميتا) وصدقت نبوءته:
أنا ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم
وصدق استعلاؤه على الشعراء جميعا في مثل قوله:
(اذا قلت شعرا اصبح الكون منشدا) فان كبار الشعراء الذين احالهم الى الصف الثاني كانوا ابطال صراعات سياسية ضخمة فهذا ابو فراس الحمداني يقع في الاسر وتقصر السياسة في دفع سيف الدولة الى مساندته حتى تجيء اعتذاريته العذبة (فليتك تحلو والحياة مريرة .. وليتك ترض والانام غضاب) وذلك بشار بن برد تقتله السياسة في شعوبيته وفي اخلاصه لرؤيته الخاصة وموقفه وهناك ابو نواس يفرج عن همه السياسي الشعوبي في وصف الخمرة وصفا سياسيا ويخلط الجد بالهزل ليتهكم على الشعر العربي بقوله :
قل لمن يبكي على رسم درس
واقفا ما ضر لو كان جلس؟
وعلى الضفة الاخرى من الدولة العربية هنالك في الاندلس اكلت السياسة الشعر رغم رونق الحياة البهي وما كان فيها من بذخ وترف ونعيم.
واذا كان ابن زيدون اشهر شعراء الاندلس الغزليين فان قصة حبه الشهيرة لولادة بنت الخليفة المستكفي لم تكن قصة غرام عادية وانما كانت مظهر تعبير سياسيا عن موقف لم يطمئن اليه بنو جهور بعد ان امتلك القاضي ابو الحزم ناصية الحكم واقصى الخلافة.
لقد جر على ابن زيدون هذا العشق للاميرة الاموية غضب صديقه ابي الوليد وكيد منافسه في العشق الوزير ابن عبدوس.
واطاح هذا الغرام (السياسي) بذي الوزارتين ابن زيدون وقاده الى السجن فضلا عن مأساته الوجدانية في الفراق المر وقد جعله يفيض رقة وحزنا وأسى:
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا
يقضي علينا الاسى لولا تأسينا
ولا نعرف الكثير عن انعكاسات السياسة على شعر ولادة فهي مضطهدة سياسيا رغم ما تحظى به من حرية شخصية تعدت حدود المقبول من امرأة في اوروبا فضلا عن كونها عربية مسلمة .. فقد كانت ولادة صاحبة اشهر صالون ادبي نسائي في اوروبا كلها وسيرتها مع ابن زيدون وابن عبدوس ، ومع وصيفتها مهجة اكثر جرأة واقتحاما من سيرة جورج صاند مع الفرددي موسيه .. واكثر امتاعا من سيرة الزا مع آراغون.
ولكن تاريخ الادب لم يحفظ لنا من شعرها الا بضع ابيات كتلك التي كانت توشي بها ثوبها مطرزة بالذهب :
انا والله اصلح للمعالي
وامشي مشيتي وأتيه تيها
امكن عاشقي من صحن خدي
واعطي قبلتي من يشتهيها
او كقولها لابن زيدون:
ترقب اذا جن الظلام زيارتي
فاني رأيت الليل اكتم للسر
ولئن كان اشياع فرويد واتباع منهج التحليل النفسي قد وجدوا في قصة ولادة وابن زيدون نماذج من الامراض السيكولوجية والجنسية من مثلية ولادة الى نرجسية ابن زيدون الى مازوخية ابن عبدوس فان الابعاد السياسية اكثر جلاء واشد سطوعا .. وكذلك كانت السياسة مقتل محمد بن عمار وزير المعتمد وصديق شبابه ويفاعته .. فقد قتله بالطبرزين بيده ثم كانت السياسة ذاتها مقتل المعتمد فقد استعان بيوسف بن تاشفين فأعانه ليصير الحكم اليه وقد حملت قصيدة المعتمد الحزينة الشفافة :
شيم الاولى انا منهم
والاصل تتبعه الفروع
كثيرا من اوجاع السياسة التي انتهجها حتى اطاحت بحكمه وجعلته يقضي بقية ايامه سجين (أغمات) وقد انهارت دولة الاندلس فيما بعد بسبب تلك السياسات الخاطئة وكانت اخر قصيدة سياسية هامة في ذاك العصر الذهبي هي قصيدة رثاء دولة وامة وتاريخ ابدعها ابو البقاء الرندي وهو يتأمل من منظار انساني كوني تغيرات الزمان وكيف تدول الدول:
لكل شيء اذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش انسان
هي الامور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته ازمان
وهذه الدار لا تبقي على احد
ولا يدوم على حال لها شان
والمفارقة اننا لن نجد بعد هذه القصيدة شعرا عربيا هاما في عصر الدول المتتابعة او ما يسميه بعضهم عصر الانحطاط .. فلم يرق صفي الدين الحلي او البوصيري وسواهما الى مستوى الشعراء العرب الكبار .. ولم تنجب تلك القرون التي تلت سقوط بغداد عبقريات الشعر العربي رغم الاحداث الكبيرة العاصفة كالحروب مع المغول ثم الحروب مع الفرنجة في الحملات الصليبية.
واحسب ان السر في هذا الغياب هو غياب العرب عن كرسي الحكم فقد استلم القيادة اقوام من غير العرب لا يعرفون بيان اللغة العربية ونصاعة ابداعها الشعري ولم يعد لدى الشعراء من يقدر شاعريتهم كي يتنافسوا في بلاطه.
اما كانت هذه مأساة المعتمد بن عباد مع يوسف بن تاشفين الذي لم يكن وهو المرابط الضخم على صلة بالشعر العربي؟
ينقل تاريخ الادب ان المعتمد ارسل قصيدة عذبة ليوسف يعبر له فيها عن اشواقه اليه في لغة شاعرية وجدانية فقال يوسف لمستشاره : اكتب له انني كذلك اشعر بوجع في رأسي شوقا اليه..
وهذا لا يغض من المكانة العالية ليوسف بن تاشفين الذي عبر العدوة ومكن العرب والمسلمين من حكم الاندلس قرونا اخرى وكانت انتصاراته ساحقة فقد نشر الاسلام في افريقيا ثم رسخه في اسبانيا.
ولكنه لم يكن على صلة بالشعر العربي وكذلك كان الظاهر بيبرس والمظفر قطز .. المنتصران في عين جالوت بل كذلك كان نجم الدين ايوب وشجرة الدر وبطل حطين صلاح الدين الايوبي وهم جميعا قادة الامة الاسلامية في العصور الوسيطة ولكن عدم احتفائهم بالشعر (الا ما ندر وبشكل رسمي) ابعد الشعر عن السياسة وعن الصدارة .. وهذا لا يعني غيابا كاملا ، ولكنه يعني ضعفا شديدا وانحدارا في الابداع يواكب ضعف العروبة في السياسة انذاك ..
وقد حل محل السياسة في الشعر العربي فن البديع .. فانشغل المقلدون بالطباق والجناس والمقابلة والكناية والاستعارة والتورية.
حتى وصلوا الى حال من الجمود يشبه الموت الابداعي وقد اعلن عن هذا الموت انهيار العروبة والمماليك معا امام القادم العثماني.
وحين احتلت اللغة التركية مركز الصدارة في السياسة الاسلامية على مدى قرون الدولة العثمانية تقهقر الشعر وغاب عن الساحة غيابا شبه مطلق حتى اخرج الله الحي من الميت حين دب الضعف في الامبراطورية العثمانية الضخمة وتنفس الصبح العربي بعد ليل داج ساكن دام قرونا وتحركت الحياة السياسية العربية فتحرك الشعر وجاء محمود سامي البارودي ليطوي صفحة القرون العجاف وليصل الشعر العربي في مطلع النهضة بجذره العباسي وهذا ما نرجو ان نتابع الطواف حوله في حديث قادم.
عذرا الى النادي العريق ابثه زفرات وجد قد ثوى بفؤادي
ياويح قلب وزعت أشواقه بين الحبيب وبين هذا النادي
مجدي خاشقجي
(42) الاغتراب في شعر محمد حسن فقي
كتب: محمد بن عبدالله السيف
لعل من ابرز الشعراء السعوديين الذين يشار اليهم بالبنان، عطاءً وانتاجاً ادبياً متدفقاً غير محدود، هذا الشاعر الذي اطل على تاريخنا الادبي المعاصر، فوقع فيه قصائد غراء مجنحة عن الظباء والضبي واليأس والامل!! هذا الشاعر القادم من الاماكن الشريفة، من ام القرى، قبل اكثر من 90 عاماً، ولا يزال متجاوزاً اعباء الثمانين الى الابداع والعطاء، حتى وان قال ذات مرة:
بعد الثمانين خبت جذوتي
وآدني السقم وطاب الرحيل!!
بعد الثمانين أبت صبوتي
الا انخساراً عن جبيني الاثيل!!
إنه شاعر الحجاز المعاصر محمد حسن فقي، الذي يشار اليه في قمة شعراء الوجدان السعوديين، غزارةًَ في الانتاج، سلاسةً في الاسلوب، جمالاً في صياغة المضامين الشعرية، وبوحاً متدفقاً في الانفعالات والاحاسيس، وقدرة فائقة على التصوير الابداعي عما يختلج بين جوانحه المرهفة من الافراح والاحزان، يتضح ذلك جلياً من خلال القاء نظرة على عطائه الشعري الذي استطاع ان يجاري فيه التصوير الابداعي للانفعالات والاحاسيس من خلال الرمزية التي سرعان ما يلحظها ويكشفها القارئ.
وبما ان الاغتراب في الشعر هو احد مظاهر الشعر الوجداني، وحيث ان شاعرنا الكبير قد ابدع واجاد في وجدانياته، فانه يمكن القول: إنه من اكثر الشعراء السعوديين اغتراباً في شعره، ولعل لطبيعة حياته والظروف التي عاش فيها اكبر الاثر في تشكيل هذا الاتجاه وتنميته لديه، اذ إنه فقد امه في طفولته المبكرة، الامر الذي فقد معه حنان الام وعطفها الكبير، فكان مغترباً في طفولته عن بقية اقرانه، ثم إنه رزىء في ميعة الصبا عندما فقد والده، الامر الذي جعله يشمر عن ساعد الجد ليعتمد على نفسه وينزل ميدان العمل والكفاح في شبابه المبكر طلباً للرزق، فكان ان اغترب عن حياة الشباب بكل مافيها من لذة ومتعة ورونق وبهاء!! ثم اغترب في حياته العملية، حيث تنقل في العديد من المدن ثم عمل سفيراً في خارج البلاد، لذا لاغرو ان طغى الاغتراب على شعره فكان له النصيب الاوفى من تعابيره واحاسيسه.
تبدأ غربة الشاعر عندما يعلن عن حيرته في هذه الحياة:
أتيت الى الدنيا وما كنت مختارا
ولو انني خيرت ما اخترتها دارا!!
فلو كنت لم أخلق لما كنت آثماً
ولا كنت مغروراً ولا كنت مهذارا
ولو انني لم آت كنت هباءةً
فلا تبتغي اهلاً ولا تبتغي دارا
ولا تبتغي المجد المؤثل رافعاً
مكانتها يشدو به الناس أشعارا
ولا تبتغي المال الذي يُسكر النهى
فما تجتوي خزياً ولا تجتوي عارا!!
وأنظره في قصيدته الشهيرة «عذاب الحيرة» عندما يهرب مغترباً عن نفسه وعن حياته، حتى وان تحقق له فيها كل ما يتمناه:
لم لست أقنع في الحياة بكل اوطار الحياة؟
لم حين تمنحني الهبات، اضيف ذرعاً بالهبات؟!
ويشوقني الحرمان ثم اضيق بالحرمان من كلفي بذاتي
ويحيى فما اشكو سوى اني اعيشُ بلا ثبات
وفي قصيدته «اشجان مغترب» يتساءل: هل سيعود الى صحبه بعد غربته الطويلة ام انه سيعود اليهم جثماناً:
لست ادري هل سوف أرجع للربع ام سيرجع الجثمان؟!!
ضاق صدري بما اعاني من السقم، وضج التفكير والوجدان!
ولقد شمت الكثيرون بالراحل عنهم وماله عنفوان!!
إن بعض الشمات مجد لمن راح وربح يجره الخسران!!
ثم إن غربة شاعرنا محمد حسن فقي لم تكن الا بحثاً عن الكمال البشري وعن المثل والقيم والمبادئ الفاضلة، انها غربة اسلامية ان صح التعبير:
كيف للحران يطيب له العيش ومن حوله جوىً وامتهان؟!!
فيه بزت حرائر الحي واستعلت عليهن في حمانا القيان!!
اشتهي اشتهي المنون اذا عز ذهابي به..وفيم الحران؟!!
ثم يتساءل بحرقة ومرارة عن متى سيعود من غربته الى من كان يصطفيهم وكانوا يصطفونه!!
يا إلهي متى أعود الى الربع
فقد هزت الحشا الاشجان؟!!
شفيَّ السقمُ واستبد الشوق
لمن كنت أصطفيهم وكانوا!!
والكيان الذي احب واهله
فنعم الهوى ونعم الكيان!!
هي روحي تهفو اليهم ويهفون
وعزَّ السلو والنسيان!!
ثم هو غريب في مجتمع لا يبادله مشاعره واحاسيسه المفرطة، حتى وان كان بينهم فانه ساهم الفكر تستبد الخيفة به، يقول:
يا ابنتي يا ابنتي ابوك غريب
وهو في داره بين لداته!!
جامد الحس والهموم تناغيه
وتقصيه عن لذيذ سباته
ساهم الفكر تستبد به الخيفة
من دربه ومن ظلماته!!
فهو يمشي به كئيباً فيعييه
ويدمي الكسول من خطواته!!
وهو يغترب روحياً، اذا ما دجا الليل البهيم وادلهم، يصعد زفراته الحرَّى الى السماء، ويجلو بناظريه الى اسرار الكون:
اني لأرنو للسماء
اذا ما دجا الليل البهيم
فأرى النجوم الوامضات
كأنهن عيون ريم!!
تطوي الظلام ولا تمن
فما اضل ولا اهيمْ
فأخر ساجداً ضارعاً
وأظل انشج بالبكاء
واقول يا ربي استطلتُ
وما انا الا هباءْ!!
واقول يا ربي اثمتُ
وظل صبحي والمساءُ
اني لاشعر بعدما
بينتَ لي الدرب السواءْ
اني نجوت فلا نكوصَ
ولا رجوع الى الوراء!!
ويقول عن غربة اليتم التي عاشها في طفولته على الرغم من كثرة عشيرته، الذين كان يخشاهم ويحذر منهم على نفسه، انها أبيات شاكية باكية:
كليل عشت بلا حب ولا امل
كالقفر عاش بلا ماء ولا شجر!!
انا اليتيم!! وما تحصى عشيرته
لكنني بينهم عود بلا وتر
يكاد يحسبني من ليس يعرفني
من التبلد تمثالاًَ من الحجر!!
المال والمجد اوهاق لمرتقب
وليس فوق اديم الارض من وطر!!
قد اغتربت بداري غير مؤتنس
بها وامسيت من اهلي على حذر!!
اهيم على وجهي فما أنا منتم
الى الروضتين مثل الآمنين ولا القفر!!
ويسلمني خوفي الى السهر تارةً
واخرى الى النوم المفزع بالشر!!
انها غربة بالفعل بدأت مع الشاعر منذ يوم ميلاده!! فهاهو الشاعر يهرب من واقعه الى غربة فكرية يطرح فيها ذلك التساؤل العريض الذي أشغل الكثيرين، عن قدره في الحياة ونصيبه منها، هل هو شقي ام سعيد؟!! انه تساؤل لا قدرة للعقل على تفسيره.
ويقول في نفس المعنى الحائر:
العوالي تحنُّ للاغوار
والدياجي تطيح بالانوار!!
فصباحي يطوي الخطى لرباحٍ
ومسائي يطوي الخطى لخسار!!
حيرتني نفسي فما اعرف
ما تحتويه من اسرار!!
الرشد تميل ام لضلال
ولنفع تميلُ ام لضرار؟!!
من صباي الغرير كنت اعاني
قلقاً من شذوذها وعثاري!!
وللهروب من واقع الشاعر المرير يتمنى شاعرنا المغترب فيما لو كان نجمةً!! او صخرةًَ!! او باذراً او مبضعاً او بلسماً او اي شيء آخر يخلصه من واقعه المرير:
ليتني كنت نجمةً
في سحيق من الرحاب!!
ليتني كنت صخرةً
ساخ في الارض جذرها!!
ليتني كنت باذراً
يبذر الحب والامل!!
ليتني كنت مبضعاً
يبتر الحقد والحسد!!
ليتني كنت بلسماً
فيه للموجع الشفاء!!
اما امنية الشاعر في غربته فهي العيش في روض كثيب مع الاليف الحبيب!!
لم اكن اشتهي سوى العيش في
الروض طليقاً مع الاليف الحبيب!!
وما كانت هذه الامنية الا بعد ان انكرته الجموع من الاهل والصحب، لذلك لم ير سوى الوحدة والاغتراب سبيلاً يطوي بها الدجى:
انكرتني الربوع والاهل والصحب
فما لي منهن غير البقايا!!
ثم امسيت لا اطيق سوى الوجدة
اطوي بها الدجى وضحايا
فأشاحوا عني بحق فما اشقى
وحيداً مطوَّقاً بالرزايا
اتراني اشتكيت ضعفاً من الوحدة
ام انني اشتكيت الدنايا؟!!
ربما كان في اغترابي عن الناس
رضوخ لسطوة من هوايا!!
او عزوف عن اللقاء؟ فكم
اخشى لقاءً من حاقد موتور!!
نالني منهم العذاب فما يعبأ
لبي بشائهات القشور!
ولقد عطعطوا عليَّ فقالوا
كيف يمشي في المنهج المهجور!؟
كيف نمشي في النور يهدي
ويمشي عاثراً في حولك الديجور؟!!
افمسٌّ بعقله؟ ام ضلالٌ
ام غرور يرمي به للثبور؟!!
ويله يترك الصبا ينعش
الروح ويهفو بطيشه للدبور!!
ويستطرد الشاعر واصفاً عالمه الاغترابي بأنه يعيش انساناً سوياً مسروراً، في فضاءات الغربة الرحبة:
يعلم الله انني اسلك الدرب
سوياً وأعتلي كالطيور!!
في فضاء رحب وما مسني
الايق ولا مسني به من فتور
في العشي المضمضات بأنسام
يذعذعن مهجتي والبكور!!
فلئن ساءهم عزوفي عن اللغو
واشقاهم الرشيد عبوري
فلقد سرني وهل يشتكي
المرء سبيلاً يفضي به للسرور؟!!
فدع الهجر يا فؤادي من
القول وسجل منه كريم السطور!!
ولقد عاش الشاعر في غربته حياة الطائر والغدير والزهر:
وانا اليوم كالغريب فقد كنت
غديراً وكنت طيراً وزهراً!!
وعقاباً يخافه الطير في الجو رهيباً
وكنت في القفر صخراً!!
اي عمر هذا؟! وهل كان خيراً
يشتهيه الانام ام كان شراً؟!!
وفي ملمح اغترابي لما يسمى ب«غربة الفلسفية الوجودية» يتساءل الشاعر عن ابناء مجتمعه الذين كان ينشد لهم النفع والتعامل بمثالية، تلك المثالية التي رسمها الشاعر فقي في مخيلته للتعامل فيها ومعها، الا انه فوجئ ان لا احد يعامله بتلك المثالية، كم هو قاس هذا المجتمع بحقه، انه بالفعل غريب!!:
اين ارواحكم فاني حزين
شد ما راعني الفراق المبين!!
اين أرواحكم سئمت من الوحدة
واشتقت ان تحييني المنون!!
انكرت حاضري ميولي وهزتني
لماضي رجفةٌ وحنين!!
وتلفت ارتجي نظرة الحب
فخابت مما ارتجيت الظنون!!
ان حولي من التملق والمكر
نطاقاً ترتد عنه العيون
كلما شئت ان ألوذ بأوهامي
لانسى ابى عليَّ اليقين!!
وبكل اسى، يصف الشاعر مجتمعه، وما فيه من الاحقاد المتأججة، فالطيور حائمة في الجو، يفتك بعضها ببعض، فهذا الذي كان في يوم من الأيام هزاراً يغني ويسعد ما حوله طرباً، انقلب الى صقر جارح، يطارد ويلاحق حتى إن الام لم تسلم من ملاحقته، التي سرعان مالاذت بأفراخها الى الوكر!!
انها حياة مريرة يترفع عنها صاحبنا الفيلسوف ليغترب:
احس بأني كنت في غابر الدهر
هزاراً يغني للثمار وللزهر
وعشت كذا حيناً من الدهر شادياً
ولكنني طوردتُ من جارح الطير!!
فخفت من الصقر المحلق ضارياً
فقلت: الا ليتني كنت كالصقر!!
فأمسيت صقراً يستبيح فرائساً
ويفتك بالمنقار منه وبالظفر!!
ولا ينثني حتى عن الام طوردتْ
فلاذت بأفراخ وزغبً الى الوكر!!
وأزعجني صوت الضمير فشدني
الى الحسن يهفو للحنان وللفكر
فحولني دهري وبورك صنعه من
الطير للوحش البريء من الوزر!!
فطاردني ليثٌ وذئب فأخفقا
ولم يخفقْ السهم المسدد للصدر!!
فاخطاني لكنني صرت راجفاً
ويا رب فتكٍ كان خيراً من الذعر!!
اخاف على نفسي وظئري فأنزوي
عن الناس حتى لو ترديت في بئر!!
وفي قصيدته «اطوار» يكرر المعنى نفسه فيقول:
تخيلت اني عشت من قبل حقبةً
وان حياتي واقع يتكرر
فقد كنت طيراً في الفضاء محلقاً
يفيء الى الف به العيش اخضر
حنونٍ فما تلقاه الا مغرداً
ومن حوله الاشجار تشذي وتثمرُ
ومرت سنون او قرون تصرمتْ
عليَّ وما ادري فإني مسيَّر!!
فاذا انا صقر في الفضاء محوم
له صولة مختالة تتبختر!!
يفتش في اجوائه عن فريسة
بلا رحمة ينقض ثم يسطر!!
اما الحب والغزل اللذين شغل بهما الشاعر العربي ردحا من الزمن، فإن شاعرنا الكبير يبلغ في غزله الوجداني مكانة قد لا يدانيه فيها احد من الشعراء، ففي غزلياته شيء من التسامي الروحي الذي تضافرت عوامل عدة على تشكيله، بعضها من نفسه وبعضها من بيئته الاسلامية، اذ ترفع الشاعر عن ادران الجسد ونزغاته، إلى ما فيه السمو والطهر، وكان دافع الشاعر اليه ما يحدثه الجمال في العقل والروح من لذة والم ومن نعيم وجحيم!!لقد اغترب شاعرنا في حبه، ناشداً من محبوبته الصد والهجران، راغباً الجفاء والهروب!! ليظل ملاحقاً لها وليكون بذلك مغترباً، واسمعه في هذه الصرخة يقول:
كرميني يا حلوتي كرَّم الله
نداك بالصد لا بالوصال!!
ان في الصدِّ حكمتي وانبعاثي
لقوافٍ تُعيي كبار الرجال!!
وارى فيه نشوتي وانصهاري
بعذابٍ يفضي لشُم العوالي
لذتي في العذاب هذا.. فكوني
لي عذاباً يقودني للمعالي!!
انه في اغترابه وملاحقته للريم الشرود الصدود يعيش في روضٍ خصيب تميس فيه الزهور!!
انا في الروض والغيارى من
الروض كثارٌ..جنادل وصخور!!
كيف اجزيك؟ كيف اطريك
يا هذي عساه يطيعني المقدور!!
طاب يومي وطاب امسي بما نلت
وطابت معابري والجسور!!
وشاعرنا في غربته يكثر من مناداة حبيبته، محاولاً بذلك ان يطرب الوجدان ويحركه، كما انه يكثر من صيغ الاستفهام والتساؤلات، ويتفنن في المناجاة والحوارات تفنناً يؤثر في النفس، حتى إنه يطلب من محبوبته ان تسأله عن اسباب غربته ودوافعها.
يقول:
اسأليني مالذي يجعلني
شبحاً حتى ارى الخلق هباء؟!
واسأليني مالذي يسعدني
وانا ابصرُ حولي السعداء؟
واسأليني عن دواعي عزلتي
افكانت جفوةً ام خيلاء؟
واذا اثرت ان لا تسألي
فدعيني اوثر الداء العياء!!
انا وحدي في اعتزالي ذائق
لذة الروح ابتعاداً واجتواء!!
والحديث يتسع ويتشعب فيما لو مضينا قدماً نقتفي اثر هذا الشاعر الكبير في غربته ووجدانيته، انه شاعر مبدع ونبع معطاء وطود شامخ، انما كانت هذه المقالة وقفة مع شيء من ابيات لاتزال تجد مكانتها في الذاكرة التي وجدناها اسيرة لعالم محمد حسن فقي، الرحب الواسع، فهل يغفر الشاعر الكبير هذا العبث؟!!
عذرا الى النادي العريق ابثه زفرات وجد قد ثوى بفؤادي
ياويح قلب وزعت أشواقه بين الحبيب وبين هذا النادي
مجدي خاشقجي
(44) من روائع الرثاء - 1
عبدالعزيز بن عبدالله السالم
الأدب فنون متنوعة وألوان متعددة في مناحي مختلفة، ومن فنونه البارزة التي لها حضور في الذهن وموضع في المجتمع فن الرثاء، وهو فن متداول في الأدب العربي: شعره ونثره في كل العهود وعلى امتداد الزمان، والرثاء الصادق نجده يتجسد في الكلمة المؤثرة والصورة الموحية والفكرة المعبّرة، وهو يرتبط بالموهبة الأصيلة والحسِ المرهف والوفاء الخالص، وله امتداده عبر مختلف العصور منذ العصر الجاهلي حتى عصرنا الحالي ويُعدُّ الرثاء من أصدق ما عبّر عنه الشعراء وأبدعه الكتّاب. لأنه في الغالب يصدر عن وجدان مفعم بالمشاعر النبيلة، وقلب مترع بالمحبة الخالصة التي لا يمازجها رغبة أو رهبة، وقد برع العرب في هذا الفن وأبدعوا فيه وارتقوا بفنه، وذلك لالتصاقه بشغاف النفس ولأنه ينبع من أعماق الفؤاد، ولذا كان له تأثيره ومدى انعكاسه على العاطفة، فهو يمثل لوعة موجعة وحسرة لاذعة لفراق حبيب أو فقد عزيز.
ومعلوم أن الفراق له وقع فاجع بين المحبين وهو يعكس مشاعر الحزن، ويكرس ألم الفراق هذا إذا كان الغائب حياً تُنتظر عودته فيتجدد نحوه الشوق بحسب طول غيابه ومسافة ابتعاده، ويظل الأمل معلقاً عليه والرجاءُ مرتبطاً به في تعليل للنفس بالآمال المرتجاة لهذه العودة القريبة، والصلة به موصولة على بُعده على أساس عودة منتظرة ورجعة مؤملة كما هو واقعنا في هذه الدنيا.. فكيف إذا كان الفراق أبدياً لا يُنتظر له إياب ولا يُؤمل بعده عودة؟ وذلك كما هو واقع الحال في رحيل مَنء ينتهي أجله ولا رجعة له من رحلته الأبدية إلى دنيا الناس.. لاشك أن الفاجعة حينئذٍ ستكون فادحة والحزن أعم وأشمل. لانقطاع الأمل وتلاشي الرجاء في أوبة الراحل وعودة الغائب، وهنا يتعمق الحزن فيهزّ كيان المحزون ولا يخفف لواعج الفراق ويهدّئ من توترات المحزون سوى الدموع التي يسفحها، والرثاء الذي يخفّفها إذا كان مستطيعاً لتوظيف موهبته في هذا الجانب من هذا الفن الرثائي، وعندما سئل أحد شعراء العرب: لماذا كان شعر المراثي أشرف الأشعار؟ أجاب لأننا نقول هذا الشعر وقلوبنا محترقة، وفي هذه الاجابة ما يؤكد بواعث الحزن على فراق الأحبة وأن الرثاء بمثابة البلسم الذي يخفف من شحنة الآلام للحزين، ولذلك نرى أن الذي يقوم بالرثاء شعراً أو نثراً يحس بشبه راحة نفسية عندما يعبّر عن مواجده ومواجعه بما يريح ذاته ويخفّف أحزانه ويأسو جراح قلبه، وبهذا الاحساس كان الرثاء في واقعه تعبيراً عن صدق الشعور كما هو في أغلب حالاته وأوسع مجالاته: ذلك أنه لم يعد للمجاملة موضع بعد حتمية الفراق، وذلك لغياب الأمل بانتقال المرثي إلى العالم الآخر وبُعد المسافة بين الحي والميت وانقطاع الصلة بينهما بشكل حتمي.
ومما لا ريب فيه أن لبعض شعر الرثاء أثراً كبيراً إذا كان صادراً من أعماق الشاعر صادقاً في صدوره عن وجدانه. لم يكن يطلب من ورائه جزاءً مادياً أو منصباً دنيوياً، وإنما هو مجرد تعبير واقعي عن حقائق معروفة عن المرثي ووفاء مغروس في نفسية الراثي، ومن ذلك القصيدة الفريدة لأبي بكر محمد بن أبي محمد القاسم المعروف بالأنباري: التي رثى بها صديقه محمد بن بقية وزير عز الدولة، فقد انفعل بالحدث حينما رآه مصلوباً من قبل عضد الدولة فكانت هذه القصيدة الرائعة والتي قد يكون صاحبها ممن اشتهر بالقصيدة الواحدة، ففيها تصوير لواقعة الصلب وتحويل المشهد المؤلم إلى علوٍ للمصلوب على عكس ما قُصد من اهانته بعد موته بصلبه، ونكتفي من هذه القصيدة المؤثرة ببعض أبيات منها لتحديد الدلالة على وفاء الشاعر ومكانة المصلوب:
علوٌ في الحياة وفي الممات
لحق تلك احدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا
وفود نَداك أيام الصِلات
كأنك قائم فيهم خطيبا
وكلهم قيام للصلاة
ولما ضاق بطن الأرض عن أن
يضم عُلاك من بعد الوفاة
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا
عن الأكفان ثوب السافيات
لعظمك في النفس بقيت تُرعى
بحفاظ وحراس ثقات
وتُوقد حولك النيران ليلاً
كذلك كنت أيام الحياة
في هذه القصيدة تجسيد رائع لمآثر المصلوب فقد حوّل الشاعر مَعَرَّة الصلب إلى مزية للمصلوب، وحين يصدر الشعر عن أصالة في الوفاء وصدق في المشاعر يكون له تأثيره البالغ وأثره الدائم الذي يبقى مع تكرار الأعوام ودورات العهود.. لقد اتخذ الشاعر من بشاعة الحدث مادة شعرية صنع منها فخاراً لبطله، فكان تصويره للصلب في ارتفاع المصلوب فوق صالبه: حسيّاً ومعنوياً مما أضفى عليه علواً في الممات كما كان كذلك دأبه في الحياة، وعلى هذا النمط العالي من المشاعر المرهفة وحشد الأمجاد الذاتيّة للمرثي: ما يجعل لبعض شعر الرثاء قيمة لصدوره عن وجدان مفعم بنزعة إنسانية صادقة، وقد انتشرت هذه القصيدة في الآفاق وحفظها الناس واستعادوا أبياتها واستنكروا عمل الصالب وأشادوا بمفاخر المصلوب. حتى ليقال: إنّ عضد الدولة الذي صلب الوزير محمد بن بقية ندم على ما فعل وتمنَى أنء لو كانت القصيدة قيلت فيه لينال العطف والإكبار والتمجيد الذي ناله خصمه المصلوب، وهكذا يكون تأثير الشعر الصادق الصادر عن أحاسيس مرهفة وشاعرية مؤهّلة لحشد المشاعر وتأجيج العواطف كما هو واقع حال صاحب هذه القصيدة.
* * *
وقد كان الرثاء في العصر الجاهلي يعتمد على التنويه بالمتوفَّى، وابراز الصفات والسجايا الطيبة التي يتحلَّى بها المرثي ويتحدث بها الراثي عنه، وهي تتجسد في الممارسات الفاضلة المستحبة التي كانت سائدة في المجتمع العربي منذ جاهليته كما هي متمثلة في مزايا كثيرة. كالشجاعة والسخاء وحماية المستجير وإكرام الضيف والوفاء وحفظ العهد والأمانة والصدق ورعاية الجوار، وما ينسحب على هذا المنوال من الأفعال والخصال الكريمة التي تدخل تحت مفهوم مكارم الأخلاق، وحين جاء الإسلام أتمها بمكارم أخرى - كما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق - فأضاف إليها الاستقامة والصلاح والتقوى والعدل والورع، وما يجري على هذا النسق من فضائل الأعمال وكرائم السجايا، ولذا نرى حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو شاعر مخضرم أدرك الجاهلية في شطر من عمره وعاش في الإسلام أكثر عمره: يرثي أبا بكر الصديق رضي الله عنه بهذه الخلال الحميدة التي تبناها الإسلام وأضاف إليها ودعا إلى ممارستها وعدّها من فضائل الأعمال وجميل المزايا، وفي هذا الصدد كتب استاذنا الدكتور شوقي ضيف عن رثاء حسان للخليفة الأول الصديق رضوان الله عليه: "أول خليفة للرسول صلى الله عليه وسلم هو أبوبكر الصديق الذي حمل لواء الدعوة الإسلامية من بعده وتناول مصابيحها، فأضاء بها شرقيَّ الجزيرة وغربيها: بلاد فارس والشام بعد أن لَم شتات العرب المبعثرة في الجزيرة، ودفعه دفعاً إلى الخارج، فتراموا كالموج، لا يحول بينهم وبين ما يريدون حائل، وكأنما ناولهم بيده الكريمة الكرة الأرضية ليزرعوا في أي مكان شاءوا الدعوة الإسلامية، ويَجنءوا لله ولأنفسهم ثمارها، وفيه يقول حسان مؤبناً:
إذا تذكرَّتَ شجواً من أخي ثقةٍ
فاذكر أخاك أبابكر بما فعلا
خَيءرَ البريَّة أتقاها وأعدَلها
بعد النبيٌ وأوفاها بما فعلا
الثاني اثنين والمحمود مشهدُه
وأوَّل الناس طرَّا صدَّق الرُّسلا
وكان حِبَّ رسول الله قد علموا
من البريَّة لم يعدل به رجلا
وحسان يتحدث في تأبينه لأبي بكر عن فضائله المعروفة عند المسلمين، إذ يعرض لمنزلته من الرسول، وكيف كان صاحَبه في الغار وفي الهجرة من مكة إلى المدينة، ويذكر أنه كان أول المصدقين به وبرسالته، ولذلك دُعي الصديق. وكل ذلك ذائع مستفيض عن أبي بكر. أما تقواه وزهده وصالح سعيه في الدين وإذلاله للدنيا وإعزازه للآخرة، فكل ذلك مشهور بالوجه الصحيح والشهادة الثابتة، وأما رفقه بالمسلمين وعدله بينهم وما شئت من سيرة زكية نقية طاهرة، فالأمة الإسلامية مُجمعة عليه والدلالة اليقينية قاطعة به. نضرَّ الله وجهه. وليس هناك ريب في أن تأبين حسان جديد في اللغة العربية، فهو لم يتحدث حديث الجاهليين عن موتاهم، وإنما تحدث حديث المسلمين، تحدث بسيرة لم تكن تعرف الجاهلية، فيها البر والعدل والتقوى والإسلام، وفيها الخير ومحبة الرسول وإيثاره على كل الأصحاب والأنصار، وبهذه الخلال والمناقب الجديدة كانت فاجعة الإسلام والمسلمين فيه"(1)
--------------------------
(1) كتاب: الرثاء للدك
عذرا الى النادي العريق ابثه زفرات وجد قد ثوى بفؤادي
ياويح قلب وزعت أشواقه بين الحبيب وبين هذا النادي
مجدي خاشقجي
الموجودون الآن
المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 49 زائراً