وجهه متقداً حمرة خجلاً و غضباً بسبب تسليمه المحاسبة و الحسابات للمرة الثانية لوجود أخطاء في تقريره الأول.
وضع التقرير على مكتب مديره و هم مسرعاً باتجاه الباب لولا استوقفه صوت مديره ضاحكاً متسائلاً: مابالك؟! هل تعرفت على فتاة جميلة سلبتك تركيزك؟ أم أنك تحب احداهن و هي لا
تشعر بك؟؟!!
أجاب بسرعة و بدون النظر في عيني مديره: لا، لم يحدث شيء من هذا..
فاستطرد مديره قائلاً: إذن لماذا هذا الكم من الأخطاء البسيطة المزعجة في الآونة الأخيرة؟؟!!
صمت هو برهةً و أضاف: أعرف بأنني أُكثر من الأخطاء السخيفة، و لكني لن أكررها بإذن الله ...
لم ينتظر إجابة أو ردة فعل مديره، أدار ظهره و مشى ..
عاد الى مكتبة لكرسيه، تنفس عميقاً و أمسك "الآلة الحاسبة" و أوشك أن يرميها أرضاً.. أن يحطمها .. يهشمها بشكل لا تعود أزرارها لاماكنها مجدداً أبداً. و قبل أن يفعل خاطبها لائماً.. لماذا هذا الخطأ ..لماذا؟! فنظر إليها و تذكر أنها آلة ... مجرد آلة و هو الذي من قام بالحسابات و هو من أخطأ. ترك الآلة و شرع بترتيب أوراقه.. نظر للساعة و قال: مضى نصف وقت العمل و بقي النصف الأخر... مع ذلك تأكد من احكام إغلاق خزنة النقود التي في عهدته و ذهب حاملاً "ورقة" باتجاه غرفة المدير و الضيق يملأ صدره متذكراً قول الشافعي:
و أرض الله واسعةٌ و لكن إذا نزل القضا ضاق الفضاء
وضع الورقة على مكتب مديره، و قرأ الأخير محتواها و وقع عليها دون أن ينبس بحرف معارضة، لكنه قال: هذه المرة الأولى التي تطلب فيها مغادرة منذ بداية عملك معي! و إذا رغبت أعطيتك إجازة ...
هم بالموافقة لكنه تذكر كيف يتحول إلى فريسةٍ سهلة مطيعة لوحوش أفكاره التي تهجم عليه بدون رأفة حين جلوسه مع نفسه!! فرد عليه محاولاً رسم ابتسامة شكرٍ و عرفان على ملامحه: أشكرك، مغادرة تكفي ...
ضحك في سره من جملته الأخيرة "مغادرة تكفي" أحقا مغادرة تكفي؟؟ يا ليتها كذلك...
أمسك دفتره و تأكد من وجود قلمه الأسود في جيب قميصه و نظر إلى الآلة الحاسبة القابعة على مكتبه... و غادر.
مشى في الشارع لم يُرد أن يذهب للبيت لأنه ان فعل سوف يجلس أمام التلفاز و عندها سوف يسمع أخبار وطنه وعدد شهدائه بل و ربما صورهم ... و عندها سوف تعاوده الحالة الهستيرية من كلامه مع نفسه و شتمه للتلفاز و كأن ما يراه و يسمعه من صنع التلفاز!! و بقي يمشي ما يقارب الساعة حتى أصبح بقرب مقهى و هنا قال: ما أحوجني إلى فنجانٍ قهوة ... دخل المقهى و جلس بمحاذاة النافذة و كان اختيار المكان سهلاً بسبب عدم الاكتظاظ وقت الظهيرة على عكس المساء .
رائحة القهوة جعلته يشعر ببعض الرضا، ففتح دفتره و تناول قلمه من جيب قميصة و كتب على رأس الصفحة في المنتصف "آيات الاخرس و أنا" .. ذِكر اسمها أرعد فرائصه فأغلق الدفتر بنفس السرعة التي هجمت عليه الأفكار من مجرد ذكر اسمها!!
فقال: آه يا "آيات" أيتها الطفلة العملاقة لكم أشْعرتني بأنني قزمٌ أمامك .. بل لا شيء يستحق الذكر، كم هو صعبٌ على المرئ ان يشعر بنفسه .. لا شيء...
أيعقل أن تزنر طفلة خصرها النحيل بالفتيل و القنابل من أجل وطنها و كرامتها و أقبع أنا خلف شاشة التلفاز؟؟؟!!!
"آيات" يا ليتك تُفهميني كيف استطعت و نحن "لا" ... لماذا نحن لا ...
أمسك فنجانه و ارتشف منه رشفة و بينما هو يرفع راسه لفت نظره وجود رجل في منتصف العمر يضع امامه ورقة و يكتب عليها، بالاضافة إلى تلك الآلة اللعينة المسماه ب "الآلة الحاسبة" أخذ يمعن النظر للرجل، فهو يكتب، و يشطب بعدها ما كان قد كتب ... يعاود الضرب على الآلة الحاسبة و يكتب و يعيد يشطب ما كتب ...
بعد لحظات قليلة فهم ماذا يفعل ذاك المسكين حين مد يده لجيبه و أخرج مغلفاً صغيراً ... أمسكه بعناية و فتحه بعناية و اخرج منه وريقات نقدية قليلة... فهم من هذا ان الرجل البسيط يوزع دخله البسيط على متطلبات الحياة الكثيرة...
ابتسم ابتسامة اشفاق و قال : نعم يا "آيات" هذه احدى الاسباب التي تجعلنا لا نستطيع "خوفنا على لقمة عيش أبنائنا".
منظر ذاك الرجل شغله كثيراً فالمسكين ما اكثر ما كتب و ما اكثر ما شطب ما كان قد كتبه و الاكثر من هذا و ذاك استخدامه و نظره للآلة الحاسبة. لا يدري لماذا أحب أن ينظر ل "الآلة الحاسبة" فهذا الرجل ينظر إليها بطريقة غريبة جعلته يتمنى ان يمسكها بين يديه و يمرر عينه عليها, حينها تذكر وجود واحدة صغيره في جيبه، فاستخرجها بسرعة و نظر الى أرقامها و قال: حياتنا كلها أرقام، و أحداث حياتنا كلها أرقام أيضاً.. فها هي نكبة الثامن و الاربعين و ما لحقها من هجرة بعض أهل البلاد و بداية نكبتنا...
تلتها نكسة السابع و الستين فذهبت باقي الأرض و تشتت أكثر الشعب.. و ليس هذا و حسب بل ذهبت أيضا سيناء و الجولان!!!
و في السابع و الثمانين بدأت انتفاضة الأقصى المباركة الاولى و التي استمرت ما يقارب التسع سنوات...
و بعدها ... الثالث و التسعين ... ظهر لنا ما عرف ب "اتفاقية اوسلو" التي عاش بسببها الشعب بخدعة و كذبة اسمها "السلام" ...
و في بداية الالفية الثالثة ثار الشعب مجددا بانتفاضته الثانية و المستمرة لغاية الان .. سنة و نصف و الشعب يموت من قصف الطائرات و قذائف الدبابات... المحاصييل تجرف من أراضيها .. المدارس و الجامعات خالية من طلابها...
نظر مجددا ل "الآلة الحاسبة" و رأى العمليات الحسابية من جمعٍٍ و طرحٍ و ضربٍ و قسمة ... و قال : أيها العرب تتقسمون إلى دويلات .. و لا تجتمعون على رأي .. بل تتفرقون لاتفه الأسباب و ربما تتضاربون ... و الغريب أنكم تجتمعون لتجمعوا على ألا تضربوا عدوكم !!!
ضحك حزناً و استهزاءً و أكمل : أقسم بأن هذه الأمة مصابة ب "لعنة" اسمها "الارقام و عملياتها"....
اختكم بسمة
31/3/2002
لعنة الارقام ... ((قصة قصيرة))
لعنة الارقام ... ((قصة قصيرة))
مجلة أقلام الثقافية www.aklaam.com
الموجودون الآن
المستخدمون الذين يتصفحون المنتدى الآن: لا يوجد أعضاء مسجلين متصلين و 57 زائراً